العلاقات السعودية الأمريكية مِن أقدَم العلاقات الدبلوماسية السعودية مع دَولةٍ عُظمى، حيث بدأت علاقة المملكة بأمريكا مع إتفاقية مَنح الملك عبدالعزيز ــ طيَّبَ الله ثراه ــ إمتياز التنقيب عن النفط لشركة أرامكو (الأمريكية) قبل تسعين سنة. وقد استمَرَّت هذه العلاقات قوية ومتينة بين الدولتين رَغم تَغيُّر الرؤساء الأمريكان بين ديموقراطي وجمهوري، ولكنها تَعَرَّضَت لإنتكاسة كبيرة في عهد الرئيس أوباما، الذي رأى أنَّه لا مَصلَحَة إستراتيجية لأمريكا بالبقاء في الشرق الأوسط، وعلى دوَلِه حَلّ مشاكلهم البينية مع بَعضِهِم البَعض، في نفس الوقت الذي طَالَبَ فيه أنْ تَتَبَنّى المملكة سياسات نفطية تَصُب في مصلحة أمريكا. وبالفعل، كانت السياسة السعودية النفطية في الأغلَب الأعَمّ تَصُب في مصلحة الدول الغربية أولاً وأخيراً، خاصةً أمريكا. حيث شاهدنا في تلك الفترة وزير النفط السعودي المهندس علي النعيمي يقول “سنُحافِظ على حِصَّتنا السوقية حتى لو وَصَلَ سعر برميل النفط عشرين دولار” !! وبالفعل، إنهار سعر النفط مِنْ أكثر مِن 130 دولار إلى قُرب العشرين دولار للبرميل. ومِن قَبلِه في قَمَّة الطفرة النفطية الأولى نهاية السبعينات الميلادية، رَدَّ وزير البترول والثروة المعدنية الأستاذ أحمد زكي يماني (رحمه الله) على سؤال في مقابلة تلفزيونية على برنامج “ستون دقيقة Sixty Minutes” الأمريكي الشهير: لماذا السعودية تبيع نفطها بأقَلّ مِن السعر العالمي بأكثر مِن عشرة دولارات ؟ فقال: مَنْ يفعَل ذلك إمَّا أنْ يكون مَلاك أو سعودي !!
وعلى النَّقيض مِنْ قرارات تلك الفترة، نرى أنَّ السياسة النفطية للمملكة مُنذُ بداية عام 2015م تقوم على أساس المحافظة على “صِحَّة” الاقتصاد العالمي مع التركيز على أولويَّة مصلحة المملكة في أي قرار يتعَلَّق بإنتاج النفط. وَرَغَم الزيارة الأخيرة للرئيس بايدن للمملكة ولقائه بخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بهَدَف إقناع المملكة زيادة إنتاجها مِنْ النفط للضَّغط اقتصادياً على روسيا وكذلك تخفيف آثار التَضَخُّم في أمريكا، كانت إجابة المملكة فورية بتخفيض إنتاجِها مِن النفط مليون برميل يومياً بُعَيدَ مُغادَرَة طائرة الرئيس بايدن المملكة. والسَّـبب كان واضحاً، بأنَّ رفع المملكة لإنتاجها مِن النفط سيؤدي إلى انهيار أسعاره، مما يعني خسارة مالية لإيراداتها مِنْ مَورِدها الوحيد.
هذه المُقَدِّمَة ضرورية للحديث عن الواقع الفعلي للعلاقات السعودية الأمريكية، مُنذُ اعتراف أمريكا بالمملكة العربية السعودية عام 1931م وحتى الآن.
المملكة تُسـاعِد
أمريكا العُظمى !؟
قد يَتَسَاءَل البعض: هل يُعقَل أنَّ دولة صغيرة كالمملكة سَاعَدَت أو تستطيع مُساعدة أقوى وأعظَم وأغنى دولة في العالم عسكرياً واقتصادياً !؟ المقصود بالمُساعدة هُنا ليس المُسَاعَدَة المالية أو الاقتصادية المُتعَارَف عليها، ولكن مُساعدات يُمكِن تسـميتها “بالمُساندة الإستراتيجية”. هذه “المُساندة الاستراتيجية” لا تُخطئها عَين المُحَلِّل السياسي المُحايد، التي مِنْ أمثِلتها ما يلي:
*دور المملكة الكبير في إنجاح البترودولار باستمرار بيع نفطِها بالدولار، الذي حَافَظَ على مركز الدولار في التبادل التجاري في العالم بعد تَخَلِّي أمريكا عام 1971م عن اتفاقية بريتون وود التي تُوجِب تغطية الدولار بالذهب. وكذلك شراء المملكة الدائم لسندات الخزينة الأمريكية بفوائض إيراداتها النفطية.
*مُحافَظَة المملكة على استقرار إمدادات النفط على مدار عقود طويلة، مما صَبَّ في مصالح أمريكا والدول الغربية.
*تَحَالُف المملكة مع الدول الغربية، خاصةً أمريكا، إبَّان الحرب الباردة ضد انتشار الشيوعية في العالم العربي، ومُسَانَدَة أمريكا في مَنع وصول الحزب الشيوعي الإيطالي إلى دَفَّة الحُكم في إيطاليا.
*دور المملكة الكبير مالياً وميدانياً في مواجهة احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان.
*تَحَفُّظ المملكة على بيع النفط بعُملَةٍ غير الدولار، وتَرَيُّثِها في الانضمام لمشروع عُملَة بريكس.
حليف إستراتيجي ... إسم بِلا مَعنى !!
تُرى ماذا جَنَت المملكة لقاء قيامها بتلك “المُسانَدَة الإستراتيجية” لأمريكا وحتى يومنا هذا !؟ المملكة لم تَجنِ مِنْ لَقَب شريك أو “حليف إستراتيجي” لأمريكا إلاَّ الحَصْرَم. والشواهِد على هذا الإسـتنتاج كثيرة، أهمّهـا:
*مُنذُ بِدء العلاقات الدبلوماسية بين المملكة وأمريكا، لا توجد اتفاقيات استراتيجية بين الدولتين تُنَظِّمها مواثيق طويلة الأمَد. فمُعظَم التفاهمات بين الطرفين ظَرفيَّة ومَرحَليَّة، وكثيراً مِنْ الأمور كانت تَتِمّ عَبر السفير السعودي في واشنطن، رَغمَ أنَّ السعودية تاريخياً شريك مُسانِد لأمريكا.
*التلويح الأمريكي المُتَكَرِّر عَبر السنين بقوانين فَرْض عُقوبات على المملكة “الحليف الاستراتيجي”، مِثل قوانين جاسـتا، ماغنيتسكي، مشروع قانون نوبك، ومشروع قانون “الدفاع المشترك ضد إيران”.
*حتى في أفضَل علاقة كانت بين المملكة وأمريكا إبَّان فترة الرئيس ترامب، لم تُحَرِّك أمريكا ساكِنَاً جَرَّاء ضَرب المُنشآت النفطية السعودية بصواريخ ومُسَيَّرات إيرانية. فكيف تكون المملكة “حليف إستراتيجي” !!؟
*قرار إدارة الرئيس بايدن في عامِها الأول مِنْ دخولها البيت الأبيض تجميد صفقة الصواريخ ذات الدقة العالية المُبرَمَة مع المملكة وقرارها سَحب بعض أنظمة باتريوت الصاروخية الدفاعية مِن المملكة، في وقت يقوم الحوثيون باستهداف منشآت مدنية ونفطية سعودية.
*لا تَمُرّ صفقة شراء أسلحة أمريكية للمملكة إلاّ بعد “لَتٍّ وعَجن” مِنْ كُلّ مجلس وجهاز حكومي وخاص وإعلامي ولوبيات أمريكية وإسرائيلية لتمييع الصفقة أو لتخفيض مواصفاتها وفاعليتها، ومع ذلك يَعتَـبِر سَاسَة أمريكا المملكة شريك أو “حليف استراتيجي” !!
تَنظـيرات توماس فريدمان !!
لا يُمكِنْ لأي مُطَّلِع على الصحافة الأمريكية إغفال حقيقة أنَّ الكاتب بصحيفة نيويورك تايمز السيد توماس فريدمان هو أشهَر الصحفيين الأمريكيين المُهتَمين بقضايا الشرق الاوسط على مدار العَقدين الماضيين وحتى الآن. ولهذا السبب، تَجِد أنَّ أبواب البيت الأبيض مُشَرَّعَة له في أي وقت، ويَفتَح لهُ كبار سَاسَة العالَم أبواب مكاتبهم ليُجري الحِوارات معهم ومع كبار مسؤولي تلك الدول. وتُعطي كثيراً مِنْ الجهات الرسمية والإعلامية اهتماماً كبيراً لما يكتبه فريدمان عن الشرق الأوسط بصفةٍ خاصة.
وفي هذا المجال، فقد كَتَبَ فريدمان مقالاً بتاريخ 27/7/2023م بعنوان Biden is Weighing a Big Middle East Deal بايدن يتَأمَّل صفقة كبيرة في الشرق الأوسط (https://rb.gy/tzffl)، كان له أصداءً كبيرة في الفضاء السياسي والإعلامي العالمي، حيثُ عَلَّق عليه سياسيين إسرائيليين وأمريكان وصُحُف عربية وعالمية وإسرائيلية.
ما يُعطي أهمية لكِتابات فريدمان الكثيرة عن القضية الفلسطينية أنَّه يَنتَقِد السياسات اليمينية الإسرائيلية لحزب الليكود بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. ولكن حينما يَكتُب فريدمان عن الشأن الفلسطيني الإسرائيلي، تَجِدَهُ يميل دائماً إلى مُطالَبَة الفلسطينيين والدول العربية بتقديم مزيداً مِنْ التنازُلات لإسرائيل دون أنْ يُطالِب إسرائيل بشيءٍ مُناظِر لتلك التنازلات.
وللتدليل على هذا الإستنتاج، نأخُذ مقالاً قديماً كَتَبَهُ فريدمان في 23/3/2007م بعنوان Abdullah’s Chance فُرصَة عبدالله (https://rb.gy/hgiwv)، وذلك تعليقاً على المُبادرة العربية التي طَرَحَها الملك عبدالله بن عبدالعزيز ــ رحمه الله ــ عام 2002م لِحَلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك بانسحاب إسرائيل مِن الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967م مُقابل اعتراف وعلاقات كاملة مع الدول العربية. وعلى الرَغَم مِنْ صَمت إسرائيل على هذه المُبادرة وغيرها مِن مُبَادرات السّلام التي تطرَحَها السُلطَة الفلسطينية والدول العربية، فإنَّ فريدمان لَم يُطالِب في هذا المقال إسرائيل باغتنام هذه المُبادرة والموافقة عليها أو حتى مُنَاقشتها في البرلمان الإسرائيلي؛ بل شَـطَحَ بعيداً في تَنظيره وخيالاته وتَحَـيُّزه الصهيوني لإسرائيل بمُطَالَبَة الملك عبدالله تفعيل المُبادرة العربية وليس فقط طَرحها لتسجيل مَوقِف عربي ضِد إسرائيل برَمي الكُرَة في ملعَبها. حيث طَلَبَ فريدمان قيام الملك عبدالله بتسليم المُبادرة شخصياً عَبر السفر إلى تل أبيب والتَوَقُّف في أربع محطات:
المحطة الأولى: المسجد الأقصى، ليؤَكِّد للعالم الإسلامي أحقيَّة المسلمين بالقدس الشرقية مِنْ خلال صَلاتِه في المسجد الأقصى.
المحطة الثانية: مدينة رام الله، ليُخاطِب البرلمان الفلسطيني وإقناعهم بالمُبادرة (رَغمَ أنَّ السُّـلطَة الفلسطينية وافقت على المُبادرة العربية في حينها، وبالتالي فإنَّ فريدمان في هذا المقال يُوحي للقارئ بأنَّ السُّـلطَة الفلسطينية لم تُوافِق على المُبادرة العربية !!).
المحطة الثالثة: نَصب ياديم فاشيم لضحايا الهولوكوست في إسرائيل، وذلك لتأكيد عَدَم إنكار المسلمين والعرب للهولوكوست.
والمحطة الرابعة: البرلمان الإسرائيلي، ليَعرِض عليهم المُبادرة العربية لِحَلّ القضية الفلسطينية الإسرائيلية.
وفي مقاله الأخير بتاريخ 27/7/2023م (https://rb.gy/tzffl)، يَتَكَرَّر تَحَيُّز فريدمان الدائم إلى إسرائيل في كتاباته عن القضية الفلسطينية بعَدَم مُطالبتها بالإقرار بالحقوق الفلسطينية مُقابِل التَنَازلات الكبيرة التي يَطلُبها مِنْ الفلسطينيين والدول العربية، حيث كَتَبَ هذا المقال بعد أسبوع مِن دَعوَة الرئيس بايدن للقائه بشأن قضية عَزم نتنياهو إلغاء القوَّة القانونية للمحكمة الإسرائيلية العُليا على قرارات الحكومة الإسرائيلية. ففي مقاله هذا يَذكُر فريدمان معلومات استقاها مِن ذلك اللقاء عن وجود تَحَرُّكات أمريكية مُتَقَدِّمَة أكثر مما تَوَقّع لتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية، حيثُ يَجزِم فريدمان بأنَّ تَحَقُّق التطبيع السعودي الإسرائيلي مع تقليص العلاقات السعودية الصينية سيكون أكبر وأهمّ مِن إتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، لأنَّ تطبيع المملكة هي “الجائزة الكُبرى” لإسرائيل، حيث سيؤدي ذلك إلى تحقيق السلام بين إسرائيل وجميع الدوَل الإسلامية.
ثُمَّ يَكتُب فريدمان قائلاً بأنَّ أمريكا تُريد مِن المملكة تنفيذ ثلاثة أُمور هي:
*وَقف حرب اليمن.
*حزمَة مُساعدات كبيرة غير مسبوقة Unprecedentedly Large للمؤسسات الفلسطينية في الضفة الغربية. (وكأنَّ الذي دَمَّرَ قُرى ومُدُن فلسـطينية وشَـرَّدَ سُكانها الفلسطينيين المملكة، وليسَـت إسرائيل مُنذُ قيامها قبل 75 سنة؛ وذلك خِلافاً للأعراف الدولية في تحميل الجهة المُعتَديَة تكاليف التعمير والتعويض !!).
*تقليص كبير في العلاقات السعودية الصينية، وتَوَقُّف السعودية عن فِكرَة بيع نفطها بالعُملة الصينية، وكذلك وَقف التعاون مع شركات التقنية الصينية العملاقة مثل هواوي.
مِن جانبٍ آخر، نَجِد أنَّ كِتابات فريدمان تَتَغَافَل ولا تتناول قَلب قضية الصراع العربي الإسرائيلي وجوهر تَسويَته الكامِن في قرارات الأمم المتحدة رقم ٢٤٢ و ٢٣٨، وإنما يدعو دائماً إلى تنازلات عربية هُنـا وهناك. وهذه الحقيقة جاءَت في مقاله الأخير، حينما قال: “أعَتقِد أنَّه على الأقل، يُمكِن للسعوديين والأمريكيين طَلَب أربعة أشياء مِنْ نتنياهو مُقابل جائزة ضخمة مثل التطبيع والتجارة مع أهم دولة عربية إسلامية. هذه الأشياء أو الأمور هي:
*وَعَد رسمي بعَدَم ضَمّ الضفة الغربية إطلاقاً (وكأنَّ إسرائيل تَلتَزِم بالاتفاقيات والمواثيق والوعود !! فأينَ إسرائيل مِن تنفيذ بنود اتفاقية أوسلو التي مضى على توقيعها ثلاثة عقود !؟).
*لا مُستَوطَنات جديدة في الضفة الغربية أو تَوَسُّع خارج المستوطنات القائمة (أي أنَّه يُسمَح لإسرائيل بالتَوَسُّع في المستوطنات القائمة حالياً !!).
*عَدَم الاعتراف بالبؤر الاستيطانية اليهودية غير النظامية (وكأنَّ أمر الاستيطان نظامي وقانوني !).
فتوى فريدمان الغَبيَّـة !!
ثُمَّ تأتي الطَّامَة الكُبرى في تَنظيرات فريدمان في مقاله هذا، حيثُ أصدَرَ فريدمان فتواه الغَبيَّة قائلاً: “القيادة السعودية لَيسَــت مُهتَمَّة بشَـكلٍ خاص بالفلسـطينيين أو على دراية بتعقيدات عملية السلام”، مُغفِلاً ومُتَجَاهِلاً عَن عَمْد نِقاش الضَّرَر الذي سَـيلحَق بالسعودية نتيجة “فتواه” بتَنَصُّلِها مِنْ تسوية مقبولة فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، ثُمَّ “يزيد الطين بِلَّه” بوَصَف القيادة السعودية بالجَهل في تعقيدات عملية السلام، وكأنَّ قيادة المملكة ــ لا سَمَحَ الله ــ هي “بلطَجيَّة” إحدى جمهوريات الموز، وليست تلك القيادة السياسية الرَّزينة المُتَّزِنَة الواضِحَة مُنذُ أنْ وَحَدَّ المملكة الملك عبدالعزيزــ طَيَّبَ الله ثراه ــ التي يَتسـابق ويتزَاحَم على لقائها حالياً كِبار قادَة العالم الغربي والإسلامي والعربي. إنَّ فريدمان يَنزَع ــ بفتواه السخيفة هذه ــ أكبر ورقة داعمة للمملكة سياسياً على نطاق العالم العربي والإسلامي، لِما لبلاد الحرمين الشريفين مِنْ مكانةٍ دينيةٍ لدى شعوب الدول الإسلامية والعربية.
وهُنا نتساءَل مع السيد توماس فريدمان: كيف يُفَسِّـر قرار المملكة الأخير تعيين سفيراً مُفَوَّضَاً وفوق العاَدَة لدى دولة فلسطين وقُنصُلاً عامَّاً للمملكة في القُدس !!؟ هل قرار المملكة هذا يَنُمّ عَن جَهل في تعقيدات عملية السلام أو عَدَم اهتمام بالفلسـطينيين !؟
حقيقَة “الحليف الإستراتيجي” !!
الغريب في كتابات توماس فريدمان عن أهمية المملكة في حَلّ القضية الفلسطينية، بوَصفِها “الجائزة الكبرى” للتطبيع العربي والإسلامي مع إسرائيل، أنَّه لم يُرَكِّز كثيراً على حقيقة وطبيعة العلاقات السعودية الأمريكية مُنذُ بدئها قبل تسعين عام، وذلك في ظِلّ وَصف المملكة مِنْ قِبَل عدد كبير مِنْ السَّاسَة والإعلاميين الأمريكان بأنها شـريك أو “حليف استراتيجي” لأمريكا.
فمِن الحقائق التي لن يستطيع أي شخص تفنيدها عن حقيقة وَواقِع العلاقات السعودية الأمريكية عَبر تسعين عام ما يلي:
*حتى الآن لا يوجد تحالف قانوني بين المملكة وأمريكا. كل ما هو موجود عبارة عن تصريحات للإدارات الأمريكية المُتَعاقِبَة مُنذُ بدأت العلاقة بين الدولتين قبل تسعين عام. بمعنى آخر، لا يوجد حِلف أو إتفاقية أمنية بين المملكة وأمريكا على غِرار دوَل حِلف الناتو أو اتفاقياتها مع اليابان وكوريا الجنوبية. وبالتالي، فإنَّ هذا الوضع يجعل العلاقة السعودية الأمريكية عُرضَه بشكل مُستمر لِتَقَـلُّبات السياسة الأمريكية مِنْ حزب جمهوري إلى ديمقراطي والعكس، أو حتى اسـتجابةً لمقالات صحفية أو ضُغوط إعلامية، كما حَدَثَ خلال حُكم الملك فيصل رحمه الله، وكذلك مُنَذُ عام 2001م وحتى الآن. بل إنَّ هذه العلاقة عُرضَة للتَغَيُّر بدرجةٍ كبيرة كُلّ سنتين، وذلك في ظِلّ النظام الديمقراطي الأمريكي الذي تَتِمّ فيه انتخابات مجلس النواب (الكونجرس) كُلّ سنتين أو ما يُسمى Mid-Term Election، مما قَد يؤدي إلى سيطرة الحزب الديمقراطي مثلاً على الكونجرس أو مجلس الشيوخ أو كليهما في حين يكون الرئيس مِن الحزب الجمهوري، أو العَكس.
*لا يوجد بين المملكة وأمريكا أي اتفاق عسكري يَضمَن تَدَفُّق مبيعات الأسلحة للمملكة بدون شروط أو عراقيل. بل إنَّ بعض الصفقات العسكرية للمملكة تَستَغرق أشهُراً وأحياناً سنوات لإتمامها، وذلك بسبب ضغوط سياسية حِزبيَّة أو “لوبيات” حزبيَة أو صهيونية أو إعلامية.
*لا يوجد أي اتفاق تجاري أو اقتصادي بين المملكة وأمريكا تُعَامِل به المملكة مِثل مُعَامَلَة كندا والمكسيك في إتفاقية “نافتا NAFTA”، حيث ألغَـت هذه الإتفاقية الرسوم والتعريفات الجمركية على السلع بين أمريكا وكندا والمكسيك. ومع ذلك، تَجِد رؤساء أمريكا وكِبار ساسَـتها في المُلِمَّات يقولون إنَّ المملكة شريك أو حليف إستراتيجي !!!
*في موضوع سَعي المملكة لبناء مفاعلات نووية للأغراض السِـلميَّة بالتعاون مع أمريكا، فإنَّ المملكة، “الحليف الاستراتيجي” كما يقول ساسَة البيت الأبيض دائماً، وَوِفقَاً لاتفاقية 123 Agreement 123 والشرط الذهبي Gold Standard الذي تشترطه وكالة الطاقة الأمريكية، لن يُسمَح للمملكة بتَخصيب اليورانيوم المُنتَج محلياً، بل عليها استيراد اليورانيوم المُخَصَّب مِنْ أمريكا؛ رَغمَ أنَّ المملكة لديها حوالي 7% مِنْ احتياطيات العالم مِنْ اليورانيوم.
فأيُّ “حليف إستراتيجي” هذا الذي تُفرَض عليه شروط لم تَفرضها أمريكا على دوَلٍ لم تُقَدِّم لأمريكا مِثل ما قَدَّمَته المملكة عَبر تسعين عاماً من العلاقات الدبلوماسية المُتَمَيِّزة والمُسانَدة الإستراتيجية على حساب مَصالِحها الاقتصادية !؟
حليف إسـتراتيجي !!
مِما تَقَدَّم، يَـتَضِح أنَّ تَسـميَة المملكة شريك أو “حليف إستراتيجي” مِنْ قِبَل عُقَلاء السَّـاسَة الأمريكان في المُلِمَّات والأزَمات العالمية، يَتَطَلَّب تَحَقُّق ثلاثة شروط على الأقل لِتكون هذه الصِّفَة حقيقة واقعية، وبدون تَحَقُّق هذه الشروط الثلاث لا يمْكِن الاعتراف بوجود علاقة أو شراكة أو “حِلف إسـتراتيجي” بين المملكة وأمريكا إذا لم تكُن المملكة بمستوى حُلفاء أمريكا الباقين. هذه الشروط الثلاثة هي:
*اتفاق قانوني مُؤَيَّد مِنْ الكونجرس للتحالُف الاستراتيجي الأمريكي والسعودي، يَنُص على التزام أمريكي بأنَّ أي حرب على المملكة يعني حرب على أمريكا، وإذا امتَلَكَت أي دولة في المنطقة سلاح نووي ستكون المملكة تحت المظلة النووية الأمريكية.
*اتفاق عسكري أمريكي سعودي يُسَهِّل توطين الصناعات العسكرية في المملكة ويُخَفِّف تكاليف التَسَلُّح بشكلٍ قانوني، خاصةً أنَّ المملكة خامس دولة في العالم في الإنفاق على السلاح. وبالتالي، سَـيُخَفِّف هذا الاتفاق العسكري مع المملكة مِنْ الأعباء المالية عليها، لأنَّه في كُلّ صفقة عسكرية أمريكية مع المملكة تَحصَل الحكومة الأمريكية على نسبة مِنْ قيمَتها.
*اتفاقية قانونية مع أمريكا تُتيح للمملكة تخصيب اليورانيوم السعودي لأغراضٍ سِـلميَّة، وذلك بمشاركة ورقابة أمريكية، حتى تستفيدَ المملكة فائدة قُصوى مِن ثروتها مِن خام اليورانيوم، وبالتالي لن تحتاج المملكة استيراد يورانيوم مُخَصَّب بمبالغ طائلة، وذلك خِلافَاً لما يُراد مِنها حَسَب “الشرط الذهبي” وهو تصدير خام اليورانيوم السعودي واسـتيراد يورانيوم مُخَصَّب مِن أمريكا.
خُلاصة القَول تَكمُن في نُقطتين:
الأولى:
جاءت في مقال توماس فريدمان “مِن تل أبيب إلى الرياض” بتاريخ 6/6/2023م، حين كَتَب:
(يُمكِن للسعوديين تعزيز إئتلاف نتنياهو المُتَطَرِّف في السُّـلطة لسنوات، بمكافأة نتنياهو بالجائزة الكُبرى بإقامة علاقات دبلوماسية مع الرياض، لأنَّه مِن المُرَجَّح أنْ يؤدي هذا إلى وضع إسرائيل في مواجهة مُسـتَقبل الدولة العُنصريّة).
وكأنَّ إسرائيل مُنذُ أنْ غَرَسَـها الاستعمار الغربي في خاصِرَة الدول العربية حريصة جداً على تداعيات عُنصُريَتها على فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أنَّها تَهتَمّ بقرارات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان !!
الثانية:
في ظِلّ التَحوُّلات المُتَسارعَة التي يَشَهدَها العَالَم في العلاقات الدولية، فإنَّ رَبط مَسـار بناء علاقة أو حِلف إسـتراتيجي بين أمريكا والمملكة بمَسَــار تطبيع المملكة مع إسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وتجارية معها، مَضيَعة للوقت ولا يَخدِم مصالح البلدين والشعبين الأمريكي والسعودي.
* كاتب سعودي
* المفكر المصري عضو مجلس أمناء النهضة العربية (أرض)
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"