في حديث مطوّل أدلى به منذ أيام لشبكة "فوكس نيوز" الأميركية، نفى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الرجل القوي المسيطر حالياً على عملية صنع القرار في المملكة، ما تردّد من أنباء حول إعلان السعودية وقف المفاوضات المتعلّقة بتطبيع العلاقة مع "إسرائيل"، مؤكداً أن هذه المفاوضات، والتي وصفها بـ "الجيدة" و"الجادّة"، "مستمرة وتحرز تقدّماً كل يوم"، ومعبّراً في الوقت نفسه عن أمله في أن تفضي إلى "شيء ما يسهّل حياة الفلسطينيين ويجعل من إسرائيل أحد اللاعبين في الشرق الأوسط".
وفي إجابته عن سؤال حول ما إذا كان بمقدور المملكة إبرام اتفاق مع حكومة إسرائيلية كتلك التي يرأسها بنيامين نتنياهو حالياً، قال ابن سلمان: "نحن لا نتدخّل فيمن يدير شؤون دولته، ونتعامل مع من يكون في قيادة بلده. وليس لدينا الآن علاقة مع إسرائيل، لكن إذا نجحت إدارة بايدن في التوصل إلى ما أعتقد أنه سيكون أكبر اتفاق تاريخي منذ الحرب الباردة، فسوف نبدأ العلاقة بعد ذلك، وستستمر تلك العلاقة بغض النظر عمن يدير إسرائيل".
وبعد تأكيده أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة للسعودية، أضاف: "نريد للفلسطينيين حياة طيبة"، و"سوف نستمر في الحوار مع إدارة بايدن إلى أن نتأكد من وصول هذا الحوار إلى شيء جيد".
حديث ولي العهد السعودي أثار جدلاً واسع النطاق، فبينما رأى فيه البعض تراجعاً عن موقف السعودية المعلن والمصرّ على التمسّك بالمبادرة العربية، والتي هي في الأصل مبادرة سعودية، رأى فيه البعض الآخر مناورة دبلوماسية ذكية تستهدف كسب الوقت وتجنّب صدام مع إدارة بايدن.
صحيح أنه لم يشر في حديثه أبداً لا إلى المبادرة العربية ولا إلى الدولة الفلسطينية، ولم يربط فيه بين التطبيع وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة خلال حرب 67، كما تنص المبادرة، لكنه لم يتفوّه في الوقت نفسه بشيء يمكن أن يفهم منه أنه مستعد للقبول بما هو أقلّ من دولة فلسطينية مستقلة كثمن لتطبيع العلاقة مع "إسرائيل".
غير أن الجدل الدائر حالياً حول الصفقة الأميركية المقترحة لم يستطع تفكيك إشكاليتها الرئيسية، والتي تتعلق بالربط العضوي بين المطالب الوطنية البحتة التي تخص السعودية وحدها، كدولة وكنظام سياسي، والمطالب المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، وتجنّب الغوص في دوافع ومبرّرات هذا الربط.
للسعودية مطالب من الولايات المتحدة، قديمة ومتجدّدة، بعضها يتعلق بالجوانب الأمنية والدفاعية، وبعضها الآخر يتعلق بالبرنامج النووي السعودي. فالسعودية تريد من الولايات المتحدة أن تبرم معها اتفاقية أمنية تلزمها بالدفاع عنها في حال تعرّضها لغزو أو عدوان من جانب أيّ دولة أخرى، على غرار الاتفاقية المنشأة لحلف شمال الأطلسي، ورفع الحظر المفروض على تزويدها بأنواع معيّنة من الأسلحة المتطورة تكنولوجياً، كطائرات أف 35 وغيرها، كما تريد منها في الوقت نفسه أن تساعدها على أن يكون لديها برنامج نووي يتيح لها تخصيب اليورانيوم على أرضها.
غير أن الولايات المتحدة كانت تتعلّل في الماضي بأعذار متنوّعة، قانونية وسياسية وأمنية، لتبرير رفضها لهذه المطالب، وكلّها أعذار ومبرّرات تدور في معظمها حول حرصها الشديد على أن تظل "إسرائيل" محتكرة للسلاح النووي في المنطقة، وعلى أن يظل "الجيش" الإسرائيلي محتفظاً بتفوّقه النوعيّ، تسليحاً وتدريباً، على كل الجيوش العربية مجتمعة.
غير أن موقف إدارة بايدن من هذه المطالب تغيّر الآن، ومن ثم أصبحت الولايات المتحدة جاهزة ومستعدة للتجاوب مع هذه المطالب، شريطة أن توافق المملكة على تطبيع علاقاتها مع "إسرائيل".
وقد أبدت السعودية استعدادها، من حيث المبدأ على الأقل، للتطبيع مع "إسرائيل" شريطة أن تغيّر الأخيرة موقفها من الفلسطينيين والقضية الفلسطينية. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا ينبغي أن يدور حول طبيعة وأسباب وحدود الربط بين مطالب السعودية من الولايات المتحدة من ناحية، وتلك المتعلقة بالتطبيع وبالقضية الفلسطينية من ناحية أخرى، سواء من المنظور الأميركي أو من المنظور السعودي.
البعض يرى أنه يصعب على السعودية أن تقوم بتطبيع علاقتها بـ "إسرائيل" من دون تقديم شيء ما للفلسطينيين، غير أن بؤرة اهتمامها الحقيقية منصبّة في المقام الأول على مطالبها الوطنية من الولايات المتحدة، ما يعني أن السعودية تسعى في الواقع لاستخدام القضية الفلسطينية كأداة لتحسين موقفها التفاوضي، على أمل أن تنتزع من الولايات المتحدة أقصى تنازلات ممكنة لصالح مطالبها الوطنية.
وإذا صحّ هذا الاستنتاج يُتوقّع أن تكون القضية الفلسطينية هي موضوع المساومة الرئيسي الأكثر عرضة للتنازلات، ما يفسّر انتقال الموقف التفاوضي السعودي من موقع المطالب في البداية بتنفيذ المبادرة العربية وإقامة الدولة الفلسطينية أولاً، كشرط لتطبيع العلاقة مع "إسرائيل" إلى موقع المطالب بـ "تحسين أوضاع الفلسطينيين"، على النحو الذي أشار إليه ولي العهد في حديثه لشبكة فوكس نيوز.
أما من المنظور الأميركي فيبدو الأمر مختلفاً تماماً. فالمسألة الأهم بالنسبة لإدارة بايدن لا تتعلّق في الواقع بتطبيع السعودية لعلاقتها بـ "إسرائيل"، رغم حرصها الشديد على تحقيق هذا الهدف، بقدر ما تتعلق بالرغبة في إبعاد السعودية عن الصين وروسيا والعمل على إدخالها من جديد إلى حظيرة النفوذ الغربي.
فمن الواضح أن الولايات المتحدة تتابع بقلق شديد تطوّر العلاقات بين روسيا والسعودية، خاصة ما يتعلّق منها بتنسيق السياسات حول إنتاج النفط، وبقلق أشد تطوّر العلاقات بين الصين والسعودية، خاصة بعد الدور الهام الذي أدّته الصين لتمكين السعودية وإيران من استعادة علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة منذ سنوات طويلة.
ولأنّ إدارة بايدن تدرك تمام الإدراك أنها لا تستطيع منح السعودية ضمانات أمنية، أو أن توافق على امتلاكها برنامجاً نووياً سلمياً من دون موافقة صريحة من جانب "إسرائيل"، فقد كان من الطبيعي أن يصبح التطبيع بين "إسرائيل" والسعودية هو المدخل المناسب لإغراء "إسرائيل" بالدخول طرفاً في صفقة تستهدف تحقيق عدة أهداف أميركية في الوقت نفسه: إبعاد السعودية عن النفوذين الروسي والصيني قدر الإمكان، تحسين فرص إعادة انتخاب بايدن لولاية ثانية، وتمكين الولايات المتحدة من استعادة نفوذها في منطقة الشرق عبر حليفتها الأولى "إسرائيل".
أظن أن الوقت ما زال مبكراً للحكم على حقيقة النوايا السعودية، وما إذا كان يمكن لدولة تدرك أنها الأكثر ثقلاً وتأثيراً على الساحتين العربية والإسلامية في المرحلة الراهنة، أن تغامر بتطبيع العلاقة مع حكومة هي الأكثر تطرّفاً وعنصرية في تاريخ "إسرائيل". فكلّ المؤشرات تؤكد أن السعودية لا تحتاج مطلقاً إلى مثل هذا التطبيع الذي لن يضيف إليها أي شيء، بل على العكس، سيخصم من رصيدها على مختلف الأصعدة والمستويات، خاصة وأنه قد يؤدي إلى إغلاق كل الأبواب التي انفتحت أمامها بالكاد، ووسّعت من الهامش المتاح لحركتها مؤخراً على الصعيدين الدولي والإقليمي.
فالتنازلات التي يتوقّع أن تقدّمها حكومة "إسرائيل" الحالية لن ترقى بأي حال من الأحوال إلى المستوى الذي يستجيب للحد الأدنى من تطلّعات الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة. ولأنه يصعب تمرير الصفقة الأميركية من دون ممارسة ضغوط حقيقية على السلطة الفلسطينية، بتوقّع أن تؤدي هذه الضغوط إلى تعريض النظام السعودي الحاكم لانتقادات واسعة النطاق، ليس من جانب فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة فحسب، وإنما أيضاً من جانب الشعوب العربية التي لا تزال تحتضن القضية الفلسطينية وتدعمها رغم كل القهر الذي يمارس ضدها من جانب النظم الحاكمة.
على صعيد آخر، ليس من المستبعد أن يؤدي هذا التطبيع إلى وضع نهاية سريعة للتقارب الذي تحقّق مؤخراً مع إيران، وللانفتاح الذي تحقّق مؤخراً مع كل من روسيا والصين. وأعتقد أنه سوف يكون من الخطأ البالغ الاعتقاد بأن الصفقة التي تعدّها إدارة بايدن حالياً هي مسألة إقليمية تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، أو بعلاقة الولايات المتحدة مع بعض الدول الشرق أوسطية، فالواقع أن لهذه الصفقة أبعاداً جيوستراتيجية واضحة، وبالتالي لها صلة وثيقة بالصراع الدائر على الساحة العالمية للانتقال إلى نظام دولي جديد ينهي حالة القطبية الأحادية، ويؤسس لنظام متعدد القطبية.
ففي تقديري إن لهذه الصفقة علاقة قوية بالإعلان الذي صدر في نهاية قمة العشرين التي انعقدت في نيودلهي منذ أيام قليلة، والخاصة بإقامة ممر اقتصادي يربط الهند بأوروبا، ويمرّ بكل من الإمارات والسعودية والأردن و"إسرائيل"، وهو المشروع الذي هلّل له بنيامين نتنياهو.
فقد اعتبرت الصين أنها المستهدف بهذه الضربة، وردّت بدعوة الرئيس بشار الأسد، رئيس سوريا المحاصرة أميركياً وإسرائيلياً، لزيارتها والتوقيع على اتفاق تعاون استراتيجي فيما بينهما. وإن دلت هذه الخطوة على شيء فإنما تدل على أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت، ربما أكثر من أي وقت مضى، في قلب الصراع الدائر للمنافسة على قيادة النظام الدولي.
لا تحتاج السعودية لتطبيع علاقتها مع حكومة تنكّل صباح مساء بالشعب الفلسطيني، ولا تخفي نواياها الخاصة بهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان مكانه، والأفضل لها أن تتريّث قليلاً وأن تؤجّل الحسم في هذا الموضوع إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة، خاصة وأنها تستطيع الحصول على السلاح الذي تريده، وعلى برنامج نووي للأغراض السلمية من مصادر أخرى يمكن الوثوق فيها بشكل أفضل.
* المفكر المصري عضو مجلس أمناء النهضة العربية (أرض)
اقرأ ايضا: لماذا تمنع إسرائيل إجراء اختبارات الحمض النووي؟
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"