البنك العربي يزيل الوطن العربي من شعاره!

مشاركة
حياة واشنطن-مقالات 04:19 م، 19 فبراير 2025

واشنطن - شريف عثمان

عملت في البنك العربي لأكثر من عقد ونصف (تحديداً 16 سنة و8 شهور و 8أيام)، وعرفت فيه أناساً لا مثيل لهم في أخلاقهم وإخلاصهم في العمل، وأدين للبنك ولهؤلاء بالكثير.

ولد عبد الحميد شومان، الجد المؤسس للبنك العربي، في قرية بيت حنينا بالقرب من القدس عام 1888، حيث نشأ في عائلة متواضعة، ولكن طموحه كان كبيراً منذ صغره. وفي عام 1911، وكان في بداية شبابه، قرر شومان السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بحثاً عن فرص أفضل، حيث كانت أمريكا في ذلك الوقت مقصداً للكثيرين ممن يسعون لتحقيق أحلامهم، فأخذ من والدته مائتي دولار اشترى بها تذكرة الباخرة، وأبحر باتجاه الأراضي الأمريكية لأول مرة في حياته.

هناك، بدأ شومان العمل في تجارة المنسوجات، حيث كان يقوم بشراء الأقمشة والمنسوجات من الشرق الأوسط، وخاصة من فلسطين وسوريا، ليبيعها في السوق الأمريكية. وكانت هذه التجارة ناجحة، حيث استطاع شومان أن يبني سمعة طيبة في السوق الأمريكية بفضل جودة المنتجات التي كان يستوردها، وأيضاً لحنكته في إدارة الأعمال.

وبعد سنوات من العمل الناجح في أمريكا، وتحديداً في عام 1929، قرر عبد الحميد شومان العودة إلى الوطن العربي، حاملاً معه خبرة واسعة في مجال التجارة والاقتصاد. كانت فلســطين في ذلك الوقت تعاني من تحديات اقتصادية وسياسية كبيرة بسبب الانتداب البريطاني والمشروع الصــهيوني، وأدرك شومان أن دعم الاقتصاد الفلســطيني هو أحد السبل لمواجهة هذه التحديات، فقرر تأسيس البنك العربي عام 1930 في القدس. وكان الهدف من إنشاء البنك تعزيز الاستقلال الاقتصادي ودعم التجار والمزارعين الفلســطينيين في مشاريعهم المحلية، مما ساهم في تعزيز صمود الشعب الفلســطيني في وجه المحاولات الاستعمارية.

وكان تأسيس البنك العربي نقطة تحول في حياة شومان وفي تاريخ الاقتصاد الفلســطيني، حيث نجح البنك في جذب الاستثمارات ودعم المشاريع التنموية، مما جعله أحد أبرز المؤسسات المالية في المنطقة. ولم يكن عبد الحميد شومان مجرد رجل أعمال ناجح، بل كان وطنياً ملتزماً بقضية شعبه، حيث جسدت حياته قصة كفاح وإصرار على النجاح رغم الصعوبات. وتوفي شومان عام 1974، لكن إرثه ما زال حياً من خلال البنك العربي الذي أصبح رمزاً للصمود الاقتصادي والالتزام الوطني.

ومنذ تأســيسه، ارتبط البنك العربي ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلســطينية، ليس فقط من خلال دعمه الاقتصادي، بل أيضاً من خلال رموزه وشعاراته التي تعكس الهوية العربية لفلســطين. وكانت الخريطة الموجودة في الشعار تظهر الوطن العربي بكامله دون وجود للكيــان، تأكيداً لموقف البنك الثابت من القضية الفلســطينية ورفضه للاحتلال، وتأكيده على وحدة الأرض العربية. وعكس اختيار البنك لشعاره التزامه بحماية التراث الفلســطيني ودعم الحقوق التاريخية للشعب الفلســطيني في أرضه. 

وعلى مدار تاريخه، لم يقتصر دور البنك العربي على الجانب الاقتصادي فقط، بل امتد ليشمل الجانب الوطني والسياسي. فقد دعم البنك المشاريع التنموية في فلســطين، وساهم في إنشاء البنية التحتية التي تعزز صمود الشعب الفلســطيني. كما كان للبنك دور في دعم اللاجئين الفلســطينيين وإنشاء المؤسسات التي تعنى بشؤونهم. وتحمل البنك ملايين الدولارات من الغرامات، بدعوى ارتكابه مخالفات تتعلق بعمليات مكافحة غسل الأموال ومقاومة الإرهــاب، لمجرد تحويله أموالاً للفلســطينيين في قطاع غزة، وهي مرسلة من أهاليهم حول العالم.

وكانت هناك قصة كوميدية حزينة، حين تعرض البنك العربي لغرامة ضخمة، بسبب تحويل تم من سيتي بنك، ووصل عن طريق البنك العربي لمن تصنفهم الولايات المتحدة إرهــابيين، حيث استحدثت الدول الغربية وقتها مبدأ "اعرف عميل عميلك"، بدلاً من المبدأ المعتاد "اعرف عميلك"، بينما نجا سيتي بنك، رغم أنه هو البنك الذي لم "يعرف عميله". وأُجبر البنك العربي بعدها على تقليص أعماله في نيويورك.

وبالإضافة إلى ذلك، كان البنك العربي حاضراً في دعم المؤسسات التعليمية والصحية في فلســطين، وهو ما ساهم في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلســطينية. واستمر البنك في لعب هذا الدور حتى بعد النكبة عام 1948، حيث نقل مقره الرئيسي إلى عمان في الأردن، واستمر في دعم القضية الفلســطينية من خلال مشاريعه وبرامجه. وفي أكثر من مناسبة بعد انتقاله إلى عمان، تحمل البنك رواتب موظفي الحكومة الأردنية، في محاولة لتخفيف أزماتها الاقتصادية.

أحكي هذه القصة بمناسبة تغيير شعار البنك، بحذف خريطة الوطن العربي، النقية من الدنس، وتركه لمجموعة دوائر لا معنى لها ولا طعم ولا روح. دوائر لا تربطه بالعالم العربي ولا بالقضية الفلســطينية، ولا تتحدث عن جغرافيا أو تاريخ، وهي أقرب إلى الأغلال التي تقيد بها الحكومات العربية كل أفكار المقــاومة والتعاطف مع القضية، حتى لو كانت شعاراً على جدران بنك، أو في إعلاناته.

صدقني والله، الموضوع ليس "مجرد شعار"، ولا هي قضية تافهة، فأولاد عمنا لا قضية تافهة لديهم، ولا توجد معركة يرونها لا تستحق القتال، وإنما كل معركة عندهم هي أم المعارك، تستخدم فيها كل الأســلحة، ولا يترك شيء فيها للصدفة، كما أنهم يخوضون كل معاركهم في نفس الوقت. فهل نتعلم منهم؟