السَّرديَّةُ الفِلَسْطِيْنِيَّةُ والمُثَقَّفُ العُضْوِيُّ الإنْسَانْ

مشاركة
* عبد الرَّحمن بسيسو 11:11 م، 02 يناير 2022

يُفْصِحُ الاطلاعُ المُعَمَّق على المتن الروائيِّ الفلسطينيِّ الذي يُغطي ما يُناهِزُ قرناً من الزَّمن؛ من العام 1885 حتَّى نِهايَة العام 1980، عَنْ خَلاصَاتٍ رُؤْيَويَّة وجماليَّةٍ مُتواشِجَةٍ، وعنْ إمكانيَّة بلورةِ فَرْضِيَّاتٍ قَابِلَةٍ للتَّأصيل عبر مزيد من التَّحليلِ النَّصيِّ، والتَّبَصُّر النَّقديِّ، المُوَسَّعَيْنِ: رُؤْيَويَّاً وجَماليَّاً.

وفي نِطاق صِراعِ السَّرديّتين: الفلسطينيَّة الحقيقيَّة، والصُّهيونيَّة الزَّائِفةِ، الذي يَتوخَّى هذا المقالُ كشفَ مُؤَسِّساتِه وإضاءَةَ أبرز جَوانبِه المُتجَلِّيَة في الأعَمِّ الأغلبِ من الرِّواياتِ الفلسطينيَّة التي يشتملها المتن الروائيُّ الفلسطيني المُشار إليه؛ فَإنَّنا لنستَطيعُ الخُلوصَ إلى حقيقية مُؤَدَّاها أنَّ هذه الروايات قَدْ تَمكَّنت من تشخيص ملامحَ أساسيَّة، ومُكَوِّنات رئيسة، من ملامح السَّرديَّة الفلسطينيَّة الحضاريَّة التَّاريخيَّة الإنسانيَّة الكُبرى ومكوِّناتها، تشخيصاً إبداعيَّاً جماليَّاً مُتعدِّد المداخل ومُتَفَاوت المُسْتَويات. وذلك من مَنْظُورٍ إبداعيٍّ يُواكبُ الرَّؤْيَويَّ والجَمَاليَّ على نَحوٍ تَفاعُليِّ مُتَواشِجٍ، ومَحْكومٍ، طَوالَ الوقْتِ، بمنهجٍ تبَصُّريٍّ، رَصينٍ ومُتَماسكٍ، هو المَنْهَجُ الجَدَليُّ المُؤصَّلُ من كُلِّ منظورٍ عقليٍّ سويٍّ، وَمِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ منطقيَّةٍ رصيْنَةٍ.

ولَئن عَمِدَتِ الرِّواياتُ الموسومَةُ بالتلاحُمِ الرُّؤيوي الجماليِّ، والتَّي أحْسَبُ أنَّها قد صَارتْ تُشكِّلُ ما يُمكِنُ اعتباره "كلاسيكياتِ الرِّواية الفلسطينيَّة" ويُنبُوعَ تَدفُّقُها الإبداعيِّ، إلى استلهام الأساطير، والسِّير السَّعبيَّة، والحكاياتِ التَّاريخيَّة، وحكايات البُطُولة، وغيرها من أنواع المأثورات الشَّعبيَّة الفلسطينيَّة على تَعدُّد أشكالها وأنماطها، لتوظيفها في إقامة البناء الفنِّي للرِّواية الفلسطينيَّة، وبلورة أشكالٍ روائيَّة توائمُ التَّجارب الحَيَّة التي تَقُولُها هذه الرِّوَايَة، فَإنَّها قَدْ تَصدَّت لمُعالَجَة الواقِع السَّوداويِّ القائم وتشْخيصه ونقده، عَبْرَ تحليل الشُّروط التي كان لها أنْ تحكمه، وتشخيص أنواع الاستجابات المتباينَة لهذه الشُّروطِ على نحو يكشفُ جُذورَها وامتداداتها، ويُجَلِّي مُمْكِنَات تغييرِها، ومقتضيات تفعيلِ هذه الممكناتِ، وتوجيهها بما يستجيبُ لمُكوِّنات الرؤية المُستقبلَّية الفلسطينيَّة، ويُحَقِقُ غاياتها الوطنيَّة والإنسانيَّة النَّبيلة.

وقد كانَ لتعدُّد الأزمنة والأمكنة الرِّوائيَّة المُتَسَاوقة مع أزمنة الأحداثِ والسَّردِ وأماكنهما، أو المفتوحة، أَحْيَاناً، على أزمنة تاريخيَّة أعمق غَوْراً وأشد حُضُوراً وتأثيراً، وعلى أمكنة متشعِّبة الأحياز والامتدادات بقدر تشعُّب أحياز وجود الشَّعب الفلسطيني في وطنه، أو في أماكن لُجُوئِهِ القسريِّ ومنافي الشَّتات، وتعدُّدِهَا، أنْ يفتح الرِّوايات على بعضها بعضاً ليُؤسِّس إِمكانيَّةَ التَّعامل معها كنصٍّ واحدٍ موسومٍ بالتَّداخل والتَّفاعُل والتَّكامل ولا سيِّما من جهة إسهامِه في قول السَّرديَّة الفلسطينيَّة الكُبرى من منظور تجارب حيواتٍ فرديَّة وجمعيَّة، مأساويِّةٍ وباسلة في آنٍ معاً، خاضتها شخصيَّات روائيةٌ تُمَرئي تَجارِبَ شخصيِّاتٍ فلسطينيَّة حقيقيَّة عاشت في الماضي، وتحيا في الحَاضر، ولا تكفُّ عن السَّعي اللَّاهب لإدراك مُستقبلٍ وطنيٍّ وإنسانيٍّ موسومٍ بالحريَّة والكرامة الإنسانيَّة، وبالتَّحقُّق الوُجُودِيِّ المُتَجلِّي، واقعاً مُتَعيَّناً، في رحابِ فلسطينَ: الأرض، والوطنِ، والمجالِ الحياتيِّ الوجوديِّ الحيويِّ الوحِيْدِ لشعبِ فلسطين. 

ولَمْ يَكُنْ لإعمال المنهج الجدلي في فهم التُّراث الشَّعبيِّ الفلسطينيِّ وتحليله ونقده، كمدخل ضروري لاستلهامه وتوظيفه في البناء الفني والفكري للأعم الأغلب من الروايات التي تضمَّنها المتنُ الروائيُّ على مدى يُناهِزُ القَرنَ، أنْ يتيحَ إمكانيَّةً واسعةً وثريَّةً لتوضيح الدَّور الذي لعبه "الوعيُّ الجَمْعيُّ الزَّائف والعَاجز" في تمديد أزمنة الاحتلال الأجنبي والاستغلال الطَّبقي التي وسمت تاريخ فلسطين لقرون متتابعةٍ عديدة، فحسب، وإنِّمَا أَتَاحَ، إضافةً إلى إمكانياتٍ جماليَّةٍ وفكريَّةٍ عديدةٍ ومُتَنَوِّعةٍ، وعَبْرَ استمرارِ إخْضَاعِ السَّرديَّة الصُّهيونيَّة للنَّقْدِ الجَذْريِّ، والتَّفكيكِ المُتَقَصِّي، والدَّحضِ الحَاسِم، إمكانيَّةَ الرَّبطِ التَّفاعُليِّ، المُباشر وغير المُباشر، المرئيِّ وغير المرئيِّ، المُدْرَكِ وغير المُدرك، بين دوريِّ الوعيِّ الظَّلاميِّ الزَّائفِ على طَرفيِّ الصِّراع: الغَازي المُعْتَدِي المُسَّلَّح بسرديَّة زائِفَةٍ، وسيْفٍ جَحيْميٍّ، والمَغْزوِّ المُعْتَدَى عَلَيْهِ والمسكون وجدُانهُ الكُلِّيُّ بسَرديَّةٍ حضاريَّةٍ تاريخيَّةٍ حقيقيَّةٍ لا تَقبلُ التَّشْكِيْكَ والدَّحضِ؛ المُسْتَبِدِ والمُسْتَبَدِّ به؛ المُسَتَغِلِّ والمُسْتَغَل؛ الجلَّادِ والضَّحيَّةِ، وذلك لجهة قُدْرةِ هذا الوعْيِ على تَعْديم عُقُول الكائنات البشريَّة المُستَهدَفةِ به، ونزعِ ممكناتِ سَعْيِها لالتقاطِ بِذْرةِ إنسانيَّتها عنها، وتحويلها إلى محض أدواتٍ أو وسائلَ؛ أي إلى محض "أحطاب محارقَ دائِمة الاشتعال" لتحقيق غايات صُنَّاعِ هذا الوعيِّ ومُروِّجيه، والعاملين، طيلة الوقت، على تكريس حُضُوره وترسيخه، وتحفيـز التَّمادي في إظهار تَجسُّداتِه المتعيَّنة في السُّلوكِ الخالي من إعمال العقل،والمُحفَّزِ بالاستجاباتِ الوحشيَّة غير الإنسانيَّة من جِهَةِ المُعْتَدِي، أو بالاستجاباتِ الإِذْعَانيَّة الرَّخوةِ مِنْ جِهَة المُعْتَدَى علَيْه، على ما يُمليْه الوعيُّ الظَّلاميُّ الزَّائِفُ من جِهَةٍ، والواقِعُ المأساويُّ النَّاجِمِ عَنْهُ من جِهَةٍ ثانيَةٍ، من تحدياتٍ حياتيَّةٍ ووجوديَّةٍ تُسَائِلُ الكائنَ البَشَريَّ عَنْ مَعنى إنْسَانيَّتِهِ عَبْرَ مًساءَلَتِهَا وعْيَه عَنْ حقيقته!

هكذا، وفق ما بيَّنت رواياتٌ فلسطينيَّةٌ عديدةٌ اعتمدت طرائق تشخيصيَّة، وأساليب سرديِة، وصياغات جماليَّة، مُتَغَايرة، يلتقي"الوعيُّ القدريُّ الإذعانيِّ الزَّائف والعَاجز" الذي هَيمنَ على أغلبيَّة الشَّعب الفلسطيني التي اسْتُهدِفَتْ بالتَّجهيل لآمادٍ من قُرونٍ ظلامٍ احتلاليِّ متوالية، فَوَفَّرَ التُّربة الملائمة لنجاح المشروع الرَّأسمالي الاستعماريِّ الصُّهيوني في "غَرْسِ إسرائيل" في أرض فلسطين، مع "الوعيِّ الأسْطوري الظَّلامي المُسَيَّس والمُؤَدْلج" الذي اسْتَهْدَفَتْ به الحَركَةُ الصُّهيونيَّة والقوى الرأسماليَّة الاستعماريَّةُ الغربيَّةُ التي أنشأتها وَوظَّفتها، يَهودَ العالم وغيرهم من النَّاسِ، فَضّلَّلتهم، وأخضعتهم، ونزعتْ مُمْكِناتِ التقاطِهِم بِذْرةَ إنسانيَّتَهُم عَنْهُم، إذْ اسْتَغَلَّت مآسيهم، وعَزَّزت سذاجة وعيهم، وسطحيَّته، وغَيْبيَّتِه، وانغلاقهِ، لِتُحَوِّلهم من "ضَحَايا" مُفْتَرَضِيْنَ إلى "جلادين" حقيقيِّنَ؛ أي إلى محض وسائل وأدواتٍ؛ أي إلى محضِ كائنات بشريَّة "مُحَوْسَلة" يجري توظيفها لتحقيق المشروع الاستعماري الصُّهيوني الاستيطاني في فلسطين، بنهمه الجشِع وشراسته وتوحُّشهِ، وبجميع غاياته، وعقابيله، وامتداداته، وأبعاده.

وكأنَّما الأمرُ، في حقيقتِه، صَراعٌ بين جُهَلاءَ مَأْفُونينَ سَواءٌ أَكانُوا، من جِهَة قُطْبِ المُعْتَدِينِ، أكانوا "ضَـحَايا"، أو مشاريع ضَحَايا، حُوِّلوا، بقدرة الصُّهيونيَّة وصُنَّاعِهِا وداعِميْهَا، إلى جلَّادين، أمْ كانوا، من جهة قُطْب المُعْتَدَى عليهم، جُهَلاءَ طَيِّبيْنَ عُمِّقت على مدى قُرُونٍ مِنَ الاستبداد المقرون بالتَّجهيلِ المُتَعَمَّدِ، مكوناتُ الوعيِّ القَدري الاستسلامي الرَّاضي في عُقُولهم الغَافية وضَمائِرهم الطَّيْبَة، فَما احتاج الأَوَّلون، أي الضَّـحايا المُحَوْسَلِيْنَ من اليهودِ وغير اليهودِ الذين صُيِّروا وُحُوْشَاً بشريَّة وجلَّادين، إلى كثيـرٍ وقتٍ وجَهَدٍ لِتَحْوِيلِ الفلسطينيينَ، المُعتَدى عليهم، إلى "ضَـحَايا" مقذوفينَ خارجَ مساحات الحَيَاةِ ومدارات الوجود، سواء في وطِنِهم المسروقِ، أو في منافي الشَّتَاتِ التي سَتَتَولَّى إفْقارَ حياتِهم، وتَأجيل وُجودِهم!

وتأسيساً على ذلكَ، وفي ضوء تَمَكُّن روايات فلسطينيَّة عديدة من تشخيص مسألة التَّـرابط التَّفاعُليِّ الوثيق بين دوريِّ الوعي الزَّائف عبـر تَجَلِّياتٍ تشخيصيَّة مُتَنَوِّعة لكلا الدَّورين المُتصَاحبين على جانبيِّ الصِّراع، فإنَّ "إسرائيلَ" لا تعدو أن تكون إلَّا نتاجَ تَوظيفٍ محمومٍ لِوعْيٍ ظَلاميٍّ زائفٍ يَقُومُ على تسيس أساطير سوداء مُغَطَّاة بلاهوتٍ عُنْصريٍّ استعماريٍّ مُؤدلج، وذلك من جهةٍ تَتَعَلَّقُ بالغُزاة المُعْتَدين المُستَهْدَفِيْنَ به، وعلى وعيٍّ نقيضٍ لهذا الوعيِّ الظَّلاميِّ الزَّائف، لكونه يرفُضُ، عن حَقٍّ، الفكرةَ الرئيسيَّةَ المُؤسِّسةَ ظَلاميِّةَ الوعيِّ الزَّائِفِ الأوَّل وعُنصريَّتهُ، وتوحُّشهُ، ولا إنسانيَّتِهِ، وتمامَ بُطْلانه. غَيْـر أنَّ هذا الوعي النَّقيض، الآتي من جهة المُعْتَدى عليهم المستهدفين بتكريس وجوده في عقولهم المؤجلة الوجود، وعيٌّ زائفٌ أَيْضَاً، وما ذلك إلَّا لأنَّهُ يتأسَّسُ على قدرٍ عالٍّ من القَدريِّة، والإذعان، والتَّكيُّف الرَّاضي، والانتظار المهيض لِمُنْقِذٍ، أو مُخلِّصٍ، يهبطُ من فضاءٍ بلا هُويَّة، أو يَصْعَدُ منْ أغوارِ جَحيمٍ بِلا قَاعْ.

فما القَدريِّةُ، والإذعانُ، والتَّكيُّفُ الرَّاضي، والانتظار المهيض، والتَّقَاعُس عنْ إطلاق المُقاوَمَةِ التَّحَرُّرِيَّة الإنسانيَّة الباسلِة: فلسطينيَّاً، وعربيَّاً، وإِنسانيَّاً، إلَّا بعضٌ من الخَصائص والمُكوِّنات الأساسيَّة الَّتي تُشَكِّلُ وعياً زائفاً مُفْعَماً بِعَمَاءٍ يُغَيِّب الِإنْسانَ ويُلْغي الحَاجة إلى إِعْمَالِ العَقْلِ، ويُبَخِّسُ قيمة اعتماد الفعل الإنسانيِّ الجَمْعيِّ الخلَّاق، المُتَضَافرِ والمُتكامل، في مواجهة الغزوة الصَّهيونيَّة العنصُرِيَّة الاستعماريَّة التَّوَحُّشِيَّة التي أَسْفَرت عن غَرْسِ هاتِه المُسَمَّاة: "إسرائيل" خليَّةً سَرطانيَّةً في "فِلَسْطين"، وعن اسَتمرار رفَدِهَا من قِبَلِ غارسيْهَا بِكُلِّ ما يستبقي جَمَراتِهَا الخبيثَةِ مُحفَّزةً طيلة الوقت، وبطرائقَ وأساليبَ مَحْمُومَةٍ وعبر وسطاءَ محلِّيين ووكلاء عالميينَ عديدين، على تكريس حُضُورِ هذا الوعيِّ الزَّائفِ، وتعزيز رُسُوخه، ليس في أوساط الشَّعْب الفِلَسْطيني الذي تمَّ الإستيلاءُ على أرضه، وتشريده، وتحويله إلى "لاجئين" حتَّى في موطنهم الأصليِّ ، فَحَسْبِ، وإنِّمَا قبْلَ ذلِكَ، وأثناءَه وبَعْدَهُ، لدي يَهود العالم المُحَوْسَلِيْنَ، والجَاريَةُ عملياتُ حَوسَلَتُهم باستمرارٍ، ومِنْ ثَمَّ لدى الشُّعُوب العربيَّة، وغيـر العربيَّة، المُستهدفَةِ، طوالَ الوقْتِ، بالتَّبخيسِ العُنصُريِّ ومُخَطَّطَاتِ الهيمَنَةِ، وبالغزو الاسْتِعِماريِّ، والاجتياحِ العُدوانيِّ، الصُّهْيُونِييَن، السَّافِرِينِ، أو المُقَنَّعَيْنِ، لِبلادِهِا. 

فهل ثمَّة من سَبيلٍ حقيقيٍّ لإدراكِ خَلاصٍ حقيقيٍّ يتأسَّسُ على الحريَّة، والكرامة، والحَقِّ، والعَدلِ، والمساواة، وكُلِّ القيم والمبادئ التي تتقاسمها الإنسانيَّةُ الحَقَّةُ؟!

هَلْ ثَمَّة مِنْ سبيلٍ حقيقيٍّ يُمْكِنُ لأبوابِهِ المُغْلَقَةِ أنْ تُفْتَحَ لإدراكِ خلاصٍ حقيقيٍّ من كَوابيس الصُّهونيَّةِ الاستعماريَّة العالميَّة وجَحيْمِهَا العُنْصُريِّ المتفاقِمِ، إنْ أغْفَلَ السَّاعُونَ إلى اكتشافِهِ وعُبُورِهِ حقيقةَ رُسُوخ مُكوِّنات السَّرديَّة الفِلَسْطِيْنيَّة في وقَائع التَّاريخ الحَضَاريِّ الإنسانيِّ، وفي التَّجارب الفِلَسْطِيْنيَّة الحياتيَّة والوجودِيَّة المُتجلِّية في فلسطينَ في ماضي الزَّمانِ وراهِنِه؟!

وهَلْ ثَمَّة من سبيلٍ حقيقيٍّ يُمكِنُ عُبُورهُ، لإدراكِ هذا الخلاصِ بِمَعْزلٍ عن إغلاق مَسَارب الجَهْل المُدْقِعِ، وتجفيف مُستنقعات الوعيِّ الظَّلاميِّ الزَّائفِ، واستئصال جُذُورِهِمَا الضَّاربة عميقاً في أعماق جانبيِّ الصِّراعِ المُهْلِكِ بيْنَ جَلَّادين مُحَوسلينَ قِيْلَ إنَّهم كَانُوا ضَحايا، وضَحَايا اسْتُلِبَ وعْيْهُم الإنسانيُّ الحقيقيُّ، وأُسْكِنوا أقْبِيَة الوعْيِ الزَّائِفِ، لِيتَكَلَّسُوا في دياميسِها على حَوائط انتظارٍ مهيضٍ لِمُنْقِذٍ لا يَجيء؟!

وهل للضَّحايا من كِلَا الجَانبين، أنْ تَنْفَتِحَ على بعضها بعضاً لِتَنْهَضَ بإنهاضِ وعْيٍ إنْسَانيٍّ حقيقيٍّ يُمَكِّنها من إغلاق أبواب هذا الصِّراع الجحيميِّ الدَّامي إِذْ يُحفِّزُ السَّعيَ إلى تخطِّي التَّضْلِيْلِ الصُّهيوني وتَرْك الصُّهيونيَّة تتفكَّك من داخلها، وتَلْقَى مصيرها في أُتْنِ أقبيتها المُعْتِمة، بِقَدْرِ ما يُحَفِّزُ تصعيد المقاومةِ الفلسطينيَّة والإنسانيِّةِ الباسِلِةِ، والشَّاملِةِ شَتَّى حقول الأنشطة الإنسانيَّة ومجالاتهَا، للوحشِ الصُّهيونيِّ العُنْصريِّ الغارسِ مخالبَ أذرُعِهِ المُتكاثِره في جسدِ العالم، وفي عُيُونِ إبصاره، وَفي وشَائج ضَميره، وفي رِحابِ عَقْلِه، لِيُعْمِيَ، بالوعيِّ التَّضليلي العُنْصُريِّ الاستحواذيِّ الأسودِ، بَصِيْرَتَه؟!

ليسَ لِخَلاصِ حقيقيِّ أنْ تُعْرفَ طبيعته، وأن تُدْركَ مُكوِّناتهُ، وأنْ تُطرقَ أبوابهُ لِتُفْتَحَ، بمعزل عن جَهْدٍ تَوعَويٍّ تأسيسيٍّ مُثَابر، ودورٍ مجتمعيٍّ، وطنيٍّ وإنسانيٍّ، نَشِطٍ وفعَّالٍ، ينهضُ به "المُثّقَّفُ العُضْويُّ الفِلَسْطِينيُّ الإنْسَانيُّ الجَمْعيُّ" المِتَفَاعِلُ، طِوالَ الوقْتِ، مَع أقرانِه ونُظرائِهِ من المُثَقَّفينَ الإنسانيينَ من جميعِ الثَّقافَاتِ، ومن شَتَّى الأوطَانِ والأُروض، لِيُنْهِضَا مَعاً، من أَعْمَاِق كينونتهمَا الإنسانيَّة الْملْتَحِمَة،  في وِجدانِهِم الجَمْعِيِّ الكُلِّيِّ، وفي وِجدانات مِنْ ينتمون، عُضْوِيَّاً، إليهم من النَّاس، وَعْياً إنسانيَّاً حقيقيَّاً قائماً على إعمال العقل في تشخيص الواقع العالميِّ القائم، وتحليله، وإدراك حقائقه، وتعرُّف قُواهُ الظَّاهره والكامنة، وتَوقُّع مُمْكناتِ تحوُّلاته، واستشراف مآلاته المُمْكِنَة في شَتَّى الأحوال، وذلك على نحوٍ يُؤسِّسُ لبلورةِ رؤية تحرُّريَّة مُستقبليَّةٍ وطَنِيَّةٍ فِلَسْطِينيَّةٍ، إنسانيَّةٍ شَامِلَةٍ، جَمْعِيَّةٍ مُتَكاملةٍ وجامعةٍ، ويَكُونُ لإكمالِ بلورتِها، عبْرَ التَّفاعُلِ الحواريِّ الخَلَّاقِ بين المُثَقَّفينَ العُضْويين الجمعيِّينَ الإنسانييَّنَ من كُلِّ الثَّقافات والأوطان، أنْ يُرَسّـِخَ اعتناقَها، وأنْ يُعَزِّز الالتفافَ حولهَا ومُناصَرَتِهَا، وأنْ يَفْتَحَ أَنْجَعَ السُّبُلَ وأَوسَعِهَا لإطلاقِ حَرَاكٍ إنسانيٍّ جَمْعيٍّ تَغيـيريٍّ، شَامِلٍ ودؤوبٍ ومُثَابرٍ، ولا يَتَوقَّفُ عن الخَطْوِ المُتصاعِدِ حَّتى يَتمَكَّنَ مِنْ جَعْلِ هذه الرؤية المُستقبليَّة واقعاً في وَاقعٍ فلسطينيٍّ وإنسانيٍّ مُستقبليٍّ مَنْشُودٍ وقابلٍ للوجُودِ، ومُنْفَتِحٍ على مداراتِ الحريَّة الإنسانيَّة، ومُسْتَقبَل الوجُود.

وللتَّبَصُّرِ في ماهيَّة "المُثَقَّفِ العُضْوِيِّ الإنسانيِّ الجَمْعيِّ"، وفي مُكَوِّناتِ هُوِيَّتِه، وفي دوره التَّغْييريِّ، وتجلِّياتِ سُلُوكِهِ، أكْثَرُ من مَقَامٍ تَأمُّليٍّ، ومَقَالْ.

* كاتب فلسطيني

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"