في تزامن يجمل طبيعة الوضع في المنطقة، زار وفد وزاري سعودي بغداد، فيما كان الرئيس الإيراني حسن روحاني يستعد لإنهاء زيارته الرسمية للعراق من مدينة النجف التي وصلها قادما من العاصمة لمقابلة آية الله علي السيستاني.
ولم تكن الزيارة السعودية مفاجئة بحد ذاتها، لكن توقيتها الذي لم تَخْفَ علاقته بوجود روحاني في بغداد، يقدم نموذجا لطبيعة الصراع الإقليمي الراهن، وعلاقته بالموقف الأمريكي الذي بدا هامشيا وبلا وسائل ضغط، في مواجهة استحواذ إيران على العراق.
ومع بدء زيارة روحاني للعراق في الحادي عشر من مارس/آذار الجاري، كتب وزير الخارجية العراقية الأسبق هوشيار زيباري تغريدة على حسابه في موقع تويتر قال فيها إن الزيارة تبدو طبيعية نظرا للعلاقات بين البلدين، لكن توقيت الزيارة يبعث برسالة واضحة وقوية إلى الولايات المتحدة والدول العربية الخليجية مفادها أن "إيران لها اليد العليا في العراق بنخبه السياسية ومؤسساته الدينية".
وبدا من النتائج المعلنة لزيارة روحاني أنها حققت بالفعل أكثر من هدف، فهي أوصلت رسالة واضحة للولايات المتحدة فحواها أن العراق لا يمكن أن يخرج من خانة النفوذ الإيراني، ولن يشارك في الأجندة الأمريكية لعزل إيران وربما لضربها، بل على العكس تماما من مساعي إدارة الرئيس دونالد ترمب، فقد حصلت إيران خلال تلك الزيارة على مكاسب اقتصادية وسياسية، تمنح اقتصادها المختنق بالعقوبات الأمريكية جرعة إنعاش جوهرية كبيرة ومؤثرة.
ولكن، هل تحد زيارة الوفد السعودي، الذي لحق بالإيرانيين إلى بغداد، من مكاسب زيارة روحاني، أم إن نفوذ طهران في العراق صار أكبر من قدرة الرياض وغيرها على تخطيه أو تحجيمه، لا سيما وأنه نتاج لسنوات طويلة من الاستثمار الاستراتيجي الذي رافق الغزو الأمريكي عام 2003، وتواصل بعد ذلك لسنوات ليشمل القنوات السياسية بنخبها ومؤسساتها، والمجال الاقتصادي والكيانات الأمنية والعسكرية، وقد جرى كل ذلك بمعاونة الولايات المتحدة أو على الأقل تحت سمعها وبصرها، حتى نهاية فترة ولايتي الرئيس باراك أوباما في مطلع العام 2017، من دون أن يتبدى طوال هذه السنوات أي سلوك سعودي أو عربي ذو شأن أو تأثير في مواجهة النفوذ الإيراني.
النفوذ الإيراني في العراق
بعد عامين من الغزو الأمريكي نشرت مجموعة الأزمات دراسة مطولة حول النفوذ الإيراني في العراق قالت فيه إن الاستراتيجية الإيرانية في العراق تعتمد ثلاثة محاور متزامنة هي: "التشجيع على ديمقراطية الانتخابات (كوسيلة لإنتاج الحكم الشيعي)؛ والترويج لخلق درجة من الفوضى بحيث تكون سهلة الانقياد (وذلك لإحداث اضطراب مطوّل ولكن قابل للسيطرة عليه)؛ والاستثمار في سلسلة واسعة من الفاعلين العراقيّين المتنوعين، الذين كثيرا ما يكونون منافسين (لتقليل المخاطر إلى الحدّ الأدنى في أيّة نتيجة يمكن تصوّرها) (1).
ورغم أن ذلك الاستنتاج كان مبكرا، ووقعت بعده أحداث كثيرة، إلا أنه يمكن تصور أن إيران استخدمت محاور تلك الاستراتيجية، بل وتجاوزتها بشكل كبير، قبل أن تبدأ بجني ثمارها لاحقا من خلال تأسيس ركائز قوة ونفوذ حقيقين في مؤسسات الدولة وفي المرافق الاقتصادية والأمنية والعسكرية.
استفادت إيران بشكل مباشر من حلفائها من الزعماء (الشيعة) الذين منحتهم الولايات المتحدة فرص كاملة للسيطرة على مؤسسات الدولة، وظل هؤلاء جزءا مباشرا من تكتيكات إيران في التعامل مع الولايات المتحدة في العراق، وكانت طهران تستخدمهم للتواصل والتنسيق مع واشنطن، أو لدفع العراق نحو "حافة الهاوية كوسيلة لممارسة الضغط على الولايات المتحدة لتقديم تنازلات هناك أو على جبهات إقليمية أخرى" (2)، وفي نهاية المطاف تسبب غياب أو على الأقل عدم وضوح الاستراتيجية الأمريكية في العراق بمنح الجانب الإيراني زخما إضافيا، وتمكنت طهران من ملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق في نهاية عام 2011.
لقد تسبب كل من "الغزو الأمريكي للعراق وتفكيك الجيش العراقي في تمكين طهران من ترجيح ميزان القوى في بغداد لصالح الأحزاب الإسلامية الشيعية المتأثرة بالنفوذ الإيراني" (3)، وبطيعة الحال فقد تسبب هذا الواقع بتهميش دور الولايات المتحدة لصالح إيران التي شرعت مستفيدة من وجود تنظيم الدولة وسيطرته على الموصل في أواسط 2014، في تأسيس ميليشيات مؤيدة لها، وفي نشر (مستشارين) وضباط من الحرس الثوري في العراق تحت عنوان محاربة التنظيم، وكان هذا الواقع الجديد كفيلا بتغيير موازين القوة بشكل حاسم لصالح إيران حتى مع حقيقة المشاركة النشيطة للقوات الأمريكية وقوات دول عديدة أخرى في محاربة التنظيم.
وحقيقة الأمر أن "الاستثمار" الأمريكي في العراق كان يفوق ما بذلته إيران منذ بدء الغزو؛ فقد أنفقت واشنطن أكثر من تريليوني دولار نفقات مباشرة (4)، فضلا عن خسارتها، حسب المعلومات الرسمية لوزارة الدفاع الأمريكية، نحو 4500 قتيل من جنودها وعشرات الآلاف من الجرحى، بما في ذلك 73 قتيلا ونحو 300 جريح بعد الانسحاب في نهاية 2011 (5). غير أن جزءا مهما من كل هذه التكاليف، كان يصب في صالح القوى والكيانات المتحالفة مع إيران أو التابعة لها مباشرة، بما في ذلك تسرب الأسلحة الأمريكية الحديثة إلى الميليشيات الموالية لإيران.
وحسب تقارير نشرت في الولايات المتحدة فإن الميليشيات الموالية لإيران المنضمة للحشد الشعبي العراقي استولت على أسلحة نوعية أميركية اشتراها العراق من الولايات المتحدة بمليارات الدولارات، من بينها دبابات أبرامز المتطورة التي اشترى منها العراق 140 دبابة في عام 2008 قبل أن تنتقل أعداد منها بطريقة غير معروفة إلى الميليشيات الموالية لإيران، ومنها ميليشيات تعتبرها الولايات المتحدة منظمات إرهابية (6). وقد احتجت الولايات المتحدة لدى الحكومة العراقية على حصول الميليشيات على دبابات أبرامز. وحسب مسؤولين عسكريين أميركيين فإن الحكومة في بغداد سحبت الأسلحة من الميليشيات، لكن ذلك لم يتأكد بعد أبدا. كما أن الحكومة العراقية التي لم تناسبها التقييدات الأمريكية الخاصة بمصير الأسلحة وأهداف استخدامها، لجأت إلى روسيا لتكون المورد الجديد للأسلحة، واستبدلت دبابات أبرامز الأمريكية بدبابات (تي 90) الروسية، وكانت هذه بداية آلية جديدة لتسليح الجيش العراقي قد تنتهي بانتفاء الحاجة للدعم العسكري الأمريكي، وهو ما يعني انتهاء أهم ما بقي من ركائز النفوذ الأمريكي في العراق (7).
زيارة روحاني والسيطرة على الملف العراقي
لم تكن زيارة روحاني للعراق الأولى لرئيس إيراني بعد الغزو، فقد سبقه الرئيس الأسبق أحمدي نجاد الذي زار بغداد في فبراير/شباط 2008. وقد جاءت تلك الزيارة في غمرة اتهامات متبادلة بين إيران والولايات المتحدة قبل نهاية ولاية الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، لكن القوات الأمريكية التي كانت تسيطر على الأمن في العراق وفرت الحماية اللازمة للرئيس الإيراني.
في تلك الزيارة كانت الولايات المتحدة تأمل أن تتمكن من احتواء النفوذ الإيراني أو منح أصدقائها العراقيين فرصة للسيطرة عليه، لكن ذلك لم يحدث، إذ كانت إيران ترى فعليا أن فرصها بجعل العراق حديقة خلفية للأمن والاقتصاد أكبر من أية تقييدات أميركية، وهو ما تأكد خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، وزاد عليه تطور الأحداث في سوريا ومن ثم الحرب مع تنظيم الدولة، وكلاهما منحا إيران فرصة فتح خط بري يربط طهران بالبحر المتوسط، وهو ما منحها امتيازا استراتيجيا مهمّا وجوهريا.
زيارة روحاني للعراق تأتي وسط مناخ النتائج الجيوستراتيجية المتحصلة من التغلغل الإيراني في الإقليم، وفي مقدمة ذلك العراق وسوريا. ولم تكن هناك قوات أمريكية توفر لروحاني الحماية كما حصل مع سلفه نجاد. عدا عن ذلك فقد جاءت الزيارة في سياق نفوذ اقتصادي إيراني مؤثر بقوة في العراق، والأهم أنها استندت لضمان نجاحها إيرانيا على نفوذ أمنى مباشر على الوضع في العراق من خلال الميليشيات التابعة لإيران وقادتها الذين يقودون الحشد الشعبي المتعاظم القوة في العراق.
هذه السياقات المتوازية الأمنية والاقتصادية والسياسية حدت بالرئيس روحاني إلى اعتبار أن زيارته للعراق كانت "نقطة تحول بالنسبة للبلدين"، وهو توصيف قريب من الدقة، وقد عبرت عنه أرقام التبادل الاقتصادي والتجاري التي تقرر أن ترتفع من 12 مليار دولار سنويا إلى 20 مليارا، كما جرى توقيع اتفاقيات تربط الاقتصاد والخدمات في العراق عمليا بإيران، ومن بين ذلك مثلا ربط البلدين بخطوط السكك الحديد وإلغاء تعريفات التأشيرة وإقامة مدن صناعية مشتركة، غير أن الأهم في ذلك كان الاتفاق على تنفيذ اتفاقية الجزائر عام 1975 الخاصة بشط العرب، التي كان الرئيس الراحل صدام حسين قد ألغاها عام 1980، والتي تتضمن تقاسم النهر العراقي الذي يلتقي فيه نهري دجلة والفرات بشمال البصرة (8).
لكن سياق "النجاح" الإيراني في العراق لم يكن هو الوحيد الذي أحاط بزيارة روحاني، فقد كان هناك سياق آخر معاكس يقلق إيران ويتحدى عمليا نفوذها المؤثر في العراق، ويتمثل بتزايد ظاهرة الرفض الشعبي للوجود الإيراني لا سيما في المحافظات الجنوبية الشيعية التي كانت طهران تعتبرها حليفا تقليديا، وهو أمر ظهرت معالمه بوضوح وقوة في مظاهرات البصرة الاحتجاجية في الصيف الماضي التي تضمنت الهجوم على مقر القنصلية الإيرانية وحرقها، وكذلك حرق صور كل من آية الله خميني وآية الله خامنئي والأعلام الإيرانية.
ورغم أن القوى التابعة لطهران استوعبت بالقوة والإرغام مظاهر الحراك المعارض في الجنوب، بما في ذلك عمليات اغتيال لناشطين اتهم مؤيدون لإيران بتنفيذها، إلا أن ذلك لا يبدو كافيا، بل كان بحد ذاته مؤشرا لتطور ربما وجدت طهران أنه يستحق إعادة نظر في التكتيكات المتبعة في العراق، بما في ذلك الأطراف الممسكة بالملف العراقي في مؤسسات الحكم الإيرانية.
ودون القفز إلى نتائج مطلقة، فقد كان من بين الترجيحات التي صاحبت زيارة روحاني، الحديث عن أن الزيارة هيأت أو ربما أكدت انتقال "ملف العراق" من الحرس الثوري إلى وزارة الخارجية أو كما قال دبلوماسي إيراني ومدير مركز للدراسات في طهران: "انتقال ملف العراق من قائد فيلق القدس قاسم سليماني إلى وزارة الخارجية" (9).
ويسوّق المروجون لهذا التطور تقليد سليماني أرفع وسام عسكري إيراني من قبل المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، قبل ساعات من عودة روحاني، ويعتبرون هذا الوسام الذي لم يحصل عليه أحد قبل سليماني منذ الثورة الإسلامية قبل 40 عاما، نوعا من التقدير لجهود القائد الإيراني مع تسليمه الملف للحكومة ممثلة بالخارجية. إلى ذلك فإن انتقال ملف العراق إلى الخارجية الإيرانية قد يكون من بين الأسباب التي حدت بوزير الخارجية ظريف إلى العدول عن استقالته في فبراير/شباط الماضي، رغم أن ذلك لا يمكن أن يتم بهذه السهولة إلا إذا كان الأمر قد اعتبر من الأساس ضرورة تكتيكية لإيران.
غير أن الدافع الأبرز لمثل هذه الترجيحات، كان مقابلة الرئيس روحاني مع آية الله علي السيستاني في النجف؛ فقد كانت هذه المقابلة، التي لم تتحقق لغالبية رجال الدولة الإيرانيين بمن فيهم سليماني ذاته، جزءا من تسويق الرئاسة الإيرانية لنجاح الزيارة، يضاف لها الحفاوة التي لقيها روحاني في العراق واجتماعاته مع شيوخ العشائر ورجال الدين العراقيين، وهو ما كان ظريف قد فعله من قبل عند زيارته العراق في يناير/كانون الثاني الماضي.
لكن حادثة إعلامية اعتبرتها الرئاسة الإيرانية "خطأ" أربكت الترجيحات الخاصة بالسيطرة على ملف العراق، حيث نشر الموقع الإلكتروني للرئاسة الإيرانية شريطا معدا حول زيارة روحاني للعراق، لكن الموقع سارع لاحقا إلى حذف الشريط مع الاعتذار، وأرجع "الخطأ" إلى "العاملين في الموقع".
وقد تضمّن الشريط الذي نشر في آخر أيام زيارة روحاني إلى العراق مقاطع من مقابلاته مع السيستاني والزعماء العراقيين، ونشر الموقع على صور الشريط تعليقات كان نصها كالتالي:
"في سفره إلى العراق يلتقي الدكتور حسن روحاني بالسيد علي الحسيني السيستاني مرجع تقليد الشيعة العراقيين. وهذه اللقاء من وجهة نظر المحللين سيحمل ثلاث رسائل اقتدار إلى ثلاثة جهات رئيسية:
- الرسالة الأولى إلى قادة العراق: أن روحاني يمتلك قوة تستحق الاهتمام، وليس من اللازم عليهم أن يجروا حوارا مع كل المؤسسات أو الشخصيات العسكرية حول المصالحة التكتيكية، بل يمكنهم إجراء ذلك مع روحاني بوصفة رئيس للجمهورية الإسلامية في إيران.
- الرسالة الثانية إلى القيادات في إيران؛ وتدل على أن روحاني جرى استقباله من قبل واحد من أهم الشخصيات وأكثرها نفوذا في العراق.
- الرسالة الثالثة ستكون إلى ترمب وحلفائه العرب: أن العراق يفتح أبوابه أمام الدول ومن ضمنها إيران بهدف تأمين مصالحه المشتركة، ولن يسمح بأن يستغل ترابه من قبل دولة ثالثة للقيام بعمل ضد إيران".
وقد أثار الشريط غضب أنصار "الحرس الثوري" والمتشددين الذين اتهموا العاملين في إعلام الرئاسة الإيرانية بإطلاق موجة من الفتنة، فيما قال ناشطون مقربون من الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد: إن هذا الشريط يأتي "في إطار صراع روحاني لقيادة إيران مستقبلا" (10).
ومن دون الخوض في تفاصيل هذا الشريط والظروف التي قادت إلى نشره، أو حذفه، فإن الحادث قد يوفر أساسا مقبولا للقول إن تخلي الحرس الثوري عن ملف العراق ما زال سابقا لأوانه، وهو ما يمكن أيضا التوصل إليه من سياق الأحداث واستمرار علاقتها بملفات أمنية عراقية وإقليمية يتولاها الحرس الثوري، وليس من المنطقي أن يتخلى عنها في هذا الوقت. وفي الوقت ذاته يمكن القول إن التجاذب حول الملف العراقي ما بين الحرس الثوري والحكومة، هو جزء من نمط غير جديد، ومن ثم فليس من الموضوعي اعتباره حدثا طارئا قد يفضيبالضرورة إلى إضعاف الدور الإيراني في العراق.
السعودية ومطاردة إيران
في الثالث عشر من مارس/آذار 2019 وصل إلى بغداد وفد رسمي سعودي يرأسه وزير التجارة والاقتصاد ماجد القصبي. كان من الصعب تجاهل توقيت الزيارة الذي تصادف مع آخر يوم من زيارة روحاني للعراق، وكذلك طبيعة الوفد السعودي الذي غلبت عليه الأجندة الاقتصادية، لكنه ضم كذلك وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان الذي كان تولى في عام 2015 منصب أول سفير سعودي في العراق منذ قطع العلاقات بين البلدين عام 1990، وذلك قبل أن تستبدله الرياض بطلب من بغداد عام 2016.
كانت عودة السبهان إلى العراق، حتى ضمن وفد رسمي، سببا للشعور بإصرار سعودي على تعزيز جدي للعلاقات بما يتجاوز الحدود الاقتصادية، فالسبهان شخصية مقربة من ولي العهد محمد بن سلمان، وهو يمسك بالملفات الساخنة في العراق ولبنان وسوريا، ولا سيما في مواجهة إيران، كما أنه يزور العراق للمرة الأولى منذ اضطرار الرياض لسحبه من بغداد في سبتمبر/أيلول 2016، بعد أن اتهمته الحكومة العراقية بإثارة الفتنة بسبب تصريحاته حول التدخل الإيراني في العراق، واتهامه لميليشيات عراقية بمحاولة اغتياله.
اكتسبت زيارة الوفد السعودي طابعا اقتصاديا، وكان ينظر إلى توقيتها وطبيعة ملفاتها على أنها محاولة من الرياض لمزاحمة إيران في العراق، وتقليل اعتماد الأخير على إيران في توفير احتياجاته من الكهرباء والمشتقات النفطية والسلع الزراعية والمواد الأولية، على أمل أن يكون نجاح السعودية في ذلك سببا في تعزيز العقوبات الأمريكية على إيران وحرمان طهران من الأموال العراقية المتحصلة من هذه السلع والخدمات، وكذلك في تأسيس قواعد نفوذ داخل العراق تمنع على الأقل من استخدامه إيرانيا ضد المملكة.
كانت السعودية تخطط منذ البداية لتحقيق أهدافها في العراق، ولا سيما منافسة النفوذ الإيراني بالعمل في أربع مسارات تكتيكية:
* التواصل مع النخب السياسية الشيعية بشكل رئيسي.
* تعزيز العلاقات الاقتصادية.
* الانخراط الديني مع كل الطوائف.
* نشر النيات الطيبة اجتماعيا (11).
لكن اهتزاز العلاقات من جديد بعد طلب بغداد استبدال السفير السبهان، أعاد الأمور إلى المربع الأول، وتسبب في تعطيل المشروع السعودي ومعه بالطبع فرص نجاح الحصار الأمريكي لإيران من بوابة العراق.
سعت الرياض إلى التعامل مع بغداد بشكل لا يقطع حبال الوصل، ويستوعب المحاولات الإيرانية لتخريب الجهود السعودية، وكان الاقتصاد سبيلها الأول لذلك، حيث قدمت منذ عودة العلاقات حزمة مبادرات مثل المنح المالية وتوسيع حصة العراق من مقاعد الحج وفتح خطوط طيران مباشرة، وكذلك فتح معبر عرعر الحدودي واستثمار ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية، ولاحقا عرضت الرياض ربط الشبكات الكهربائية بين البلدين مقابل أسعار أفضل من تلك التي تطلبها إيران وتبرعت ببناء ملعب رياضي كبير، إلى غير ذلك من أدوات القوة الناعمة الثقافية والاقتصادية والرياضية.
لكن المشكلة كانت دائما في الشكوك المحيطة بالجهود السعودية، إذ واجهت هذه المحاولات شكوكا "من بينها قناعة صناع القرار في بغداد بأن الانفتاح السعودي المفاجئ هو ضمن لعبة أو مشروع إقليمي أمريكي في المنطقة عامة والعراق خاصة، يهدف لتضييق مساحة النفوذ الإيراني. وهذا يعني بحسب بعضهم أن الأمر لا يتعلق بخطوة أو مبادرة سعودية ذاتية. وأشاروا إلى عقبة أخرى تتمثل في وجود ضغوط من قبل الكتل والأحزاب السياسية المتشددة داخل "التحالف الحاكم" في العراق، معروفة بولائها لإيران، لتحديد سقف لتلك العلاقة الجديدة مع السعودية" (12).
ولم تكن هذه الشكوك بلا خلفيات سبقتها، فقد دأبت الحكومة العراقية خلال ولايتي رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على اتهام السعودية بدعم الإرهاب في العراق، وبتسهيل انضمام سعوديين لتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة بعد ذلك، حتى إن بغداد اتهمت الرياض بتقديم "الدعم المادي للجماعات الإرهابية وجرائمها" (13) في أعقاب سيطرة تنظيم الدولة على الموصل في يونيو/حزيران 2014، وقد كانت هذه الاتهامات ورفضها من قبل السعودية سببا في تأزم دائم للعلاقات، لم ينفرج نسبيا إلا بعد تولي حيدر العبادي رئاسة الحكومة.
عدا عن ذلك فلم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية من قبل السعودية على ما يبدو لبناء علاقة وثيقة مع العراق، وهو أمر تغير على ما يبدو بعد تسلم الملك سلمان للعرش في بداية عام 2015، وتبدت آثاره لاحقا بشكل واضح، لكن من غير أن يؤثر ذلك بشكل جدي وسريع على الفرص الضيقة للسعودية بعد نحو ربع قرن من القطيعة، والعلاقات المعقدة مع العراق منذ عام 1990. وقد وصل الأمر في عام 2007 إلى قرار الرياض بناء سور على حدودها مع العراق (14).
التركيز على الاقتصاد
تمركز الانفتاح السعودي على العراق بعد عام 2015 على الجانب الاقتصادي بشكل خاص، رغم أن السعودية سعت لبناء مقاربات جديدة مع قوى مؤثرة في الساحة السياسية والمجتمعات المحلية، لكن الانفتاح السعودي ظل محدودا، ومحاصرا نظرا لقلة الفرص المتاحة، وبسبب الهيمنة الإيرانية التي دخلت مبكرة إلى العراق، وبنت مواقع نفوذ قوية، تتيح لطهران أن تستحوذ على الحصة الأكبر من السوق ومن مواقع القرار السياسي والكيانات المحلية، وتمنحها أيضا فرصة منع الآخرين من منافستها.
لقد بلغ حجم التبادل التجاري بين العراق والسعودية في عام 2018 ما قيمته نحو مليارين وأربعمائة ريال سعودي (نحو 650 مليون دولار) (15)، وهو ما يعادل نحو 5% فقط من حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران البالغ نحو 12 مليار دولار، ونحو 4% فقط من حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا الذي بلغ نحو 16 مليار دولار عام 2018.
ورغم محاولات الرياض تعزيز الحضور الاقتصادي في العراق خلال زيارة الوفد لسعودي الأخيرة؛ فإن التباين الكبير مع جيران العراق الآخرين لا يبقي حصة كبيرة للسعودية، رغم أن الحضور بحد ذاته يمكن أن يعتبر اختراقا للسيطرة الإيرانية القوية على المرافق الأساسية الاقتصادية والسياسية والأمنية في العراق.
وتسعى الرياض إلى توسيع أقنية الاختراق من خلال منافذ أخرى مثل الرياضة، حيث أعلنت عن تبرعها ببناء ملعب رياضي ضخم يتسع لمائة ألف متفرج، وتنمية العلاقات مع نخب ثقافية واجتماعية.
مزاحمة إيران في البيئة الشيعية
يبدو أن الأهم في مساعي الرياض هو بناء علاقات مع شخصيات سياسية عراقية شيعية ظلت قريبة من إيران أو تحسب على أنها كذلك، وفي مقدمتها مقتدى الصدر الذي زار السعودية في عام 2018، وكذلك عمار الحكيم الذي أقام علاقات جيدة مع الرياض وتلقى منها دعما ماليا، كان من ضمنه عشرة ملايين دولار دعما لقناة تلفزيونية تابعة له (17).
وحتى خلال زيارة الوفد السعودي الأخيرة إلى بغداد، فقد استهل العضو "السياسي" في الوفد ثامر السبهان مهمته بزيارة رجل الدين الشيعي حسين الصدر في مدينة الكاظمية ببغداد، وهو ما اعتبر محاكاة لما قام به الرئيس الإيراني روحاني الذي زار مرقد الإمام موسى الكاظم في الكاظمية بعد وصوله إلى بغداد مباشرة وقبل أن يلتقي بأي مسؤول عراقي. وقام السبهان بعد ذلك بزيارة المجْمع الفقهي العراقي "السني" في منطقة الأعظمية ببغداد.
ويشير مجموع الممارسات السعودية إلى أن استراتيجية الرياض في العراق تقوم على أساس مزاحمة إيران في ساحة نفوذها الأساسية وسط البيئة الشيعية، أكثر من الانشغال بخلق بيئة نفوذ موازية في المجتمع السني، ولذلك كان التركيز السياسي والدعائي وحتى المالي على القوى والشخصيات السياسية والدينية الشيعية، أكثر من نظيرتها السنية وبشكل واضح، سواء تعلق الأمر باستقبال هذه الشخصيات في الرياض أو بدعمها ماليا.
وسيكون من السابق لأوانه افتراض أن نفوذ إيران القوي في العراق سيحكم على هذه الاستراتيجية السعودية بالفشل، ذلك أن نفوذ إيران ليس مطلقا، وهو رغم نجاحه في القضاء على إبراز مرتكزات القوة للمجتمع السني واستيعاب مرجعياته السياسية وقواه المحلية، فإنه يواجه نقيضا نوعيا من قوى داخل المجتمع الشيعي الذي يفترض أن يكون بيئته الحاضنة الطبيعية، وقد كان كذلك لزمن طويل.
تتجسد أبرز التحديات أمام إيران في قلق المرجعيات الشيعية العراقية من محاولات طهران السيطرة على مرجعية النجف وإلحاقها بولاية الفقيه، وكذلك اتهام إيران بالمسؤولية عن تفاقم ظاهرة الفساد في البلاد من خلال دعم قوى سياسية ودينية وميليشيات يعتقد أنها متورطة بشكل مباشر في شبكات الفساد.
إلى ذلك فقد أصبحت إيران رمزا للتنكيل الاقتصادي بالرأسماليين العراقيين الذين لا يستطيعون مقاومة سيل البضائع الإيرانية الرخيصة المعفاة في الغالب من الرسوم الجمركية بفعل التواطؤ الحكومي، وهو ما تسبب بفشل الاستثمارات الصناعية والزراعية ومشاريع القطاع الخاص العراقية التي يغلب عليها تقليديا التجار الشيعة، بسبب عدم قدرتها على المنافسة، مع كل ما يعنيه ذلك من انهيار فرص التنمية وزيادة حجم البطالة وتردي الأوضاع الاقتصادية للسكان، وقد كان هذا سببا مباشرا للحَنَق على إيران والطبقة السياسية التي تدعمها، وقد كانت مظاهرات البصرة في صيف العام الماضي مؤشرا مهما على ذلك.
وقد يكون ذلك وسواه قد أقنع صانع القرار السعودي بمواجهة إيران في ملعبها الرئيس، لا سيما مع وجود أفضلية متمثلة في العمق العربي للقبائل العراقية الشيعية، ومنهم رجال الدين ذوو الأصول العربية، وهو محور مهم للتركيز السعودي، لكن الرياض تغافلت في خضم ذلك عن حقائق مهمة تتمثل في أن إيران تمتلك بالفعل مفاتيح الوجود السعودي بذاته في العراق، فهي تستطيع مثلا أن تعرقل المشاريع الاستثمارية من خلال المعوقات البيروقراطية، إن لم تتمكن من توجيه الإرادة الحكومية، كما أن إيران تسيطر على مفاتيح أمنية أساسية، ولا سيما مع سيطرتها على الفصائل الأساسية في الحشد الشعبي، وهو ما يجعل من الأنشطة السعودية وكذلك الأشخاص السعوديون هدفا لتهديد دائم.
يضاف إلى ذلك أن إيران استفادت من التركيز السعودي على الجزء الشيعي من العراق بقواه الاجتماعية والدينية والسياسية، فعمدت إلى التواصل مع المجتمع السني، واستمالة قيادات محلية وسياسية فيه، مستفيدة من واقع انهيار مقدرات القوة للعرب السنة في العراق، وقدرة طهران على تسهيل فرص التواجد السياسي للطامحين منهم، أو الحصول على مواقع حكومية أو توفير مكاسب اقتصادية وحصانات أمنية، وقد نجح هذا التكتيك ولو نسبيا، لا سيما وأن القوى السياسية السنية، لم يعجبها ضعف الدور الأمريكي والتجاهل السعودي للتواصل معها أو للمشاركة على الأقل في دعم السكان السنة الذين كانوا أكثر تعرضا للتنكيل والإهمال، والذين تعرضت مدنهم للتدمير بعد سيطرة تنظيم الدولة عليها.
ولا تبدو واضحة نهايات هذا التسابق السعودي مع إيران في العراق، لكن مع الحقائق المتصلة بأسبقية طهران في التدخل المباشر في العراق، وبناء أسس نفوذ قوي في كل مواقع الدولة تقريبا، ومع ما حققته من تغيير جوهري لصالحها في ملامح العراق وبنيته الديموغرافية وملامحه الاجتماعية، بتجاهل أو بمشاركة أميركية، في خضم هذه الحقائق، ستكون مهمة الرياض معقدة، وصعبة، ولكن بالطبع غير مستحيلة.
وحقيقة الأمر، أن أي توقعات حول ما سيحصل من صراع البلدين، سترتبط دوما بالمغزى الاستراتيجي الذي حدا بالسعودية للعودة إلى العراق، فهل هو انتباه متأخر لأهمية جارها العربي الشمالي، وانعطافا استراتيجيا على أساس اعتقاد جازم بالتشابك الأمني والارتباط المصيري؟ أم أنها مجرد مظهر من تداعيات الصراع مع إيران، وسعي لمزاحمتها في أهم معاقلها خارج حدودها، ومحاولة لتكريس العقوبات الأميركية ضد طهران؟ ولا شك أن معرفة إجابة ذلك هي من سيحدد الطرف الأكثر اهتماما بهذا الصراع والأقدر على الاستمرار فيه.