عندما وصلت في صيف 2014 للعمل في بعثة فلسطين في بلجيكا ، مكلفا بالعلاقات الثنائية مع بلجيكا ولوكسمبورغ ، نصحني اكثر من صديق ، التواصل مع سيدة بلجيكية تسمها بريجيت هيرمانس في كل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني في إقليم فلاندر ، الإقليم الناطق باللغة الهولندية و الأكبر مساحة وسكانا في بلجيكا والأكثر أيضا تأثيرا في الاقتصاد والسياسة ، فهي المختصة بفلسطين في اطار عدد من المؤسسات الاهلية البلجيكية ذات العلاقة مع اللاجئين وتقدم استشارات ودراسات لبعض المؤسسات الرسمية ، عدا كونها صديقة لفلسطين ، فاصبح الفضول يمتلكني في التعرف على هذه الشخصية وانتظرت نهاية الصيف حين عادت بريجيت من اجازاتها .
ولدى ذهابي لمقابلتها ، ارتسم في ذهني اني سأقابل سيدة متقدمة في العمر ، يغزو الشيب شعرها ولكني وجدت سيدة شابة مرحة وتتحدث العربية بطلاقة وتعرفني من خلال كتاب أصدرته قبل سنوات باللغة الفرنسية عن غزة ، كل ذلك جعل من القاء سلسا وودودا وكان السؤال متى وأين تعلمت اللغة العربية ولماذا ؟
وكانت الإجابة ان بريجيت المولودة في مدينة انتويرب ، في عام ،1979 تنتمي من طرف والدتها الى عائلة بسيطة تعيش من الفلاحة ، اما جدها فكان يساعد اليهود الفارين من أجهزة الامن للاحتلال الألماني النازي الذي كان يحتل بلجيكا خلال الحرب العالمية الثانية وكان يقوم بذلك لأنه كان يرى به واجبا دون ان تكون اسرته على اطلاع بعمله .
لاحقا وعندما بدا يتفتح وعيها مع بلوغها 14 عاما اتيحت لها الفرصة بزيارة فلسطين للمرة الأولى رفقة والدها وكانت على تواصل مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، حيث كان لوالدها صديق إسرائيلي، وزارت القدس ورات حائط البراق وقبة الصخرة، والذي شكل لها دافعا بتعلم اللغتين العبرية والعربية في احدى جامعات غنت التي تدرس الحضارة العربية والإسلامية ، ثم أكملت تعلمها العربية في القاهرة .
.
شكلت هذه البيئة حافزا لبريجيت ان تختار العلوم السياسية في دراستها الجامعية في جامعة بروكسيل الحرة ، وهي فضاء أتاح لها التعرف على تيارات فكرية وسياسية تهتم بقضايا تحرر الشعوب في اسيا وافريقيا وفي المقدمة القضية الفلسطينية والتي كانت على احتكاك مباشر معها منذ نعومة اظافرها وتفتح وعييها لاحقا ، فلم تترك كتابا عن القضية الفلسطينية وقع تحت ايديها الا وقراته بنهم ولم تضيع ندوة او عن نشاط عن فلسطين وبذلت جهدها لحضوره ، وهوما سمح لها بتعميق معرفتها بالقضية الفلسطينية من جوانبها المتعددة وبالتعرف على المعنيين والمدافعين عن القضية .
هذه المعرفة الغنية والمتنوعة بالشأن الفلسطيني وتعقيداته واشتباكه مع مسائل أخرى تتعلق بالتاريخ الأوروبي، كانت المدخل المناسب لتعمل بريجيت بشكل متتالي مع منظمة Pax Christi Vlaanderen الخيرية في دعم السلام ومنظمة Broederlijk Delen التي تعمل في مجال دعم التنمية في عدد من الدول الافريقية والآسيوية وامريكا اللاتينية وتخصصت بريجيت في ملف الشرق الأوسط ، وهو جعل منها مرجع في الموضوع الفلسطيني بشكل خاص والعربي والإسلامي بشكل عام .
بنت بريجيت قناعتها ان البوابة الرئيسية للتعامل مع قضية معقدة ومتشابكة مثل القضية الفلسطينية وما تثيره من جدل وشغف في الوسط الأوروبي متضارب أحيانا في الوسط الأ Pax Christi وروبي ، هو القانون الدولي ، فزادت من معرفتها بهذا الجانب وجعلت منه أداة قياس في التعامل من احداث القضية الفلسطينية المتلاحقة والساخنة أحيانا ، فانخرطت في حملات تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني البلجيكي لدعم تطبيق القانون الدولي وحقوق الانسان وفي المقدمة دعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
وكتبت الباحثة عدد من الدراسات عن القضية الفلسطينية نشرتها في دويات رصينة عن مراكز دراسات، احدى هذه الدراسات كانت عن الموقف الرسمي لبلجيكا من القضية الفلسطينية من زاوية تاريخية وهي دراسة مرجع في فهم الموقف البلجيكي ، وقد استعنت بها عندما كتبت مقالا بعنوان " عندما سعت بلجيكا بوضع فلسطين تحت انتدابها "
ولم تقتصر معرفة بريجيت بفلسطين من خلال الورق ولكن ارفقتها بزيارات ميدانية ان كانت فردية او مرافقة وفد بلجيكية متنوعة من الجانب الفلمنكي (المتحدث باللغة الهولندية) وكان يحدث ان يكون بعض أعضاء هذه الوفود من شخصيات برلمانية تتبنى رؤية اقرب للجانب الإسرائيلي ، الامر الذي سمح بتعرف هذه الشخصيات على الرواية الفلسطينية من خلال بريجت ، فأصبحت مقصدا للسياسيين والباحثين البلجيكيين والاوربيين المهتمين بالشأن الفلسطيني كما أصبحت أيضا مصدرا موثوقا للجانب الفلسطيني ان كان على المستوى الدبلوماسي او على مستوى المواطنين الفلسطينيين الراغبين في استشارة لدى المؤسسات البلجيكية ، فأصبحت وسيطا ذو مصداقية .
هذه التجربة الثمينة التي امتلكتها بريجيت قادتها الى اصدار كتاب عن فلسطين باللغة الهولندية بالشراكة مع كاتب بلجيكي اسمه "Ludo Abicht" وكان عنوان الكتاب "فلسطين وإسرائيل.. الخرائط على الطاولة". وهو من الكتب التاريخية القليلة باللغة الهولندية عن القضية الفلسطينية، وقد استفضنا الكاتبة في سفارة فلسطين في بلجيكا وقمت بمحاورتها في قاعة نعيم خضر في مطلع ديسمبر 2016 بحضور نحبة من النواب البلجيكيين والكتاب ونشاط حركة التضامن .
هذا الكتاب كما قدمته بريجيت هو محاولة مخاطبه قطاع واسع من الراي العام الذي لا تتوفر له المقومات الأساسية للقضية الفلسطينية من خلال معالجة الروايتين الإسرائيلية والفلسطينية للقضية الفلسطينية، كما يقدمها كل طرف، فتبدأ بالفصل الأول بطرح ولادة الحركة الصهيونية في أوروبا في ظروف معقدة لتاريخ الطوائف اليهودية، والجدل الذي اثارته هذه الحركة والتي كانت اقلية في بدايتها، الى ان أصبح لها التأثير الواسع لدى الطوائف اليهودية في أوروبا بدعم من الدول الاستعمارية الأوروبية في ذلك الوقت.
واستعرضت الكاتبة إشكالية مفاهيم الدين والقومية والدولة والتي رافقت الحركة الصهيونية منذ ولادتها مرورا بتحقيق مشروعها السياسي بإنشاء دولة إسرائيل على ارض فلسطين وصولا الى سياسة دولة إسرائيل الاستعمارية في الأراضي الفلسطينية والعربية والتي استكملت احتلالها في عام 1967 من نفي ومصادرة لوجود الشعب الفلسطيني على ارضه.
وبينت الكاتبة في الفصول الأخرى للكتاب السياسة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية في الاستيطان والسيطرة على الأراضي والمياه، الامر الذي يقضي على أي إمكانية حقيقة لقيام دولة فلسطينية على الأراضي التي تم احتلاها في عام 1967.
واختتمت بريجيت هيرمانس تقديمها لكتابها بفصل يتناول السياسات الرسمية الأوروبية وعمل منظمات المجتمع المدني في بلجيكا وأوروبا تجاه الاستيطان الإسرائيلي المتصاعد والتي أحزت تقدما، بحد رأيها، ولكنه لم يصل الى المرحلة المطلوبة بحمل إسرائيل على الانصياع للقانون الدولي، مشيرة الى الجهود التي تقوم بها هي شخصيا مع منظمتها والمتمثلة بحملات توعية لحقوق الشعب الفلسطيني وتذكير الراي العام الأوروبي وحكوماته بالالتزامات القانونية والدولية والتي يجب ان تلتزم بها دولة إسرائيل.
هذا الجهد البحثي والميداني للباحثة هيرمانس ، والتي قدمت فيه أيضا الرواية الإسرائيلية لم يرق لدولة الاحتلال الإسرائيلي ، فقامن بمنعها من دخول فلسطين في مطلع شهر عام 2016 ، حين أصدرت امرا بترحيلها من مطار تل ابيب وضع ختم على جواز سفرها يمنها من الدخول لمدة عاشر سنوات وقام انصار الاحتلال في بلجيكا بشن حملة إعلامية ضد الكاتبة والباحثة موجهين اتهامات فارغة .
وفي الفترة من 2017 إلى 2019، عملت بريجيت أيضًا كمسؤولة سياسات لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في اهم فضاء ثقافي في بلجيكا وهو قصر الفنون الجميلة المعروف باسم BOZAR، حيث تولت مهمة منسقة بتنسيق كرسي محمود درويش. الجامعي والثقافي والذي أطلقه في ربيع 2015 الرئيس السابق لحكومة والوني بروكسيل رودي ديموت وتولت رئاسته منذ تأسيسه وحتى الان سفير فلسطين السابق في بلجيكا ليلى شهيد، و من اهداف هذا الكرسي الأول من نوعه ، شرح الثقافة الفلسطينية والعربية بشكل أوسع من جوانب متعددة ، وفي فبراير 2019، نشرت دراسة حول الدور لذي يمكن ان يلعبه الادب في تدعيم حقوق الانسان .
وتقديرا لكل جهودها في دعم قيم العدل والسلام في أماكن عديدة من العالم ، فقد قامت Pax Christi " في عام 2019 بمنح الباحثة بريجيت هيرمانس جائزة " سفيرة السلام " بشكل مشترك مع منظمة " أطباء بلا حدود "
وفي نفس العام 2019 قررت بريجيت العودة الى عالمها الأول الذي انطلقت منه وهو الجامعة وتحديدا جامعة غنت والتي بدأت بها مسارها ، فكان الموضوع الذي اختارته منسجما مع عملها وقناعاتها في الدفاع عن قيم العدالة للشعب الفلسطيني ولشعوب المنطقة بأشملها ، وكان محمود درويش بشعره وسيرته ومواقفه الداعمة لحق الانسان ، أينما كان ، هو البوصلة في مشروعها الجديد الذي يتناول العلاقة بين الفنون والعدل في سوريا وقد اطلقت على بحثها عنوان " قدرة الفنون في مواجهة عملية الإلغاء في سوريا وإظهار الجرائم المرتكبة هناك " ، ومن المفترض ان تناقش رسالة الدكتوراة في عام 2023 .
*كاتب ودبلوماسي فلسطيني
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"