بعد مرور 200 يوم من حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، من الصعب أن تجد أحدًا في دولة الاحتلال يتحدث عن انتصار ساحق سوى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو. حتى الجيش، الذي لا ينافسه أحد في الغرور والغطرسة، ويفترض فيه أن ينهي الحرب بانتصار، بات يتحدث بلغة أكثر تواضعًا.
إذ باتت إسرائيل نفسها تقلل سقف توقعاتها من هذه الحرب، حيث أصبحت لم تتحدث عن من إبادة حركة "حماس" بقدر حديثها عن "شل قدرتها على الحكم"، ومن "تحرير المحتجزين بالقوة" إلى "تحريرهم بالقوة أو بالمفاوضات"، غير أن نتنياهو وحده هو الذي لايزال مصرًا على لغة الانتصار الساحق.
وفي تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، تحدث كبار الخبراء الإسرائيليين الذين أعربوا عن وفضهم لمنطق نتنياهو، محذرين في الوقت ذاته من فشل كبير، بل إن عددًا منهم يحذر من هزيمة.
من جانبه، قال خبير الشؤون الأمنية والاستراتيجية في الصحيفة العبرية، رون بن يشاي: "نحن عالقون. ووصلنا في هذه الحرب إلى باب موصود استراتيجيًا"، مؤكدًا أنه في قضية الأسرى: "إسرائيل فقدت بمبادرتها كل وسائل الضغط على (حماس)".
وبحسب الخبير، فإنه فيما يخص قضية اجتياح رفح "لا يزال نتنياهو يدير مفاوضات مع واشنطن حول حجم العملية الإسرائيلية وجدواها، والأميركيون لم يصادقوا على الخطط الإسرائيلية حتى الآن"، وكذلك فيما يتعلق بقضية "اليوم التالي" ما زالت إسرائيل تتخبط، وكل اقتراحاتها في الموضوع غير واقعية و"حماس"، رغم أنها خسرت نحو 75 في المائة من قوتها العسكرية، ما زالت تسيطر على كثير من المناطق والمجالات.
وتطرق إلى الجبهة اللبنانية، قائلًا: "يتصاعد التوتر، ولكن لا يوجد حسم باتجاه حرب شاملة أو اتفاق سياسي، والجميع ينتظر انتهاء القتال في غزة".
ورأى أنه فيما يتعلق بجبهة إيران "تفشل إسرائيل في إنشاء تحالف إقليمي؛ لأنها لا تتقدم في الموضوع الفلسطيني، ولا تعترف بالأمر الأساسي، وهو أن هذه القضية هي المفتاح لتسوية كل المشكلات".
ويختتم الخبير الإسرائيلي قائلاً: "تل أبيب مجبَرة على التنازل عن موقفها المتصلب تجاه القضية الفلسطينية والتجاوب مع المطلب الأمريكي. فمن دون التعاون الاستراتيجي مع إدارة الرئيس جو بايدن، فإننا لن نظل عالقين في طريق دون مخرج فحسب، بل إننا سننهي الحرب بهزيمة".
وفي مقال له بصحيفة "هآرتس"، يقول الفيلسوف الإسرائيلي العالمي، يوفال نواح هراري إن "الحرب أداة عسكرية لتحقيق الأهداف السياسية، وهناك معيار واحد للنجاح في الحرب: هل جرى تحقيق الأهداف السياسية؟ بعد مجزرة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) المروعة، اضطُرت إسرائيل إلى العمل لإطلاق سراح المختطفين ونزع سلاح (حماس)، لكن هذه لم تكن أهدافها الوحيدة.
وفي ضوء التهديد الوجودي الذي تشكله إيران وعملاء الفوضى التابعون لها، كان على إسرائيل أيضًا أن تعزز التحالف مع الديمقراطيات الغربية، وتعزز التعاون مع العناصر المعتدلة في العالم العربي، وتؤسس نظامًا إقليميًا مستقرًا، لكن حكومة نتنياهو تجاهلت كل هذه الأهداف، وبدلاً من ذلك سعت إلى الانتقام، ولم تطلق سراح جميع المختطفين، ولم تقضِ على (حماس)".
ويضيف هراري: "لقد تسببت (حكومة نتنياهو) عن عمد في وقوع كارثة إنسانية هائلة على 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة، ما أدى إلى تقويض الأساس الأخلاقي والسياسي لوجود دولة إسرائيل، كما أن الكارثة الإنسانية في غزة، وتدهور الوضع في الضفة الغربية يعملان أيضًا على تغذية الفوضى، وتشويه تحالفنا مع الديمقراطيات الغربية، ويجعلان من الصعب التعاون مع دول مثل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية. وبعد أكثر من 6 أشهر من الحرب، لا يزال كثير من المختطفين في الأسر، ولم تُهزم (حماس) بعد، لكن قطاع غزة مدمر بالكامل تقريباً، وقُتل عشرات آلاف من مواطنيه، وأصبح معظم سكانه لاجئين يتضورون جوعًا".
ومن وضع غزة إلى وضع إسرائيل نفسها، مضى هراري في تحليله، يقول: "إلى جانب غزة، جرى تدمير الوضع السياسي لإسرائيل أيضًا، التي أصبحت دولة منبوذة ومكروهة حتى من قبل الكثيرين الذين كانوا أصدقاء لها قبل وقت ليس ببعيد. إذا اندلعت حرب شاملة وطويلة الأمد ضد إيران ووكلائها، فإلى أي مدى يمكن لإسرائيل أن تثق بأن الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية والدول العربية المعتدلة سوف تخاطر من أجلها، وتزودها بالمساعدة العسكرية والدبلوماسية التي تحتاج إليها؟ وحتى لو لم تندلع مثل هذه الحرب، فإلى متى ستتمكن إسرائيل من البقاء دولةً منبوذةً؟ ليس لدينا موارد روسيا. ومن دون علاقات تجارية وعلمية وثقافية مع بقية العالم، ومن دونها الأسلحة والمال الأميركيين، فإن السيناريو الأكثر تفاؤلاً الذي يمكن أن نطمح إليه هو أن نكون كوريا الشمالية في الشرق الأوسط".
واختتم هراري: "تتركز عيون معظم الإسرائيليين الآن على طهران، وحتى قبل ذلك لم نكن نريد حقاً أن نرى ما يحدث في غزة والضفة الغربية. ولكن إذا لم نقم بتغيير جذري في تعاملنا مع الفلسطينيين، فإن غطرستنا ورغبتنا في الانتقام ستقوداننا إلى هزيمة تاريخية".
أما الكاتب في صحيفة "معاريف"، بن كسبيت، يكشف: "لقد قال شمشون: (سأنتقم انتقامة واحدة.. ولتمت نفسي مع الفلسطينيين). منذ 7 أكتوبر، أصبحنا مشابهين جدًا لشمشون في أشياء كثيرة – الغطرسة، والعمى، والانتقام، والانتحار – لدرجة أنه من المخيف جدًا أن نتذكر البطل المتعجرف الذي انهار المنزل على رأسه وقتل روحه في سبيل قتل الفلسطينيين".
ولفت إلى أن حتى الإسرائيليين المؤيدين لنتنياهو، يشعرون بأن خطأً ما كبيرًا حدث في هذه الحرب، يجعلها "أطول حرب في تاريخ الدولة" ويظهرها عاجزة عن إيجاد مخرج مشرف منها، ويبقيها بعيدة عن تحقيق أي من أهدافها. لقد حصدت هذه الحرب حتى الآن نتائج مأساوية أيضاً للإسرائيليين.
ووفق الإحصاءات الرسمية للجيش الإسرائيلي، قُتل في الحرب حتى الآن 1483 إسرائيليًا، بينهم 605 جنود، و61 رجل شرطة، و5 من رجال المخابرات، و8 من قوات الدفاع المدني، و804 مدنيين، وجرح 3294 بينهم 1583 جندياً، وهذا عدا المصابين النفسيين، ومع ذلك فهناك أصوات كثيرة تشكك في صحة الأرقام، وتتحدث عن خسائر أكبر.
كذلك فهناك 133 أسيرًا، بينهم 31 قُتلوا بشكل مؤكد، ويوجد أكثر من 100 ألف مواطن جرى إخلاؤهم من بيوتهم في البلدات الواقعة شمال إسرائيل وفي بلدات غلاف غزة.
وفي الخسائر الاقتصادية سُجل انخفاض بنسبة 6.6 في المائة في الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع النمو الاقتصادي للعام الحالي بمقدار 1.1 نقطة مئوية بعد خسائر متوقعة قدرها 1.4 نقطة مئوية العام الماضي. وفقدت إسرائيل قوة الردع، ليس فقط في الهجوم المباغت في 7 أكتوبر الماضي، بل بمجرد استمرار الحرب 200 يوم (حتى الآن)، يجري فيها استخدام جيش نظامي واحتياطي يصل إلى 600 ألف جندي مقابل تنظيم مسلح صغير لحركتي «حماس» و«الجهاد» وبقية الفصائل لا يتعدى قوامها 50 ألفاً، يعد هذا فشلاً.
أما عن صورة إسرائيل الدولية، فقد أصبحت "مهتزة" وباتت تحاكم بتهمة ارتكاب "جرائم حرب" في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، وجريمة إبادة شعب في محكمة العدل العليا الدولية، ولا ترى نهاية لهذه الحرب بعد، ولا لتبعاتها الإقليمية والدولية.
ويواصل جيش الاحتلال عدوانه على قطاع غزة برًا وجوًا وبحرًا، وذلك للشهر السادس على التوالي، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 34 ألف فلسطيني 70 % منهم من الأطفال والنساء، وفقًا لآخر حصيلة أعلنتها وزارة الصحة في غزة.
وتفرض إسرائيل حصارًا شاملاً على القطاع ومنعت إمدادات الغذاء والماء والوقود وغيرها من الاحتياجات الإنسانية عن أكثر من 2.3 مليون شخص هم إجمالي سكان القطاع.
وبفعل حربها البربرية على القطاع، تواجه إسرائيل ضغوطًا متزايدة من حلفائها الغربيين لوقف الهجوم العسكري في غزة الذي أدى إلى تدمير جزء كبير من القطاع الساحلي المكتظ بالسكان.