.. والحديث يطول ويقصر عن التفكير خارج الصندوق، إلا أننا لم نتلقَّ يوما حلا لمشاكلنا خارجه، ولم ننعم يوما بنسمة هواء خارج أدراجه تطل علينا فتريح بعضا من أنفاسنا. اللهم طلة وهلة للسادة المسؤولين بين الفينة والأخرى من داخل الصندوق، ثم يغلقونه على أنفسهم بعد طابور الصباح اليومى وتحية العلم.. فلا أقبلوا علينا بحل ذات إصباح، ولا مللنا أنشودة الصباح هذه، ولا أتصور إلا أن يكون المقصود بداخل الصندوق هو ما يأتينا من داخل أروقة الحكومة وأضابيرها وأفكارها العتيقة، أما خارجه فهى أفكار الناس وأصحاب الخبرة والمصالح والمشاكل والمعاملات.. وكلها فى الهواء الطلق، ولو كلفوا خاطرهم وسألوا أصحاب الشأن والخبرة لوقفوا على الخبر اليقين.
والدكتور حسام بدراوى منذ أعوام قدم للحكومة «حكومة مبارك» اقتراحًا بصرف مكافأة لكل زوجين لا يزيد عدد أولادهما عن اثنين فقط عند بلوغهما سن الستين. وكنا فى أحد اللقاءات التى تجمعنا قد تناقشنا فى هذا الأمر، واقترحت على سيادته أن يصرف «معاشا استثنائيا» بعد بلوغ الستين لكل زوجين لا يزيد عدد أولادهما على اثنين، على ألا يكون لأيهما أولاد من آخر أو أخرى، مع وضع كافة الشروط لضمان التنفيذ واستمرار الصرف بدقة وعدالة.. وهذا الاقتراح يصب مباشرة فى مصلحة الأسرة؛ لأن أهم عوامل زيادة النسل عند الكثير من هذه الأسر البسيطة والمهمشة هو ضمان رعاية وكفالة أولادهم لهم عند الكبر، فغالبيتهم محرومون من معاش مناسب بعد رحلة العمر والشقاء. ولا أتصور أن تكلفة هذا الاقتراح يتخطى مصروفات الرواتب والدعاية والإعلان، بل أكاد أجزم: ولا يعادل نصف الإنفاق.
وتصبح مشكلة الزيادة السكانية أحد الأسباب الرئيسية التى تعرقل النمو الاقتصادى وتلتهم عوائد التنمية، وكذلك تساهم فى زيادة معدل البطالة، والأخطر أمراض سوء التغذية.
إذا كان الاستثمار فى هذه الثروة البشرية عاجزا عن توظيفها واستيعابها والتعامل معها بأسلوب علمى، فقد نجح كثير من الدول فى الاستفادة منها، بل تعتبر الزيادة السكانية ثروة قومية إذا أحسن الاستثمار فيها بالتعليم وإكسابها مهارات فنية على مستوى جيد.. ولو كنا قد تعاملنا مع هذه الظاهرة منذ بداياتها؛ بأن نصفها سلبى والآخر إيجابى، وبذلنا فى هذا جهدا متساويا فى تحديد النصف وجودة استثمار الآخر، لكان لنا شأن كبير.
والتعليم أيضا أحد أهم الانتكاسات التى تواجهنا، وهو فى هذا يزيد الطين بلة.. فإلى جانب انهيار المنظومة إلى حد كبير، والتنسيق مع سوق العمل معدوم، فإن الزيادة السكانية بلا تعليم جيد أو مهارات فنية خاصة تضع قطاعات الدولة فى امتحان عصيب من «إنتاج وحرف يدوية بلا مهارة.. إلى خلل وتدهور أمنى.. ووضع اجتماعى وتربوى وصحى منقوص ومؤذٍ»،.
التعليم هو حجر الأساس فى بناء الإنسان والدولة، والحل: أن نسرع الخُطى فورًا فى بناء منظومة التعليم الفنى، ليستوعب هذه الأعداد الهائلة من السكان، والتى تنتمى إلى هذه الأسر التى تميل إلى الإنجاب الوفير لهذا السبب، فهو مصدر سريع للكسب، واختصار مراحل التعليم والوصول إلى حرف ومهن مطلوبة ومربحة مع قسط من التعليم لرفع المستوى الاجتماعى.. وهو المطلوب: (تعليم فنى راقٍ جيد وليس على النحو الذى نراه الآن).. فإذا كان الكثير من خريجى هذه المدارس لا يجيدون القراءة والكتابة، فكيف يجيدون حرفة من الحرف المطلوبة فى سوق العمل العام والخاص؟!.. ولا مانع أن يلتحق بالتعليم الفنى كل من فاته قطار التعليم، وعدم التقيد بسن محددة، على أن يكون الامتحان العملى للخريج من جهة محايدة، ويتم حصوله على رخصة مزاولة الحرفة أو المهنة.
ولكى نظل خارج الصندوق.. فلماذا لا نُلحق الكثير من هذه المدارس الفنية بالمصانع داخل الجمهورية، سواء قطاع أعمال أو خاص؟!.. وأعتقد أن هذا النوع من التعليم قد بدأ بالفعل فى بعض المصانع، ولدينا الكثير من مصانع الحديد والصلب والأسمدة والأسمنت والأدوية والمنتجات الغذائية والأدوات المنزلية والكهربائية والسيارات ومراكز الخدمة المتنوعة، والمجازر بأنواعها، والصناعات الخشبية.. وغيرها كثير.. وتشجيع القطاع الخاص على ذلك، بل مساعدته وتمويله بالوسائل التعليمية والإيضاحية والبرامج والكتب والإشراف أيضا، بل وأضيف صرف مكافآت رمزية لطلاب هذه المدارس ووجبة غذائية متكاملة ومنحهم شهادة تخرج ورخصة مزاولة المهنة بمكان داخل الجمهورية وخارجها حتى تصبح لدينا قوة بشرية فنية مدربة تدريبا جيدا للالتحاق بسوق العمل الداخلية والخارجية، تستوعب وتوظف هذه الزيادة السكانية بأسلوب علمى وعملى مربوط بسوق العمل واحتياجاتها.
«الدولة المدنية هى الحل".