هي قلب فلسطين، تربط شمالها بجنوبها وشرقها بغربها، سُميت "عش العلماء" و "جبل النار"، راج اسمها في الأرض قاطبة، بصناعاتها المتفردة، التي غزت العالم.
إنها نابلس القابعة في حضن الجبال، بعراقتها التي سطرتها بجهد مؤسسيها، فيها ازدهرت صناعة الصابون النابلسي، ومنها انطلقت إلى العالم، الذي خَبُر من طهاتها "الكنافة النابلسية"، وتذوق "الجبن النابلسي" و "الزعتر النابلسي" فعشقها بدون أن يراها.
مازالت مدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة، مُعبقةً برائحتها الزكية صامدةً متجذرة برائحة الأرض والتراب وصابونها الذي يحمل اسمها "كطفلها البكر المُدلل"، رغم كل محاولات اجتثاثه من حضنها..
"فالصابون النابلسي".. يحمل رائحة الأرض التي خلق منها، فترعرع فيها وكبر بها ولأجلها، حمل مدينته الأم للعالم أجمع، بتراثه المجيد الذي سار متباهياً عبر أجيال عديدة يحكون قصة مدينتهم الصامدة بصناعتها عبر الأزمنة التي تعود حكايتها لزمن بعيد..
فحتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت مدينة نابلس المركز الرئيسي لتجارة وصناعة فلسطين، حينها لم تكن تُشكل وحدة إدارية تدعى فلسطين، وإنما استعمل هذا الاسم بهذه الدلالة خلال عهد الانتداب البريطاني (1920-1948) للإشارة إلى رقعة جغرافية من بلاد الشام يستبعد منها المعنى الوطني وذلك قبل نهاية القرن التاسع عشر.
ركيزة تجارية مستقرة
وكتب أحمد توفيق الشكعة، وهو حفيد أحد رواد صناعة الصابون في نابلس أحمد حسن الشكعة:"إن هذه المدينة (نابلس) هي ركيزةُ عشرات القرى القائمة وسط المنطقة الجبلية الممتدة من الشمال إلى الجنوب ومن الجليل إلى الخليل التي كانت موطناً لأكبر المستقرات الفلاحية حجماً في فلسطين، وأثبتها استقراراً منذ أقدم العصور."
واستطاعت هذه المدينة، تنظيم الإنتاج الزراعي من التجارة الخارجية خاصةً صناعة الصابون، لتوفر أشجار الزيتون بكميات وفيرة في المنطقة، وتم إنشاء العديد من المصابن في المدينة واستطاعوا منافسة التجار الأجانب والإقليمين.
ووفقاً للشكعة، شَكَلَت نابلس وريفها منطقه قائمة بذاتها عرفت طوال عدة قرون باسم "جبل نابلس" ورغم أن طرق الزراعة بدائية، استطاعت فلسطين إنتاج فوائض زراعية عديدة اندمجت في الاقتصاد العالمي الرأسمالي بصفة مصدر للقمح والشعير والسمسم و زيت الزيتون والصابون و القطن خلال الفترة 1856 – 1882 تصدره عبر موانئ يافا وعكا وحيفا.
وكانت نابلس من أهم المراكز في فلسطين للتجارة والتصنيع، تم ذلك بفضل العلاقة المتكاملة بين التجار المستثمرين القادرين على توظيف مبالغ طائلة من رأس المال في إنتاج محاصيل تجارية، وبين الفلاحين المندمجين في عملية الزراعة التجارية، وذلك في علاقة تكافلية وتكاملية فيما بينهم، شملت التسليف المالي للفلاحين، وتنظيم الإنتاج المحلي لخدمه التصدير إلى الخارج ولإدارة التسويق للأسواق الداخلية والخارجية.
زيت الزيتون ونبتة الحرض
ويشير الشكعة إلى أن نابلس تميزت بعلاقتها المتميزة بريفها من خلال شبكات تجارية محلية عميقة الجذور، فكان زيت الزيتون من أهم منتجات ريف نابلس والصابون المصنوع من فائض زيت الزيتون أهم سلعة تصنع في نابلس والتي على قرب ملائم من الضفة الشرقية لنهر الأردن، حيث كان المصدر الثاني للمادة الخام وهي نبتة "الحرض" التي تنمو هناك بكميات كبيرة في منطقة عجلون والسلط التي كان رمادها يشكل المادة القلوية الطبيعية المعروفة بـ "القلو"، وذلك بعد خلط رمادها في الشيد، وهوالمكون الثالث والعنصر المتوفر في منطقة جبل نابلس عورتا و سالم و بيت فريك
صدفة تحولت لصناعة
ويُقال: إن صناعة الصابون النابلسي بدأت عن طريق الصدفة وأخذت منهج التطوير في كيفية الإنتاج السليم، ففي السابق كان جدودنا يطبخون طعامهم في قدور يضعونها على المواقد ويستخدمون الحطب من أشجار الحرض (القلي).
وأثناء عملية الغلي كانت الدهون تنساب على جوانب القدر وتختلط في الرماد وعند استعمال هذا الرماد في تنظيف القدور أعطى رغوة ونظافة.
صناعة أرخص وأنظف
ومن هنا- وفقاً للشكعة-، بدأت هذه الصناعة وتم إنشاء المصابن حسب الظروف السابقة وظل ذلك حتى ستينات القرن التاسع عشر إلى أن تم اكتشاف طريقه أسهل من قبل العالم الكيميائي ( Nicolas Leblanc ) عام 1791 لاستخلاص الصودا الكاوية ( NaOH ) من ملح الطعام، علماً أنه قبل ذلك بعدة قرون تم اكتشاف الصودا الكاوية (القطرون) من قبل العالم العربي (جابر ابن حيان ) مُخترع القلويات المعروف في مصطلحات الكيمياء الحديثة باسمها العربي (Alkali ) وحين توفرت هذه المادة القلوية بكميات تجارية بعد استخلاصها من ملح الطعام حلت بدل نبتة الحرض والشيد فأصبحت صناعة الصابون أرخص وأنظف وتطورت وأصبح انتاجها كبيراً جداً.
تجارة عربية
وأضاف الشكعة:" خلال الفترة العثمانية كان نحو ثلاثة أرباع إنتاج نابلس من الصابون يُصدر إلى مصر براً عبر غزة وسيناء وبحراً عبر ميناء يافا وميناء غزة."
وأوضح بأن صناعة الصابون طورت في أوائل القرن السادس عبر الشبكات العشرة التي كانت تصل نابلس بكل من دمشق و القاهرة والحجاز ومنطقة الخليج العربي فضلاً عن شبه جزيرة الأناضول و جزر البحر الأبيض المتوسط،وكذلك فإن ذلك أدى إلى بناء علاقات تجارية ثابتة مع كل من مدن حلب والموصل و بغداد."
مقتبسات عن نابلس
نابلس كانت معروفة بإنتاج الصابون النابلسي منذ القرن الرابع عشر على أقل تقدير فقد قال فيها الشيخ شمس الدين الأنصاري الدمشقي عام (1327م):"نابلس مدينة.. قد خصها الله تبارك وتعالى بالشجرة المباركة وهي الزيتون ويحمل زيتها إلى الديار المصرية و الشامية والى الحجاز والبراري مع العربان.. ويعمل فيه الصابون الراقي ويحمل إلى سائر البلدان الذي ذكرنا وإلى جزائر البحر الرومي" . الأنصاري نخبة الدهر ص 200-201. وفق ما نقل الشكعة
كما كتب" المقدسي " الذي عاش في القرن العاشر الميلادي, كما وصف "داود الأنطاكي" صناعة الصابون من زيت الزيتون، كذلك فعل " أبو بكر الرازي " الذي وصف فصل الجسرين في عملية التصبن.
كما كتب في أواخر الثلاثينيات من القرن التاسع عشر المؤرخ " جون بونغ:"إن صابون نابلس يحظى بتقديرٍ عالٍ في المشرق"، كما كتب المؤرخ السوري محمد كرد علي:"إن خير الصابون وأشهره اليوم الصابون النابلسي فيه على ما يظهر خاصية ليست بغيره أو إن السر في جودة إتقانه بدون غش". خطط الشام 159:4
ولفت الشكعة إلى أنه في زمن الاحتلال الصليبي، نالت صناعة الصابون شهرة كبيرة حتى إن ملك القدس كان قد فرض تصاريح خاصة لمزاولة هذه المهنة ويعتقد أن صناعة الصابون انتقلت إلى أوروبا من خلال الحروب الصليبية وتأسست مصانع الصابون في انكلترا وفرنسا ومنها صابون مرسيليا في مدينة مرسيليا فهي تصنع الصابون على نفس الطريقة النابلسية.
فوائد الصابون النابلسي
ويعتبر الصابون النابلسي مادة طبيعية كما جاء في تقرير المعهد الإمبراطوري في لندن بتاريخ 7.12.1934 م: "يعتبر الصابون النابلسي مادة طبيعية متعادلة، ولا يدخل في قائمة المواد الكيميائية الضارة لأن نسبة الزيت الزيتون به عالية وهو ينعم البشرة وقيمته التنظيفية عالية ومطهر ممتاز وفيه نسبة قليلة جداً من الزيت الزيتون غير مصبنة تفيد الجسم والشعر".
ويُقال إن الصابون النابلسي هو الخيار المفضل لدى الملكة الزابيث ملكة بريطانيا.
وكان الصابون النابلسي من الشهرة ما جعل الصابون المصنوع على غراره في أي مكان يوسم بـ "الصابون النابلسي" حتى بداية القرن العشرين.
الصابون زمن الانتداب البريطاني
وفي أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين أعلن مصنع أسسه المستوطنون اليهود ويدعى " شيمن المحدود " أن النخب الأول من صابونه هو من نوعية النابلسي وتكرر ذلك في عدة بلدان في سوريا ومصر.
وبعد أن تعرضت فلسطين للاحتلال البريطاني وثم الصهيوني، ونتيجة للسياسات الاستعمارية بمصادرة الأراضي وتجريفها وسرقة للمياه الجوفية أدى إلى تدمير هذا الإرث.
مقاومة واستبسال
وتناول الشكعة سطور من صفحات قصص كفاح الشعب الفلسطيني، والتي ستظل مستمرة طالما الإحتلال مازال جاثما فوق أراضيه " أن الشعب الفلسطيني قاوم بكل قدراته تحت قيادة زعماءه ووجهاءه الذي كان الجزء المهم منهم يطلق عليه ما يسمى ب"جبل النار"، الذي كانت تتركز زعامته فيما يسمى "نادي أصحاب المصابن" الذي تشكل من كبار التجار والقياديين الوطنيين في المجتمع الفلسطيني، والذي كان لهم دور فعال في ثورة هذا الشعب كمثال على ذلك أن أهم قرار سياسي أُتخذ في فترة الانتداب البريطاني خرج من ديوانية مصبنة الشكعة.
فبعد الاعتداء الصهيوني على العرب الفلسطينيين في يافا في 17 أبريل (نيسان) 1936 تحركت نابلس كعادتها لنصرة يافا، فعُقد اجتماع تمهيدي لكل القوى الوطنية بتاريخ 19 أبريل (نيسان) سنة 1936 في تلك المصبنة ووضع في هذا الاجتماع أسس ومبادئ ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 – 1939 وتم الاتفاق على عدة أمور أهمها إعلان إنشاء اللجنة القومية للإشراف على سير الحركة الوطنية وأن يتم إعلان الإضراب العام في نابلس و أن تدعى سائر مدن فلسطين إلى الإضراب.
واستمر هذا الإضراب ستة أشهر متواصلة، وتوقف بعد وساطة الملوك والأمراء العرب.
سرقة الأرض والشجر والصابون
ويشير الشكعة إلى أنه عقب الاحتلال الصهيوني لباقي فلسطين سنة 1967 سرقت سلطات الاحتلال الأرض وقسمتها، وتم الاستيلاء على الآبار الجوفية وفرضت قوانين جائرة للضرائب فضرب القطاع الزراعي وأحرقوا أشجار الزيتون المعمرة وصادروا الأراضي وتوسعوا في الاستيطان، فأفقروا التجار وأفلسوهم وأبعدوا الفلاحين عن أرضهم وأجبروهم على ترك الزراعة والعمل كعمال أجراء في مزارعهم فأصبحت فلسطين من بلد مصدر للزيت إلى مستورد له وأقفلت أغلب المصابن و تشرد عمالها وبقي القليل القليل منها.
دعوة صادقة لدعم "الصابون النابلسي"
ويقول الشكعة: يستحق الصابون النابلسي الدعم العربي مقابل الصابون الأجنبي "لا لشيئ" لكن لجودته العالية التي تميزه، ودعما لهذه الصناعة الوطنية التي لازالت تقاوم رغم ظروف الاحتلال الجائر.
وسيظل اسم الصابون النابلسي صامداً يرمز إلى الجودة والإتقان وإلى عظمة أجدادنا والمسؤولية الملقاة علينا لتطوير هذه الصناعة بنفس الجودة وتحسين الشكل ليواكب العصر، ويبقى اسم نابلس مرتفعاً، يعلن بأننا مازلنا موجودين.