بعد 30 عاماً، تحدَّت روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين النظام العالمي الجديد عبر حماية أمنها القومي في شرق أوروبا.
هناك اتفاق واسع على أنَّ روسيا تسعى لتدوير الزوايا في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وفي الوقت ذاته، هناك خلاف كبير على طبيعة التحدّي الّذي تطرحه موسكو ومستواه، والدوافع الروسية ومخاوفها، والكيفية التي ينبغي للغرب أخذها بعين الاعتبار.
في هذه المقالة، هناك 3 وجهات نظر رئيسة. أولاً، أنَّ روسيا تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة الدولية التي أسستها الولايات المتحدة وحلفها الغربي منذ العام 1991. وثانياً، أنَّ روسيا هي قوة دفاعية تعمل من أجل تغييرات تدريجية داخل النظام العالمي الحالي. وثالثاً، أنَّ روسيا تريد تدمير العالم. بالطبع، تريد روسيا أن تعيد مجدها، وأن تحترم الدول التزاماتها معها، لا أن تكون الساحة الروسية أو الدول الموجودة في فنائها خاصرة رخوة تهدد الأمن القومي الروسي.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح العالم ثنائي القطب، وانقسم إلى كتلتين شرقية وغربية، وأصبحت برلين الشرقية تحت حكم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وخضعت برلين الغربية لحكم الولايات المتحدة، وبدأت سياسات الحرب الباردة في العالم، وصاغت الولايات المتحدة وحلفاؤها من حلف شمال الأطلسي (الناتو) واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية... حلف "وارسو" الذي تفكّك عندما انهار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، لكنَّ الناتو لا يزال حلفاً عسكرياً قائماً إلى يومنا هذا. وقد توسّع على حساب الصين وروسيا.
ظهر النظام العالمي الجديد في حيّز الوجود بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، إذ أصبح العالم أحادي القطب، وأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة. وفي العام 2001، غيرت حادثة 11 أيلول/سبتمبر سيناريو العالم برمته، وبدأت الولايات المتحدة حربها على الإرهاب، وأعلنت أنها ستستهدف أيّ شخص في أيّ مكان يهدد أمن الولايات المتحدة ومواطنيها. في ظلّ كل ذلك، هاجمت أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن من دون معارضة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
بعد 30 عاماً، تحدَّت روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين النظام العالمي الجديد عبر حماية أمنها القومي في شرق أوروبا، وتحديداً في أوكرانيا. تتحدَّث الولايات المتحدة والغرب عن عقوبات على روسيا، لكن الأخيرة تتحدّث عن حرب نووية، إذ أمر الرئيس بوتين بوضع أسلحة بلاده النووية في حالة تأهب قصوى. وقد أجبر، من خلال تلويحه بالخيار النووي، الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على الابتعاد عن الصراع المباشر، وهم يعرفون أن تدخلهم قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
وفي هذا السياق، يمكن القول إنَّ جزءاً كبيراً من السلوك الروسي الأخير مرتبط بشكل ما بالممارسات غير المسؤولة والمزعزعة للاستقرار للقوى الغربية الكبرى منذ نهاية الحرب الباردة.
وبالتالي، أجبر سلوك الغرب المتهور روسيا على الدخول في مواجهة. هذا الأمر لا يدفع القادة الروس إلى الهجوم بقدر اهتمامهم بالأهداف الدفاعية في نهاية المطاف، من حيث التمسّك بالوضع الراهن والأجندة التحويلية والأنشطة العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها. وبالتالي، إنّ روسيا ليست قوة تقليدية تسعى إلى قلب النظام العالمي الحالي، بل هي قوة قديمة جديدة تهدف إلى ضمان التطبيق الشامل والمتسق للمعايير الإنسانية بما يحفظ الأمن والسلم العالميين.
وفقاً لهذا المنظور، كان العديد من القادة السوفيات والروس في ما بعد واثقين بأنَّ التغلب على الحرب الباردة سيبشر بعهد جديد من التعاون مع الغرب. ومع ذلك، دفعتهم العديد من التطورات إلى التخلي عن آمالهم في بناء شراكة حقيقية مع الغرب والعودة إلى مواقف متشددة تعتمد على الذات. ومن أهمّ هذه العوامل توسع حلف الناتو باتجاه الشرق، الأمر الذي جعل القيادة في موسكو تشعر بالاستياء الشديد وعدم الثقة في الغرب.
في الحقيقة، لا توجد هناك وثيقة مكتوبة تتعهّد بها القوى الغربية بعدم التوسع شرقاً، ولكن هناك تأكيدات عديدة من القادة الغربيين لنظرائهم السوفيات بأن التحالف - على حد تعبير وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر - لن يتحرك بوصة واحدة باتجاه الشرق.
وظهرت المعضلة المتمثلة بأنَّ الغرب لم يحترم تلك التعهدات الشفوية، وبدأ الناتو، بدلاً من ذلك، بالتوسع إلى دول حلف وارسو السابقة والجمهوريات السوفياتية، وهو ما أثار حفيظة الروس بعد نفاد صبرهم منذ العام 2000.
منذ البدايات، عارض صانعو السياسة في موسكو توسع الناتو، معتبرين أنه علامة على استمرار عقلية الحرب الباردة وتهديد للأمن القومي الروسي. وعلى الرغم من أنَّ الرئيس بوتين شرع في تحسين العلاقات مع الغرب وإقامة شراكة بعد وصوله إلى السلطة، فإنَّ الوعد الذي تم التعهّد به في قمة الناتو للعام 2008 في بوخارست بالعضوية النهائية لجورجيا وأوكرانيا مهّد الطريق لمنافسة متجددة.
وقد تفاقمت مخاوف موسكو بسبب تجاهل الدعوات والاقتراحات الروسية لإنشاء هيكل أمني جديد في أوروبا إلى حد كبير تحت وطأة ضغوط بريطانية وأميركية، وهو ما يفسّر انسحاب لندن من الاتحاد الأوروبي، وليس كما يشاع بأن بريطانيا انسحبت بناء على استفتاء أجرته.
وبينما كان صانعو السياسة الروس ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي في البداية نظرات سلمية وصديقة، فإنَّ التقارب المتزايد بين الدول الأوروبية والناتو من الناحية الأيديولوجية والسياسية والتشغيلية أعطى الانطباع بأنَّ توسع الاتحاد الأوروبي هو حصان طروادة لتوسع الناتو.
وبناءً على ذلك، إنّ أفضل طريقة لفهم الأزمة التي اندلعت في العام 2014 هي أنها كانت نتيجةً لا سبباً للتوترات بين الشرق والغرب، فتوسع الناتو خلق مخاطر كان من المفترض أن يمنعها، والاتحاد الأوروبي أصبح إحدى أدوات الصراع المباشرة وغير المباشرة، بقصد أو من دون قصد، بحسن نية أو بسوء نية، بدلاً من التغلب على منطقه.
وعند النظر إلى قضايا مثل انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة القذائف المضادة للقذائف التسيارية في العام 2002 (START II) والمشروع اللاحق لإنشاء قواعد مضادة للصواريخ في وسط أوروبا وشرقها، نرى أنَّ هناك حالة استفزاز مقصودة لخلق انعدام الأمن في روسيا وما يجاورها.
في العام 2010، شدَّد بوتين على أن الديمقراطية يجب أن تكون نتاجاً للتنمية المحلية الداخلية في مجتمع ما، لا أن تكون مفروضة عليه من خارج الحدود. وأعرب بوتين عن أسفه للمعايير الغربية المزدوجة، وترى موسكو أنّ القيم والشعارات الغربية، من ديمقراطية وحرية تعبير، ما هي سوى ستار إيديولوجي لمحاولة الغرب فرض هيمنته عبر أجندة تعزيز الديمقراطية، لتخفي مصالح الغرب الجيوسياسية وطموحاته.
بالتزامن مع ذلك، تعمل الأجندة المزدوجة المعيارية للغرب أيضاً على إنكار المكانة التي تستحقّها روسيا في العالم. لطالما اعتبر القادة في موسكو امتلاك مجال نفوذ في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي ضرورياً للأمن القومي، وعلامة على مكانة بلادهم كقوة عظمى، من خلال الإصرار على الخيار السيادي للدول الأصغر في أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي لاختيار تحالفاتها العسكرية.
لقد عمل الغرب على تقويض مكانة روسيا وتجاهل مخاوفها الحقيقية للغاية في ما يتعلّق بتسلل أقوى تحالف عسكري في العالم إلى حدودها. في الواقع، إنَّ توسيع حلف الناتو إلى الفضاء السابق للاتحاد السوفياتي له تأثيرات خارجية جيوسياسية واضحة دفعت الروس إلى التحرك غرباً نحو أوكرانيا لحماية أمنهم القومي.
اليوم، يبدو سلوك روسيا الدولي أشبه بسلوك القوة العظمى أكثر من كونها قوة إقليمية، كما تدعي القوى الغربية. نعم، النظام العالمي القديم انتهى، ولا رجعة إليه، والأيام القادمة ستظهر أننا أمام حقبة جديدة وعالم سياسي ثنائي القطبية.
* مدير مكتب الميادين في واشنطن
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيـــاة"