أحداث فلسطين تسقط القناع عن دبلوماسية "إسرائيل" الرقمية

مشاركة
دار الحياة 03:19 م، 15 يونيو 2021

بقلم: لندا شلش 

المنصات الرقمية التي توظفها "إسرائيل" منذ نحو عقد لتلميع صورتها عربيًّا وعالميّاً، هي ذاتها التي عرّت سياساتها وأسقطت القناع عن وجهها الحقيقي خلال الأحداث الأخيرة، حتى انقلب السحر على الساحر.

رغم التكاليف الباهظة للعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، فإنه أعاد تعريف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وفق مفرداته الأولى، وأيقظ الضمير العالمي إزاء الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. في الواقع، مثّل هذا العدوان مع ما سبقه من هبَّة شعبية انطلقت من القدس وحيّ الشيخ جراح إلى كل جزء من فلسطين التاريخية، لحظة فارقة في الوعي الجمعي الفلسطيني والعالمي، وتحدياً واضحاً لكل محاولات الاحتلال لتجميل صورته خلال العقد الأخير.

في الواقع، لم يكن ذلك ليحدث لولا نجاح الفلسطينيين في توظيف الإعلام الرقمي لتوثيق الاعتداءات الإسرائيلية خلال الأحداث الأخيرة، ونقلها للعالم أولاً بأول.

المفارقة هنا أن المنصات الرقمية التي توظفها "إسرائيل" منذ نحو عقد لتلميع صورتها عربيًّا وعالميّاً، هي ذاتها التي عرّت سياساتها وأسقطت القناع عن وجهها الحقيقي خلال الأحداث الأخيرة، حتى انقلب السحر على الساحر. فبينما كانت تطمح تل أبيب إلى جرّ المزيد من العرب نحو التطبيع، كانت النتيجة معاكسة تماماً، إذ حصد الفلسطينيون تطبيعاً عالميّاً مع قضيتهم، تَمثَّل بموجة من المظاهرات وحملات التضامن التي تنادي بحرية فلسطين وإنهاء الاحتلال.

تغير سياسي

أحدثت التطورات الأخيرة في فلسطين تغييراً جوهريّاً في توجهات الرأي العام العالمي، بعد أن كان بمعظمه يدافع عن "إسرائيل"، ويرفض حقيقة اعتبارها دولة محتلة، حتى ظهر من القوم مَن يعترف جهاراً نهاراً بسرقة البيت الذي يقطنه في حي الشيخ جراح شرق القدس المحتلة، إذ شكّلَ اعتراف المستوطن الإسرائيلي يعكوف، بسرقة منزل عائلة الكرد الفلسطينية في الحيّ، نقطة تحول في الموقف الدولي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتغييراً في وجهات النظر العالمية نحو "إسرائيل"، مقابل جذب التضامن الدولي مع الفلسطينيين. زاد حجم هذا التضامن مع العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، لا سيما مع انتشار صور الدمار وضحايا المجازر الإسرائيلية في القطاع.

كان من بين التغيرات في المواقف السياسية ما أظهرته النائبة في الكونغرس الأمريكي أليكسندرا أوكازيو كورتيز من دعم للفلسطينيين، بعد أن وصفت "إٍسرائيل" بأنها "دولة أبارتايد"، فيما طالب نواب آخرون الحزب الديمقراطي -الذي لطالما كان من المناصرين لإسرائيل- بوقف الدعم الأمريكي لتل أبيب، إذ استنكر السيناتور الشهير بيرني ساندرز دعم واشنطن لحكومة يمينية في "إسرائيل" عوضاً عن التقريب بين شعوب المنطقة، كما طالب النائب مارك بوكان إدارة جو بايدن بإدانة معاناة الفلسطينيين المستمرة. من جانب آخر، دفع أعضاء في الحزب الديمقراطي باتجاه تأخير تزويد تل أبيب بحزمة من المعدات العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، كان للنائبتين الأمريكيتين من أصول عربية وإسلامية، رشيدة طليب وإلهان عمر، دور بارز في إظهار معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال.

توالت المواقف الداعمة لفلسطين في دول أخرى، ففي بريطانيا دعا رئيس حزب العمال البريطاني كيم ستارمر إلى وقف الاعتداءات الإسرائيلية على المصلين في المسجد الأقصى، فيما وجّه رئيس الحزب الأسبق جيريمي كوربين اللوم إلى "إسرائيل" على التصعيد العنيف في حي الشيخ جراح. وفي اسكتلندا أدانت رئيسة الوزراء نيكولا ستيرجن الاعتداءات الإسرائيلية في القدس خلال شهر رمضان. أما البروفيسورة الألمانية هيلغا غارتنا فأثارت غضب الألمانيين على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن وجهت انتقاداً حادّاً إلى "إسرائيل" في أعقاب أحداث القدس وحيّ الشيخ جراح، مطالِبةً بإنهاء احتلال فلسطين الممتدّ منذ ما يزيد على نصف قرن. موقف هيلغا كان صادماً للحكومة الألمانية أيضاً، التي رفضت إدانة "إسرائيل".

مشاهير ومظاهرات دعماً لفلسطين

توسعت مظاهر الدعم للفلسطينيين لتشمل عديداً من رموز الثقافة ومشاهير كرة القدم والفنانين وعارضات الأزياء وغيرهم من النجوم ممن لديهم ملايين المتابعين عبر المنصات الرقمية. من بين هذه الشخصيات المغنّي البريطاني روجر ووترز، الذي وصف الاعتداءات الإسرائيلية على غزة والقدس بالإبادة الجماعية، داعياً الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى وقف دعم "إسرائيل". أما عارضة الأزياء الأمرييكية (فلسطينية الأصل) بيلا حديد فنشرت على إنستغرام صور مشاركتها في مظاهرة داعمة للفلسطينيين في نيويورك وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية، كما دعم الفنان السنغالي بوبو نيانغ الفلسطينيين مستخدماً الكوفية الفلسطينية لرسم وجه شاب فلسطيني ملثَّم، أمام ما يزيد على 2.7 مليون متابع على إنستغرام.

انضمت النجمة العالمية ناتالي بورتمان، إسرائيلية الأصل، إلى كوكبة المشاهير المتضامنين مع الفلسطينيين، إذ نشرت توضيحاً بعنوان "ماذا تعرف عن حي الشيخ الجراح؟" عبر الاستوري الخاصة بها على إنستغرام. كما وضعت ألبا فلوريس نجمة المسلسل الشهير "لاكاسا دي بابيل" صورة العلم الفلسطيني على حسابها في تويتر، دعماً لفلسطين. بدورها دعت المغنية زندايا نحو 94 مليون متابع لها على إنستغرام إلى جمع تبرعات للشعب الفلسطيني، أما نجم هوليوود مارك روفالو، صاحب شخصية فيلم "الرجل الأخضر"، فقد دعا إلى تطبيق عقوبات على "إسرائيل" لتحرير فلسطين.

لم يغب التضامن عن مشاهير كرة القدم، إذ طلب بول بوغبا نجم فريق مانشستر يونايتد من متابعيه على إنستغرام الدعاء لفلسطين، وبعد ذلك رفع مع زميله ديالو العلم الفلسطيني بعد نهاية مباراتهم مع فريق فولهام، وسط تصفيق حارّ من الجماهير.

في مشهد تفاعلي آخر، ضجت شوارع العديد من عواصم العالم بالمظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني والمنددة بالسياسات الإسرائيلية. بدأت هذه التحركات من تركيا وإندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية حتى وصلت إلى عواصم ومدن غربية وأوروبية مثل واشنطن ولندن وبرلين ومالمو السويدية وبروكسيل ومكسيكو سيتي وأستراليا وغيرها. وقد اتشحت المظاهرات بالعلم الفلسطيني، فيما نادى المتظاهرون بالحرية لفلسطين وإنهاء الاحتلال. كما شهد محيط السفارات الإسرائيلية في العديد من المدن احتجاجات على الجرائم الإسرائيلية خلال الحرب الأخيرة على غزة.

السحر ينقلب على الساحر

قد يعتبر البعض التفاعلات الدولية مع القضية الفلسطينية مؤخراً أمراً عابراً ومؤقتاً، في وقت لا يزال فيه الكثير من السياسيين الغربيين مناصرين لـ"إسرائيل"، ولكن مما لا يدع مجالاً للشك أن العالم بدأ يضيق ذرعاً بسياسات تل أبيب، وأن الأحداث الأخيرة مثّلَت نقطة تحول في الطريقة التي ينظر بها الرأي العامّ العالمي إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ لم يعد يُنظَر إليه كنزاع بين طرفين غير متكافئين في القوة فقط، بل بات يمثّل قضية حرية وعدالة وتمييز عنصري.

في المحصلة، وجّهَت التغطيات الإعلامية المكثفة للأحداث ضربة للدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية التي نشطت خلال العقد الأخير لإظهار "إسرائيل" بقناع جديد، وهو ما أثر في سردية القضية الفلسطينية، وحجم التضامن مع الفلسطينيين.

ومع اندلاع الهبَّة الشعبية في القدس وما تلاها من تمدُّد للعنف ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 والضفة الغربية، ثم قطاع غزة، سقط القناع عن تلك الدبلوماسية التي كانت تروّج لدولة إسرائيلية مسالمة، ذات نظام ديمقراطي.

اقرأ ايضا: لماذا تمنع إسرائيل إجراء اختبارات الحمض النووي؟

ورغم انحياز العديد من المؤسسات الإعلامية الغربية التقليدية (مثل نيويورك تايمز، ودويتشه فيله، وسي إن إن) للرواية الإسرائيلية، وتواطؤ منصات التواصل الاجتماعي معها، فإن الفلسطينيين والداعمين لهم نجحوا في إيصال الصورة الحقيقية إلى العالم. وهكذا، تغيرت المعادلة وانقلب السحر على الساحر، فالإعلام الرقمي المستخدَم لتجميل صورة الاحتلال هو ذاته الذي عرَّاه أمام العالم، وأفشل مخططات الدعاية الإسرائيلية التضليلية، وبالتالي هزم معركة "كيّ الوعي" التي اتبعتها "إسرائيل" لسنوات لتذويب القضية الفلسطينية.