لم تكن شيرين أبو عاقلة على مدى ما يقارب ربع قرن أول ضحية تسقط أثناء أداء واجبها المهني، فقد سقط قبلها آلاف الضحايا من الصحافيين والإعلاميين في مختلف أنحاء العالم، ولن تكون آخرهم قطعاً، فمهنة الصحافة والإعلام، وخصوصاً حين تمارس في مناطق الحروب والصراعات الساخنة، تنطوي بطبيعتها على قدر لا بأس به من المخاطر، فاحتمالات التعرض للقتل، خطأ أو عمداً مع سبق الإصرار والترصد، مسألة واردة في كل وقت وحين.
ومع ذلك، لم يسبق، في حدود علمي، أن حظي مصرع أي صحافي من قبل أثناء تغطيته الأحداث بتغطية إعلامية وردود أفعال رسمية وشعبية توازي تلك التي برزت في أعقاب عملية اغتيال شيرين أبو عاقلة.
عوامل عديدة أسهمت في تحويل هذه العملية إلى حدث فريد من نوعه، أهمها، في تقديري، ثلاثة: سمات شيرين الشخصية ومستوى أدائها المهني والفني، وطبيعة القضية التي ارتبطت بها في حياتها المهنية، وتوقيت عملية الاغتيال نفسها وملابساتها.
كانت لشيرين "طلة" إعلامية خاصة ومتميزة جداً، شكَّلتها قسمات وجه مريح وباسم من دون تكلف أو افتعال، ونبرات صوت هادئ وعميق يعكس ثقة بالنفس، ولغة عربية سلسة ومتدفقة تتسم بالرزانة، والأهم من ذلك كلّه تغطية للحدث تعكس مستوى رفيعاً من الأداء المهني والحرفية.
ولأنَّ البحث عن الحقيقة كان هدف شيرين الأسمى والدائم، فقد اتسمت أغلب تقاريرها الإعلامية بالدقة والموضوعية، وكانت كثيراً ما تقدم للمشاهد معلومات جديدة مؤكدة وموثقة. ورغم كونها فلسطينية تغطي ما يجري على أرض وطنها المحتل، فإنَّ إيمانها بعدالة قضيتها الوطنية التي انبرت للدفاع عنها، لم يمنعها من توخي أقصى درجات المهنية والاحترافية عند معالجتها موضوعات التغطية المختلفة.
وسواء تعلّق الأمر بتحليل الانتخابات، أو بتقصّي أبعاد مشروعات استيطانية رسمية أو عشوائية تم إقرارها، أو بتغطية عمليات المقاومة المسلحة، أو عمليات ترحيل الفلسطينيين من أحيائهم وهدم بيوتهم، أو بإجراءات عسكرية انتقامية يقوم بها الاحتلال لتعقّب المقاومين في المدن والمخيمات، كانت شيرين تحرص دوماً على تحري الدقة في جمع المعلومات وعرضها بطريقة بسيطة ومحببة، وتتجنب أسلوب الخطابة أو الرتابة أو الاستعراض.
لذا، اتسمت تقاريرها بالرصانة والبعد عن الانفعال والافتعال، واهتمت بشكل خاص بالتفاصيل والأبعاد المتعلقة بأوجاع الإنسان الفلسطيني البسيط المسحوق في أرضه المحتلة، والذي يتعرض يومياً ودائماً لأشكال عديدة من المعاناة، حين يجد نفسه مضطراً إلى الوقوف ساعات طويلة أمام الحواجز الأمنية، أو حين يستولي المحتل الغاصب على أرضه ويهدم بيته، أو حين يتعرض للاعتقال والسجن والتعذيب تارة، وللقتل تارة أخرى، إن قرر أن يصرخ ألماً أو يدافع عن حقوقه المغتصبة. لذا، يمكن القول إن شيرين كانت من أكثر الإعلاميين إحساساً بمعاناة الإنسان الفلسطيني البسيط والتصاقاً بهمومه، وهو ما تميزت به كثيراً وتفوقت به على نفسها وعلى غيرها.
ارتباط شيرين العميق بقضيتها الوطنية، كفلسطينية، وهي قضية شعب تم اغتصاب الجزء الأكبر من أرضه، وتشريد معظمه في المنافي والمخيمات، وإخضاع من تبقى منه لسطوة وجبروت نظام فصل عنصري يمارس كلّ أشكال القمع والاضطهاد اليومي ضد أصحاب الأرض الأصليين، كان في مقدمة العوامل التي أسهمت في صقل عقلية شيرين وأتاحت لها في الوقت نفسه الفرصة لاكتساب شهرة وشعبية كبيرتين، ليس في الداخل الفلسطيني فحسب، إنما باتساع العالم العربي كله أيضاً.
ولأن القضية الفلسطينية تعرضت عبر تاريخها الطويل لمحاولات تشويه متعمدة ومتكررة، ليس من جانب المشروع الصهيوني والقوى الدولية الداعمة له فحسب، ولكن أيضاً من جانب العديد من الأنظمة العربية، وحتى من جانب بعض التيارات الفلسطينية التي اتخذت منها وسيلة للربح أو المتاجرة والمزايدة، فقد ظلَّت بحاجة ماسة ودائمة إلى من يعيد إليها نقاءها وبهاءها، باعتبارها واحدة من أنبل القضايا السياسية والإنسانية في العالم.
ولا جدال في أنَّ شيرين كانت من بين من أسهموا بإخلاص وتجرد في وضع القضية الفلسطينية على المسار الصحيح، فقد أدركت هذه المواطنة الصالحة المؤمنة بعدالة قضيتها أنَّ الدفاع عنها لا يكون بالسيف فقط، أي بالمقاومة المسلحة وحدها، إنما يمكن أن يتم بأشكال ووسائل وطرق عديدة، ومن ثم عرفت كيف تستخدم الإعلام، الذي اختارته مهنة وحرفة، أداة للمقاومة وتعميق الوعي بعدالة قضيتها، وهو ما نجحت فيه تماماً.
لقد تمكَّنت عبر تقاريرها الإعلامية من كشف الوجه القبيح والبشع للمشروع الصهيوني الذي لا يمكن، بحكم طبيعته ومقوماته، إلا أن يفضي إلى نظام فصل عنصري لا يقل بشاعة عن نظام الأبارتهايد الذي ساد في جنوب أفريقيا ردحاً من الزمن قبل أن ينتهي به المطاف في مزبلة التاريخ.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن شيرين أبو عاقلة نجحت في تقديم نموذج يحتذى لإعلامية ناجحة قادرة على الجمع بين عمق إيمانها بعدالة قضيتها الوطنية التي تستحق الدفاع عنها والالتزام في الوقت نفسه بأقصى درجات المهنية والتجرد في تغطياتها إلإعلامية، وذلك في تناغم تامٍ لا تقدر على الوصول إليه إلا قلة قليلة من الإعلاميين المتمكنين. وربما كان هذا هو أحد الأسباب التي جعلت من شيرين هدفاً تسعى "إسرائيل" لاستئصاله وإزاحته، تماماً مثلما تسعى لاستهداف كلّ من يحمل السلاح لمقاومة المشروع الصهيوني واستئصاله.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ عملية اغتيال شيرين أبو عاقلة جرت في وقت كانت القضية الفلسطينية قد دخلت منعطفاً حاداً، بل ومأزقاً أحس من خلاله الشعب الفلسطيني أنه تُرك ليواجه مصيره وحيداً أمام آلة القتل الإسرائيلية الوحشية والجهنمية؛ فقبل وقوع هذه العملية بوقت ليس بالقصير، كانت الجهود السياسية الرامية إلى إقامة دولة مستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 توقفت وانهارت تماماً، ومن ثم أصبحت إمكانية تحقيق هدف إقامة دولة فلسطينية، ولو على جزء يسير من وطنها التاريخي، حلماً بعيد المنال.
المؤسف هنا أن التعنت الإسرائيلي الرافض كلياً إقامة مثل هذه الدولة لم يكن وحده المسؤول عن الوصول إلى هذا المأزق، إنما تسبب به أيضاً انهيار النظام الإقليمي العربي وتخليه عن مسؤولياته تجاه القضية الفلسطينية، فقد تخلت معظم الأنظمة العربية عن المبادرة التي أقرتها في قمة بيروت في العام 2002، وهي المبادرة التي ربطت بين التطبيع وانسحاب "إسرائيل" من كل الأراضي العربية التي احتلتها في 67 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وخصوصاً بعد إعلان "صفقة القرن" الأميركية التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مجرد قضية إنسانية يمكن معالجتها بتقديم بعض المعونات الاقتصادية، وراحت تتجاوب، طوعاً أو كرها، مع المطالب الأميركية بتطبيع العلاقة مع "إسرائيل" دونما انتظار لانسحاب من أراض عربية محتلة أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وقد ضاعف إحساس الشعب الفلسطيني بالمأساة انقسام الحركة الفلسطينية على نفسها، الأمر الذي ساعد على تكريس الحصار المفروض على قطاع غزة، وأغرى "إسرائيل" بالتمادي في غيها وشنّ سلسلة من الحروب عليه، إضافة إلى تسريع معدلات الاستيطان والتهويد للأراضي والمدن الفلسطينية، وخصوصاً القدس، بل وصل الأمر إلى حد الإقدام على انتهاك حرمات المسجد الأقصى وارتفاع نبرة الأصوات المتطرفة المطالبة صراحة بهدمه لإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
وفي هذه الأجواء المعتمة، اندلعت معركة "سيف القدس" التي ساهمت في إشعال صحوة فلسطينية ترددت أصداؤها في كل ربوع فلسطين التاريخية، وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ الشعب الفلسطيني، بجناحيه المسيحي والإسلامي، وبكل مكوناته في الضفة والقطاع والشتات والأراضي المحتلة في العام 1948، مصمم على مقاومة المشروع الصهيوني بكل ما أوتي من قوة، حتى لو تخلت عنه كل الأنظمة العربية.
وفي سياق هذه الصحوة الفلسطينية المتألقة منذ معركة "سيف القدس"، جاء اغتيال شيرين أبو عاقلة ليزيد هذه الصحوة بريقاً وتماسكاً. لذا، لم يكن غريباً أن تقرع أجراس الكنائس حزناً على رحيل هذه الأيقونة الفلسطينية، وأن تعلو التكبيرات من منابر المساجد ترحماً على استشهادها.
ربما كانت شيرين أبو عاقلة، في حياتها، مصدر إزعاج للنظام الإسرائيلي الذي أسهمت في تعريته وكشف طبيعته العنصرية، ما دفعه إلى اغتيالها بدم بارد مع سبق الإصرار والترصد، لكنها تحولت، في مماتها، إلى مصدر أرق له لن ينتهي إلا بزواله.
هذا النظام العنصري الأحمق لم يكتفِ بتحطيم جمجمة هذه السيدة الراقية في مدخل مخيم جنين؛ رمز الصمود الفلسطيني، إنما أصر على تعقب جثمانها الطاهر حتى مثواه الأخير في القدس، وراح جنوده ينهالون بالضرب على مشيعيه الذين احتشدوا حوله بالآلاف، محاولين نزع العلم الفلسطيني الذي لف به، وكأن هذا العلم قنبلة نووية يجري نزع صمام أمانها حتى لا تنفجر في وجه "إسرائيل".
دلالة هذا المشهد الهمجي غير المتحضر لم تخفَ على كثيرين، بمن فيهم الصحافي الإسرائيلي شلومي إلدار الذي كتب يصفه قائلاً: "حين يرى أي إنسان عاقل أشخاصاً يرفعون نعشاً في داخله جثة، ثم ينهال عليهم ضرباً، فما هي كمية الكراهية التي يمكن أن تكون بداخله حتى يقدم على فعل مشين كهذا؟ على الشرطة التي تعتبر نعش الأموات عدواً خطراً أن تدرك أن هذا دليل ضعف، وليس قوة، ومن ثم علينا جميعاً أن نشعر بالخجل... سوف يختفي أثر الضرب، لكن العار سيبقى". لذا، ستبقى شيرين أبو عاقلة أيقونة متوهجة تلهم النضال الفلسطيني، وسيظل اغتيالها عاراً على جبين المشروع الصهيوني لن يمحوه إلا سقوطه وانهياره.
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيـــــاة"