قصص كثيرة يُمكن أن تُروى على خلفية تفجير مرفأ بيروت في آب (أغسطس) الماضي، سواء ما يتعلق منها بأسباب الإنفجار وتبعاته، أو مآسي الضحايا، ومن تلك القصص حكاية السيدة إيڤون كوكرين سرسق، ذات الـ 98 عاما، التي قضت جراء إصابتها في قصرها القريب من المرفأ، والذي تضرر من شدة التفجير.
قصة الليدي سرسق نشرها موقع "globs" الإسرائيلي، وهى تُلخص حجم التآمر الذي تعرضت له فلسطين منذ عقود مضت، حتى وصلنا إلى الوضع الحالي، والذي أسهمت فيه شخصيات معروفة، وأخرى خفية، ربما مارست دورا أكبر في دعم الصهيونية، من بينهم الليدي سرسق.
السيدة إيڤون كوكرين سرسق، كُشف بعد وفاتها بـ 27 يوما من تفجير مرفأ بيروت، حجم الممتلكات التي باعتها أسرتها للمستوطنين اليهود، وكان لها دور فاعل في تاريخ الحركة الصهيونية في فلسطين.
حملت السيدة سرسق 3 جنسيات، البريطانية والإيطالية واللبنانية، وتعتبر من أشهر نساء بيروت، خصوصا في مجالي الأعمال الفنية والخيرية. عاشت في نابولي وبيرو ولندن وإيرلندا وأماكن أخرى، واختارت البقاء في بيروت، حيث ركّزت جهدها مع جمعيات العناية بالتراث المعماري والمحافظة عليه.
وعلى مدى عقود، بقيت تفاصيل عن حياتها غائبة، أبرزها أنه كان لها وأسرتها دور رئيسي في تاريخ إسرائيل قبل قيام الدولة، وكان للأسرة علاقات وثيقة مع قيادة الحركة الصهيونية الأولى، وكذلك مع الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هرتزوغ.
كان ألفريد سرسق، والد الليدي كوكرين المولودة في نابولي عام 1922، ابن إحدى أكبر العائلات المالكة للعقارات في الشرق الأوسط، أما أمها دونا ماريا تيريزا سيرا دي كاسانو فمن السلالة البابوية، وأكبر العائلات الأرستقراطية في إيطاليا.
شمل ميراث العائلة مئات الآلاف من أفدنة الأراضي في مرج ابن عامر، والجليل الغربي ووادي الحوارث (حيفر اليوم) وحيفا ويافا. وكان من بين الأراضي المملوكة من العائلة في حيفا، تلك التي يقع عليها ضريح الباب البهائي الآن، وكذلك الشوارع الرئيسية في يافا ومئات الأفدنة حول ما يعرف الآن بشارع إيلات في تل أبيب.
بدأت الأسرة في الاستحواذ على هذه الأراضي عام 1870 حين باعت حكومة السلطة العثمانية الأراضي في فلسطين لرعايا الإمبراطورية، فاشترت عائلة سرسق ما لا يقل عن 200 ألف فدان في جميع أنحاء فلسطين، وفي عام 1891.
وبحسب الوثائق، أعدت عائلة سرسق عام 1925 قائمة طويلة من معاملات البيع، و دخل نشطاء الحركة الصهيونية في مفاوضات مع عائلة سرسق لشراء الأراضي، ومنهم يهوشوا هانكين ولورانس أوليفانت وآرثر روبين، إضافة إلى الصندوق القومي اليهودي (الكيرن كييمت) والمنظمة الصهيونية العالمية (WZO)، كما باعت العائلة مناطق مختلفة في مدينة حيفا و 2500 فدان في وادي بيت شيعان (بيسان)، ، وبُنيت مستوطنات عديدة على الأراضي التي تم شراؤها من عائلة سرسق، منها مرحفية ومزرا وتل عدشيم ونهلال وكفر يحزقيل وتل يوسف ويوكنعام ورمات يوحنان وعين حرود ونهلال.
تعامل ألفريد سرسق مع يهوشوا هانكين، الملقّب بـ"مخلّص الأراضي" والذي كان مسؤولاً عن معظم عمليات المنظمة الصهيونية العالمية في شراء الأراضي، وعقد سرسق وهانكين اجتماعات في بيروت، وقد وثّقت ابنة أخت هانيكين، تسيلا شوهام فاينبرغ، رحلة العمل التي قام بها هانيكين إلى بيروت، وكتبت فاينبرغ أنّه "على الرغم من المعارضة القوية من مكونات متطرفة وقومية في العالم العربي، وعلى الرغم من التهديدات لحياته، لا شك أنه لولا المساعدة الكبيرة التي تلقاها يهوشوا هانكين من عائلة سرسق بشتى الوسائل، بما فيها بيع الأرض لما تمكّن من الاستحواذ على المرج في ذلك الوقت".
وفي عام 1946، تزوجت السيدة كوكرين من السير ديزموند كوكرين، وهو نبيل إيرلندي شغل في بيروت موقع القنصل العام لإيرلندا، وبعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948، بقي للعائلة بعض العقارات والأراضي في يافا وحيفا، ووضعت السلطة الإسرائيلية اليد عليها بموجب القرار 5710-1950.
وفي العام نفسه، طالبت الليدي كوكرين باسترجاع الأراضي لكن طلبها رفض، وكرّرت طلبها عام 1966 من دون نتيجة، فاستمرّت في مطالباتها، كما أنها حشدت دعم الجالية اليهودية في بريطانيا من خلال التأكيد على مساعدة عائلتها اليهود على الاستحواذ على الأراضي وإقامة المشروع الصهيوني، من دون أن يأتي ذلك بنتيجة، حتى أنها في أواخر الستينيات لجأت (كوكرين) إلى المحامي حاييم هرتزوغ الذي أصبح في ما بعد رئيس دولة إسرائيل.
أسس هرتزوغ شركته هرتزوغ فوكس أند نيمان عام 1972، وعمل على قضية الليدي كوكرين وحاول التركيز على كونها مواطنة دول عدة وعلى واقع أنّ عائلة سرسق ساعدت المنظمة الصهيونية على تأسيس دول إسرائيل عن طيب خاطر.
واطّلع موقع "Globes" على سجلات شركة هرتزوغ فوكس أند نيمان (مكتب محاماة) بخصوص قضية كوكرين. ويشير الشريك الإدارة فيها، مائير لينزن، إلى أنه خلال أحد الاجتماعات في الشركة "أخبرنا هرتزوغ أن هذه قضية خاسرة وأنه لا يمكن فعل شيء حيالها، مع إيمانة بأنها قضية خاصة واستثنائية، لعائلة عارضت منظمة التحرير الفلسطينية، وعارضت السوريين، وهي واحدة من العائلات العربية القليلة التي تواصلت مع المشروع الصهيوني ودعمته".
راجع هرتزوغ وزير الخارجية الإسرائيلي حينها، آبا إيبان. وللمناسبة كانت علاقة مصاهرة تربط الرجلين. وتشير الوثائق إلى أن هرتزوغ طلب من إيبان مراجعة اللجنة الخاصة لحرس أملاك الغائبين بهدف دعم أصول الليدي كوكرين (سرسق) ، ووافق الأخير. وظهر ذلك جلياً في رسالة وجّهها هرتزوغ إلى إيبان يوم 28 نيسان 1969.
وردّ إيبان على هرتزوغ في رسالة أخرى يوم 30 أيار 1969، أشار فيها إلى أنه تم عرض قضية الليدي كوكرين على اللجنة الوزارية "إلا أنّ جميع أعضاء اللجنة - باستثناء ممثل وزارة الخارجية - صوتوا ضد الطلب. حسب علمي، لا توجد سوابق للإفراج عن أصول غائبين من "الرعايا الأعداء" وكذلك لسكان دولة عربية. لذلك أخشى أنه حتى لو كان هناك إعادة مراجعة لمطالبة السيدة كوكرين، أشكّ أنه سيتم الموافقة على طلبها". وبعدها استقالت الحكومة الإسرائيلية، ورفض الوزير الجديد حينها موشي دايان اتخاذ موقف تجاه القضية. إلا أنّ هرتزوغ قرّر الاستئناف أمام محكمة العدل العليا. فاستمرّ عمله على الملف وجمع الشهادات.
وبينما كان شهادة رعايا يهود تتوالى بإيجابية حول دعم آل سرسق للمشروع الصهيوني، في القضية لدى شركة هرتزوغ فوكس أند نيمان، برزت وثائق أخرى تؤكد أيضاً على دعم رئيس الجمهورية اللبناني الأسبق كميل نمر شمعون لليدي كوكرن. فمن بين الوثائق، كتب شمعون في 8 أيار 1980 نصاً حرفيته: "لمن يهمّه الأمر، أعرف تمام المعرفة الليدي كوكرين وعائلتها، والدها ألفريد سرسق كان رجلاً ذا نفوذ سياسي كبير، ولطالما انتهجت الليدي كوكرين خطاً وطنياً حازماً وواضحاً، الأمر الذي عرّضها لمخاطر. فقد حاربت احتلال لبنان على الدوام، أكان من قبل منظمة التحرير الفلسطينية أو القوات السورية، وقد فعلت ذلك من خلال الصحافة والإعلام".
ويعلّق رئيس الوكالة اليهودية الحالي إسحاق هرتزوغ، وهو نجل حاييم هرتزوغ، أنّ "هذه قصة مذهلة. متى تعاون رئيس لبنان ووزير الخارجية الإسرائيلي في قضية قانونية"؟
وقدم هرتزوغ (الأب) للمحكمة العليا حجة الجنسية الفعالة، مشيراً إلى أنّ الليدي كوكرين متزوجة من ديبلوماسي إيرلندي وتمكّن من إقناع المحكمة بأنّ إقامتها في لبنان كانت لضرورة دبلوماسية. فحكمت المحكمة العليا بضرورة إعادة النظر في القضية. وبعد صدور الحكم، توصل هرتزوغ إلى اتفاق مع اللجنة الناظرة في القضية تنصّ على تقديم تعويض نقدي لليدي كوكرين.
وحول المبلغ الذي تقاضته كوكرين، يقول لينزن إنه "إذا كنت أذكر بشكل صحيح، المبلغ الذي سدّد لها كان ضئيلاً للغاية. كانت هذه مناطق ضخمة في يافا وحيفا، وقد تم التوقيع على الاتفاقية المالية مع سلطة التنمية".
أما بخصوص دعم عائلة سرسق للمشروع الصهيوني، فعلّق مشيراً إلى أنه "أفترض أن لديهم اعتبارات تجارية. ولكن يجب أن لا نغفل أن التعاون حصل في فترة سبقت مرحلة القومية الفلسطينية. كان في تلك الأراضي، مزارعون فلسطينيون يسكنون الأرض ويعملون فيها، وكانوا يعتقدون أن الشعب اليهودي القادم إلى إسرائيل سيكون مفيداً للمنطقة".
من خلال هذه القصة، يمكن القول أنّ ارستقراطية من لبنان، بفضل مالها تمكّنت من تعيين أفضل المحامين ومن الحصول على كتاب من رئيس جمهورية لبنان وموافقة وزير خارجية إسرائيل لاستعادة ممتلكات لها في إسرائيل، وتقول القصة أيضاً أنّ الفقراء البسطاء لن يتمكنوا أبداً من استعادة املاكهم.
ويقول إسحاق هرتزوغ : إن 99.99 في المئة من قضايا ممتلكات الغائبين لن يحصل فيها الناس على ممتلكاتهم إن لم يحصل اتفاق سلام. وحتى لو حصل سلام لن يستعيدوا أراضيهم، بل سيعوّض عليهم مالياً. لا يمكن التخلّي عن الأراضي، وعلى هذا الأمر يرتكز عمل كل المؤسسات والمنظمات هنا".
بعد معرفة وريث الليدي كوكرين، رودريك، بحصول الـ"Globes" على ملف القضية من شركة "هيرتزوغ فوكس أند نيمان"، أبدى اهتماماً كبيراً للحصول على الوثائق الأصلية الموجودة لدى شركة المحاماة. ويقول رودريك للصحيفة إنّ "والدتي كانت امرأة ديناميكية وحازمة للغاية، عزائي أنها ماتت من دون أن تعرف حجم الضرر الذي لحق بمنزلها".
وبعد نشر المقال، قرر مكتب "هيرتزوغ فوكس أند نيمان" نقل ملف القضية إلى قسم الأرشيف في منظمة "ياد حاييم هرتزوغ" حتى يتم حفظ القصة بشكل صحيح. وما زال محامي عائلة هرتزوغ، ورودريك كوكرين سرسق على اتصال.
يخلص هرتزوغ إلى القول إنّ "والدي كان قلقاً للغاية بشأن هذه القضية بسبب الجوانب الصهيونية الحساسة. كان لديه إحساس متطور بالعدالة، وشعر أن هذه هي الطريقة التي يشكر بها عائلة سرسق لموافقتهم على بيع الأرض لمخلّص الأراضي".
تلك القصة تُظهر كيف أن أناسا ربما يحظون باحترام بالغ في المجتمعات العربية، شاركوا وساعدوا ودعموا الحركة الصهيونية لسنوات، وكان لهم دور رئيسي في ضياع فلسطين، و لكن قصصهم مجهولة ما زالت.