صدر في القاهرة عن بيت الحكمة كتاب ( البحث عن مصر ) الكتاب من تأليف الدكتور خالد عزب هذا الكتاب ليس كتابا من فصول متعاقبة ، بل هوكتاب لاثارة الأفكار والأذهان ،فلابد لمصر أن تعيد بناء نفسها ، هويتها .. وفلسفتها .. ولن يأتي ذلك إلا عبراستعادة المجهول والمنسي والمتغافل عنه من تاريخها وتراثها لكي يجري البناء عليه ، هذا يعني أن هناك اشكاليات عميقة في فهم الهوية والذات المصرية وبالتالي الوطن .
البعض يري أن مثل هذه الأطروحات هي من قبيل الرفاهية، وفي واقع الأمر إنها في صلب الحياة وفي صلب فهم مصر ذلك الوطن المركب ذا الطبقات المعقدة والذي يوجد في وجدان المصريين ، إن اعادة اكتشاف الوطن ركيزة أساسية للأجيال الحالية والقادمة .كما يري خالد عزب .
يؤكد خالد عزب أن كل الدول تفعل ذلك ولنا في اليابان مثال وقدوة التي رأت بعد الطفرة الإقتصادية في السبعينيات ولع شبابها بالنموذج الغربي وبثقافة الاستهلاك ، لكن سرعان ما قامت بمراجعة حقيقية وشاملة أحدثت بها توازن في شخصية الأجيال الجديدة في اليابان ، فركزت علي الحداثة والعلم .. نعم .. لكن كان هناك افتخار واستعادة للتراث والتاريخ الوطني علي كافة الأصعدة .
في هذا الكتاب عزيزي القاريء يؤكد لك المؤلف أيضا إن الحديث عن مصر دار خلال القرنين 19 و20 م حول بناء الدولة المركزية المعاصرة على رأسها الحاكم الذي يحدث تحولات جذرية تغير وجه مصر، لكن في حقيقة الأمر أن التحولات الحقيقية في مصر حدثت نتيجة لرغبة المصريين في إعادة بناء مصر بصورة مختلفة وحينما كان رأس السلطة يذهب بعيدا سرعان ما تعود مصر إلى مصر مرة أخري.
إن من الأخطاء التاريخية الشائعة التي يكشفها خالد عزب أن محمد على أول والي عثماني على مصر يولي حكم مصر بناءً على رغبة المصريين، الحقيقة التاريخية أنه خلال القرن17 و18 الميلاديين عزل المصريين عددا من الولاة حينما كانوا يثورون ضد ممارسات السلطة ضدهم، فيحاصروا القلعة ويعزلوا الوالي الذي يغادر مصر ليرسل السلطان العثماني بديلا له، لكن حينما أصر المصريون على عزل خورشيد باشا حدث تحول نوعي إذ فرضوا على السلطان العثماني والي اختاروه وفق شروطهم واشترطوا عليه خريطة طريق لحكم مصر.
نكث محمد على بوعوده مع النخبة المصرية التي صعدت به إلى سدة حكم مصر، بل ونفي عمر مكرم وأبعده وكان هذا رمزا لإنهاء العلاقة بينه وبين النخبة المصرية، بل همش الجمعية وألغاها بعد زمن الجمعية هي مجلس من طوائف المصريين والأمراء والمشايخ وهو تقليد راسخ بدأ على استحياء في العصر المملوكي البحري وتصاعد في العصر المملوكي الجركسي وترسخ في العصر العثماني، كانت الجمعية أشبه ببرلمان صغير يشارك في صناعة القرار خاصة في شئون الحياة اليومية.
حينما وضع محمد على يده على مصر سرعان ما حقق تنمية شاملة ونوعية لكنها كانت تدور في فلك رغبته الشخصية في انهاء حكم الدولة العثمانية وأن يكون هو البديل مع أسرته، تحطم هذا على صخرة الرغبة الأوربية في ابقاء رجل أوربا المريض (الدولة العثمانية) على ما هو عليه لالتهامه قطعة قطعة وهو ما حدث، ليعود محمد على إلى مصر 1840 م بعد اتفاقية لندن ـ، عندئذ كانت البعثات ونخبها عادت وصارت جزءا من منظومة الدولة، فبدأت هي من تطرح تصورات حول مصر نخب طامحة درست وعرفت ما هو المعني الحقيقي للدولة المعاصرة، فكان لها دورها في نقل التنمية من التمحور حول الجيش كأداة لتحقيق طموحات محمد على إلى المشروعات التي تحدث نقلة نوعية في وجه مصر، وعلينا في هذا الصدد أن نراجع ديوان الأشغال ووثائقه، فبدأت مصر تستفيد بصورة كبيرة من حركة نقل البريد البريطاني والركاب عبر مصر، وبدأت حركة تجارة وتصدير غير مسبوقة، أدرك خلالها ابراهيم بن محمد على أن النهضة العلمية هي أداة جيدة لكي يستقر الحكم لأسرة محمد على فزار بريطانيا وبدأ ينظر لها كنموذج مناسب لمصر، غير أن وفاته عقب هذه الزيارة عرقلت هذا المشروع الجديد نسبيا.
كان عباس حلمي الأول مدركا للدور السلبي لنهب مصر من قبل الأجانب، ولخطورة المنافسة الفرنسية البريطانية على مصر، وأدرك من خلال معاصرته لمحمد على في الحكم أن حفر قناة السويس هو مقدمة لاحتلال مصر، لذا انحاز لمشروع بريطانيا وهو إنشاء خط سكة حديد من الإسكندرية للسويس، لنقل البضائع والركاب من وكذلك نقل البريد ولاختصار الوقت بين أوربا وأسيا، فوقع عقد إنشاء السكة الحديد لصالح مصر مملوكا لها وتستفيد من كافة عوائده، لم تغلق المدارس في عهد عباس الأول ولم تتوقف البعثات، بل حافظ على مصر دون ديون، وإنشاء أول مدينة معاصرة كامتداد للعاصمة في صحراء شرق القاهرة (العباسية) وهوما ثبت نجاحه فشيدت مصر الجديدة كامتداد طبيعي لهذا النجاح وشيدت مدينة نصر كامتداد طبيعي أخر لهذا النجاح، كان تحجيم دور فرنسا ومشاريعها دورا في تشويه صورته ثم هناك شكوك في دورها مع بعض أفراد أسرة محمد على في اغتياله بقصره في بنها.
لم يكن سعيد باشا شخصا ذا عقلية فريدة بل بلا طموح حقيقي، لم يتمرن على الحكم كسابقه، لكنه وقع أسوء عقد في تاريخ مصر هو امتياز حفر قناة السويس دون أن تحصل مصر على ما يوازي هذا الامتياز، بل كان المساهمين الفرنسيين هم الرابح الأكبر على حساب الفلاحين الذين عملوا في السخرة وعلي حساب السيادة المصرية والخزينة المصرية، على الجانب الأخر كان لتغلغل النخب ذات الأصول المصرية والتي تعلمت في أوربا دور في بناء دولة عصرية عبر التكنوقراط المصريين الوطنيين الذين سعوا لتكريس الملكيات للأراضي الزراعية لأهالي البلد وهو ما تم، ثم في السعي لتحديد من هم المصريين من سكان مصر، ثم في اصدار عدد من القوانين والأوامر التي تبني هيكلية جيدة ومعاصرة لإدارة الدولة، وتغلغلوا في إدارة شئون الدولة فكانت هناك منهم محاولات إما للحد من سلطات ولي النعم لكن على استحياء شديد أو بتوجيه قراراته وهو ما نجحوا فيه بصورة نسبية.
كانت النخب المصرية المتعلمة في أوربا أو التي حدث لديها نقلة نوعية في الادراك والمعارف نتيجة لانتشار الكتب المطبوعة والمترجمة في عصر الخديو إسماعيل مختلفة، خاصة مع صعود الصحافة التي بدأ معها وعي من نوع مختلف، كان الخديو إسماعيل طامحا إلى حكم بلد من حيث الشكل بلد أوربي الملامح، من حيث المضمون قائم على فكرة أن ولي النعم يملك الأرض ومن عليها أي بمفهوم الاستبداد الشرقي، في الوقت الذي كان المصريون من المتعلمين يرون مصر بنظرة تأمل أن تأخذ بأسباب التقدم على رأسها حكومة بالمعني الحقيقي ووزارة لديها سلطات، المعركة بدأت مع الخديو في الفصل بين مالية الخديو ومالية الدولة، وتحديد سلطات لمجلس وزراء يدير الشأن العام، كانت الصدمة مع هزيمة الجيش المصري في الحبشة هزيمة قاسية، أدت للمناداة بأن مصر للمصريين فالضباط الأمريكيين والأتراك أهملوا في المعركة وكانوا سببا في الهزيمة، وطرحت هذه النخبة خيبات أمل في دولة نحن نتبعها هي الدولة العثمانية والتي كانت أقل تقدما من مصر آنذاك، وتحصل على صرة سنوية ضرائب دون أن تقدم شيئا، وتسببت في امتيازات للأجانب ساعدتهم على نهب ثروات الوطن، هذا كله بلور مصر للمصريين، لكنها دعوة كانت خافتة بسبب عدم تخيل المصريين الخروج من عباءة الدولة العثمانية، تسبب جموح الخديو إسماعيل في ديون قاده لها ارتفاع أسعار القطن نتيجة للحرب في الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مصدر للقطن في العالم آنذاك، فأسرف في الديون وكانت أن توقفت الحرب في الولايات المتحدة وانخفض سعر القطن، فما كان أن عجز عن السداد وباع أسهم مصر في قناة السويس بثمن بخس لبريطانيا لتفقد مصر المكسب الحقيقي من مشروع القناة، وليمهد لمطامع بريطانيا في السيطرة على مصر، خاصة مع عجزة عن سداد الديون الكبيرة، فما كان إلا أن تدخلت الدول الأجنبية في إدارة مصر ثم في احتلال بريطانيا لمصر تحت دعوي حماية مصالح بريطانيا والدول الأوربية والدائنين.
إن الاحتلال البريطاني لمصر واكبه خيانة السلطان العثماني بل اعطي الشرعية لهذا الاحتلال عبر فرمانات متتالية وأحيانا متضاربة، فشاركت قوات تركية مع الجيش البريطاني في احتلال مصر، حتى تصاعدت أثناء وبعد الثورة العرابية بأن مصر للمصريين، وبدأ الصوت الخافت يعلو أن مصالح مصر تقتضي فصل مصر عن الدولة العثمانية، نزل الحزب الوطني الحر الذي كان حزب الثورة العرابية ليعمل تحت الأرض، وكان من أعضاءه محمد عبده وسعد زغلول وعبد الله النديم، وخاض حركة مقاومة ضد قوات الاحتلال وهو ما لم يلقي عليه الضوء إلى الآن.
كان الانجليز ارهقوا من مقاومة المصريين خاصة من التكنوقراط داخل الدولة ثم من المقاومة بصور متعددة، حتى بدأ الانجليز مفاوضات مع الحزب الوطني الحر وتوصل لاتفاقية جلاء الانجليز عن مصر عام 1898 م، كشف عن جانب منها الدكتور عماد أبو غازي ثم ما نشر من الأرشيف العثماني عن وثيقة جلاء الانجليز عن مصر ورفض السلطان العثماني التوقيع عليها لأن بها شرطا بإرسال 6 ألاف جندي تركي لتأمين مصر لحين بناء جيش وطني، وهؤلاء اذا جاؤوا مصر ورأوا حرية الرأي بها سيكونون خطرا عليه بعد ذلك، فكان أن خاض الحزب الوطني الحر مفاوضات لتسوية الأوضاع مرة أخري، نتج عنها عودة عبد الله النديم للحياة العامة هو والمنفيين من الثوار العرابيين، إصدار عملة مصرية فصدر الجنية المصري اعلانا لاستقلال مصر اقتصاديا عن تركيا وبريطانيا، الحد من نفوذ صندوق الدين الذي شكل من إدارة أوربية وسيطر على اقتصاد مصر فوضع مواردها لصالح سداد الديون، خاصة مع فشله في إدارة مرفق السكة الحديد الهام للتجارة المحلية والدولية فعادت الادارة للمصريين الكفاء، وصنعت مصر عام 1898 أول عربة سكة حديد كرمز لهذا، ثم اشترط الحزب الوطني الحر الحصول لا حقا على مقاعد في الوزارة واختار التعليم فعين سعد زغلول وزيرا للمعارف ليعطي الأولوية لزيادة موازنة المعار ف وزيادة عدد المدارس وبناء جامعة مصرية، لإدراكه أن التعليم هو الذي سيقود وعي المصريين، فكان هذا مدخل سعد زغلول لتجميع نخب من الطلاب والمدرسين حوله و المامه بهم ومعرفته بهم ليجدد شباب الحزب الوطني الحر، وهؤلاء هم كانوا نواة الحركة السرية التي أدت لثورة 1919 م، كانت هذه النخبة هي التي تقود آنذاك وتحجم ضمنيا من سلطة أسرة محمد علي، حتى أنها ساندت الاصلاحات التي أدخلها كرومر في ادارة الدولة على النمط الحديث، أي الفصل التام بين مالية الخديو وبين مالية الدولة تحديد صلاحيات كل إدارة مع تحديد صلاحيات الخديو والوزراء ومجلس شوري النواب، هذا ما يقدم تفسيرا حول علاقة النخب به، فقد وطدوا هذه العلاقة بعد فقدان الأمل في الدولة العثمانية ومساندتها للمصالح المصرية، كان هذا ظاهرا بقوة في الصراع المصري العثماني على ترسيم الحدود الشرقية لمصر.
الكتاب ينطلق مما سبق إلي اعادة اكتشاف مصر واعادة تقديم مصر بصورة جديدة من خلال أيضا بناء تصورات للمستقبل فالكاتب يطرح التعليم المدمج كحل لأزمة التعليم في مصر ، ويقدم رؤي لعلاقة المصريين بتراثهم ويبحث عن أسباب غياب النكتة من حياة المصريين المعاصرين ، بل يذهب إلي أبعد من ذلك ، وهذا ما يدعونا إلي دعوة القراء لقراءة الكتاب .