"نادرون هُمْ أولئك الذين يكون العطاء أحد مُتَعِهمْ الخاصة".. مقولةٌ تنطبقُ تماماً على الدكتور محمد عبدالغفار مشالي الملقب بـ"طبيب الغلابة"، والذي سَخَرَ حياته وماله لخدمة الفقراء والغلابة من المرضى، الذين لا يجدون ثمن "الكشفية" للذهاب للطبيب.
الدكتور مشالي الذي تجاوز عمره الخامسة والسبعين، ويمارس مهنة الطب منذ أكثر من 50 عامًا، عُرف بإنسانيته مع المرضى الفقراء والمحتاجين، ومحدودي الدخل، إذ يستقبل في عيادته المتواضعة بالقرب من مدينة "طنطا" مئات المرضى يوميًا من الثامنة صباحًا وحتى العاشرة مساءً.
10 جنيهات واحياناً بـ"المجان"!
لم يتوقف "طبيب الغلابة" يوماً واحداً منذ أكثر من 60 عاماً قضاها بلا إجازات وراء مكتبه المتهالك، وهو يقدمُ الخدمات المجانية للفقراء والمحتاجين، رافضاً بشكلٍ قاطعٍ أن يتقاضى أكثر من 10 جنيهات مصرية (أي حوالي نصف دولار أمريكي) نظير الكشف، و3 جنيهات فقط عند إعادة الكشف، وأحيانًا بالمجان.
ومع عرض برنامج "قلبي أطمأن" الذي يقدمه غيث الإماراتي، عاد اسم الدكتور مشالي لينتشر على منصات التواصل الاجتماعي، بعد أنَّ رفض عرضاً مالياً ضخماً بمساعدته لتأهيل عيادته.
رفض مبلغ ضخم
وظهر طبيب الفقراء في برنامج "قلبي اطمأن الحلقة 11"، وعَرَضَ عليه غيث مساعدة مالية ضخمة، وتوفير عيادة كبيرة وجديدة كلياً، وفي مكان أفضل وأرقى، لكن هذا الرجل البسيط رفض المساعدة، وقال كلمته التي سمعها العالم: "أنا سعيد بعيادتي هذه، لإنها في منطقة شعبية وأنا بحب أخدم الغلابة"، وبذلك يكون "طبيب الفقراء" أول شخص في برنامج "قلبي اطمأن" ومنذ 3 مواسم يرفض المساعدة، لأن همه أولاً وأخيراً مساعدة الفقراء لوجه الله، ليس لجاه أو سمعة دنيوية أو ما شابه، كما يقول.
والده سرُّ الحكاية
قصة الدكتور مشالي مع عملِ الخير، وبذل العطاء، لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت نتاج تربية أصيلة على يدي والديه، الذين عودوه أن يسعى دائماً للخير، وأن يقدم كل ما يملك للفقراء والمحتاجين والغلابة، حتى أن وصية والده -لحظة الوفاة- كانت "الغلابة.. يا ابني يا محمد".
ويقول الدكتور مشالي الذي ورثَ حب الخير عن والده عبدالغفار الذي يعد أحد كبار رجال التعليم في جمهورية مصر العربية، أنَّ والده أوصاه قبل وفاته بأن يسخر علمه وموهبته لخدمة الفقراء، وألا يحصّل ثمن الكشف ممن لا يملك قوت يومه.
وتابع: "أكتشفت بعد تخرجي ان أبي ضحى بتكاليف علاجه ليجعل مني طبيبا .. فعاهدت الله ألا أتقاضى أي قرش من فقير او معدوم ".
قصته مع الطفل الذي غيَّر حياته!
"طبيب الغلابة" تخرج من كلية طب قصر العيني عام 1967، وعمل بالوحدات الريفية كي ينفق على أشقائه الخمسة عقب وفاة والده، وبعد 8 سنوات تزوج وأنجب 3 أبناء تخرجوا جميعا من كلية الهندسة، وبعدما توفى شقيقه ترك له 3 أطفال في المرحلة الابتدائية، تكفل بهم جميعًا حتى تخرجوا من الجامعات.
ونقلت وسائل إعلام محلية قصة مؤثرة عن الطبيب المصري جعلته يسلك هذه الطريق، عندما أحرق طفل مريض نفسه لعدم امتلاك أسرته ثمن حقن الأنسولين بسبب فقرها المدقع.
وقال الدكتور مشالي: "إنه منذ تلك الواقعة قرر أن يكون عمله صدقة جارية لكل من يحتاج أو يطلب".
كما، ونقلت مواقع محلية عن الطبيب حالات كثيرة ومواقف واجهته خلال عمليات الكشف والفحص لمرضى، تعفف فيها حتى عن تحصيل الجنيهات العشر من شدة ضيق حالهم.
ودائماً ما يردد "طبيب الغلابة" في مناسبات كثيرة "أنَّ حياة الإنسان أهم بكثير من أي شيء آخر".
الأطباء التجار والمكيدة ضد مشالي!
وأعرب الدكتور مشالي عن أسفه لما وصل إليه حال الطب الآن، مؤكدًا أن جيله من الأطباء، كان لا يسعى إلى جمع المال، ولكن كان يسعى إلى خدمة المرضى.
وأضاف مشالي: "تعلمت من أحد أساتذتي الكبار، الذين درسوني في طب قصر العيني، أنَّ من يسعى إلى المال، فليذهب للعمل بالبورصة والاستيراد والتصدير، لأن الطب مهنة إنسانية، تتسم بالضمير الحي، واليقظة وإعطاء كل مريض حقه حتى لو لم يكن قادرًا على الطب".
وحاول الأطباء في منطقة طنطا التحريض على الدكتور مشالي، بسبب تقديمه خدمات مجانية للمرضى، إلا أنه استمر بالعمل، وهو ما زاد من أعداد المرضى في عيادته.
ويقول في ذلك: أنا أنوي المتاجرة مع الله، والله يكفيني كل محرض وعابث، بعض الأطباء في طنطا حرضوا عليَّ، بسبب تضرر أعمالهم، نظراً لارتفاع تكلفة الكشفية عندهم، مقارنة بالمقابل الذي اتقاضاه من المرضى في عيادتي، لكن كنت في كل مرة أقول لهم: لو أنكم تنفقون جزءًا يسيراً من وقتكم واموالكم لصالح الفقراء، لفتح الله عليكم من رزقه ما لا يعلمه إلا هو.
"صحة حديد" سببها "حب الغلابة"!
وكرسَ "طبيب الإنسانية" حياته للقراءة وعمل الخير فقط، وهو كل ما ورثه عن والده، وهو ما يسير عليه أبنائه الذين تخرجوا من كليات الهندسة، وأصبحوا ممن يشار لهم بـ"البنان".
ويقول الدكتور مشالي: "تقديم العلاج بالمجان للناس في طنطا، يهدف لمساعدتهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وأنا أنوي كل ما أعمل منذ 60 عاماً من عطاء وخدمات للفقراء والمحتاجين خالصاً لوجه الله تعالى".
وعلى الرغم من تقدم "طبيب الغلابة" بالسن، إلا أنه يتمتع بصحة جيدة، مشيراً إلى أنَّه لا يدخن، ولا يقلق نفسه في التفكير، ويبتعد عن التوتر قدر الإمكان، عازياً السبب الرئيسي وراء صحته القوية رغم تقدمه بالسن "لحبخ الغلابة، والمساكين، والفقراء، وعمل الخير لتلك الفئة".
شارع باسمه.. ماذا قال!
ولم يكن غيث الإماراتي مقدم برنامج "قلبي أطمأن" أول شخصٍ أو جهة تحاول مساعدته مالياً أو تكرمه جزاء فعل الخير، لكنه في كل مرة يتعفف أن يستقبل أي مساعدات عينية أو مالية.
وأطلقت محافظة طنطا اسمه على المنطقة التي يقطن فيها، غير أنه تعفف حتى أن يقبل مجرد إطلاق اسمه على شارع، قائلاً: "أرفض فكرة إطلاق أو تسمية شارع أو ميدان باسمي، (..) يكفيني رضا الله عزوجل، ويكفي رضا المساكين والفقراء عليا".
وقال الدكتور مشالي لبرنامج تريندينغ الذي يبث على قناة بي بي سي: "مش منتظر تكريم أو شقق أو أي شيء.. أنا رجل جندي مجهول أعمل في صمت وجزائي وثوابي عند ربنا".
قصة الملابس الرثة والمظاهر الخداعة
وفي إحدى المرات التي تم تكريم "طبيب الغلابة" فيها، حضر إلى الحفل بملابس رثة للغاية، أثارت جدلًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، لكنها كانت إحدى سمات زهده، إذ قال: "هذه ملابس العمل، وهم خدوني من الشغل على طول، وقالوا لي سيب اللي في أيدك وتعالى معانا، ومدونيش فرصة أروح البيت ألبس بدلة، معنديش وقت للمظاهر الكدابة دي، المهم الجوهر".
وتابع: "أنا في عيادتي أكون معرضًا للمتاعب، وتعودت أن أنظفها بنفسي، وأكشف بنفسي، وأنا اتعامل كالميكانيكي في عمله، وأرتدي ملبسًا كــ(الأفارول) الخاص به، وأيضًا أمتلك بعض الملابس المشرفة".
وتحمل قصة الدكتور مشالي الذي يصرُ على إكمال مسيرته في خدمة المرضى "الغلابة"، والفقراء، والمحتاجين، رسالة إلى كل إنسان أن الحياة عطاء والعطاء حياة، وأنَّ "خير الناس أنفعهم للناس".