كريستوفر نولان…  صنع من صمت الموت فيلما

مشاركة
* علا الشيخ 08:05 ص، 27 يوليو 2023

يلخص المشهد الذي جمع العالم الفيزيائي والكيميائي ج. روبرت أوبنهايمر والرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان في فيلم "أوبنهايمر" للمخرج الأمريكي البريطاني كريستوفر نولان، المعنى الدقيق في الفرق بين العلم والسياسة، عندما جلس أوبنهايمر بشكل مهزوز في مواجهة ترومان بعد احتفاء أمريكا به بعد صنعه للقنبلة النووية، حينها قال ترومان بشكل أقرب الى التوبيخ عندما استشعر ضعف وخوف أوبنهايمر "التاريخ لن يذكر من صنع القنبلة، التاريخ سيذكر من ألقاها" 

هذا الفيلم  و الذي  يعرض في صالات السينما الأمريكية وغالبية صالات السينما في العالم،   استحوذ على اهتمام جمهور  ونقاد  على حد سواء، بحيث  يجمع الفيلم بين العناصر الدرامية والعلمية ليقدم قصة مشوقة تأخذ المشاهدين في رحلة استكشافية مدتها ثلاث ساعات  ندرك من خلالها الأبعاد الإنسانية والتكنولوجية في حضرة السياسة وتحكمها،  من خلال حدث الفيلم وهو مشروع مانهاتن الذي كان نواة انتاج الأسلحة النووية خلال الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت مع القنبلتين الذريتين اللتين اطلقتهما أمريكا على هيروشيما وناغاساكي في عام 1945.

نعم ، كثيرون لا يعرفون أوبنهايمر، لذلك كان من الضرورة تسليط الضوء عليه حسب نولان ، الذي عرف عنه من خلال  كتاب قدمه  الممثل روبرت باتينسون له بعد انتهاء تصوير فيلم تينت عام 2020،  هذا الكتاب من تأليف وبحث كاي برد ومارتن ج.شيروين ، ومع هذا الفيلم بات كل من شاهده يعرف ولو بشكل بسيط عن الفيزيائي الذي انجز مشروع القنبلة الذرية، والذي أدى دوره ببراعة فائقة كيليان ميرفي ، أداء يجعله  حاملا أوسكار أفضل ممثل قريبا ، فالأداء التمثيلي لعب جزءا أساسيا في نجاح فيلم "أوبنهايمر" الى جانب كل عناصر الفيلم، التي تعود الى إدارة مخرج  جمع أفضل الممثلين للعب أدوار الشخصيات الرئيسية والثانوية( مات ديمون،جاسون كلارك ، ايميلي بلانت، روبرت داوني جونيور) وغيرهم، بحيث استطاعوا   نقل العواطف والتوتر بشكلٍ واقعي، في حضرة تصوير  استخدم من خلالها نولان تقنيات مبتكرة وزاويا مثيرة للاهتمام لإضفاء أجواء من الغموض والتشويق،  ما أعطى أهمية كبيرة للتفاصيل التي لفتت  انتباه المشاهدين على الأحداث المهمة في القصة التي تعتبر أقوى نقاط الفيلم ، بحيث تتناول  موضوعا هاما يتعلق بالتكنولوجيا وتأثيرها على البشرية، وعقلية صناعها في مواجهة من يريد استغلالها، نجح الفيلم بأن يتحول الى منصة للتفكير والنقاش حول أدوار العلماء والسياسيين في صنع المستقبل وتأثير قراراتهم على العالم.

 

 

أوبنهايمر في المعمل ليس كخارجه

 

لا شيى له قيمة تجذبك في حياة أوبنهايمر وهو خارج المعمل، شخصية وحيدة حتى لو كان حوله العشرات، لديه شروره الداخلية التي ظهرت في مشهد  حقن تفاحة أستاذه بمادة قد تودي بحياته ، علاقاته الخاصة مع النساء مربكة حتى بعد زواجه من نموذج امرأة تشكل التضاد معه (ايميلي بلانت)، حتى أبوته ليست محال تركيز، حضوره ليش طاغيا الا عندما يقف أمام طلابه،  هو خلق لحديث جانبي مع آينشتاين ، و ليكون في معمل لتخصيب القنابل النووية، شخصية لا يمكن تكهن أنها قادرة على فعل ذلك الا لكي تثبت تفوقها العلمي، وجهه وتفاصيل حركته تغيرت كليا بعد انتقاله من مُحاضر الى رئيس فريق كامل من أمهر العلماء، و كأنه أراد اقتناص هذه الفرصة حتى لو كان ثمنها أن يرتدي البزة العسكرية قبيل انتقاد زميله له ، و التي كانت أول  حقيقة في تورطه قبل أن يدرك ذلك.

ومع كل هذا الهدوء في حياته والصخب في حين واحد، خاصة مع علاقته العابرة ، لا يفلت من نولان إعطاء كل مشهد قيمته، فأثناء  ممارسته الجنس مع عشيقته تناولت كتابا باللغة السينسيكرتية التي وضح أن أوبنهايمر يعرفها، وطلبت ان يقرأ لها فكانت الجمله " أنا أصبحت الآن الموت، مُدمِّرُ العوالم" والتي ترتبط الى حد ما مع  الجملة التي افتتح بها الفيلم المأخوذة من اسطورة  الآلهة الاغريقي بروميثوس والتي كانت تتحدث عن أن النيران لم تكن سوى رمزا للمعرفة التي أساء البشر استخدامها.

 

تتبع

الفيلم الذي يبدأ مع محاكمة أوبنهايمر والتحقيق معه، لأسباب متعلقة بضرورة التخلص منه من خلال الإطاحة بسمعته، وفي ذلك الوقت ليس أسهل من زج تهمة عمالته للاتحاد السوفيتي ، مستندين على كلام قاله تبين حسب وجهة نظرهم انه متعاطف مع الحركة الشيوعية، لقطات المحاكمة و شهادة الشهود الذين غالبيتهم تخلوا عنه لمعرفة فداحة ما قد يحدث لهم، كانت تقتطع بشكل سلس للتقرب من حياة أوبنهايمر، الذي بدأ  فعليا تجهيز مشروع مانهاتن، في تلك المشاهد الذي يكثر فيها الحديث العلمي و المصطلحات الفيزيائية، ثمة فرصة للتقرب و التمعن بصنع الصورة فنيا، التي يعي المخرج نولان قيمتها ، ومن الواجب المرور عليها، فنولان صاحب فيلم تينت، دارك نايت،ميمنتو ، وغيرهم ، يتمتع برؤية فنية متميزة وفريدة تجلت  في اختياره القصة الملهمة للفيلم وطريقة تناوله للموضوع العلمي والسياسي، بحيث  يعكف المخرج على جعل كل مشهد يحمل رسالة وتفاصيل مميزة تعزز التجربة السينمائية،  بإبداعه في إدارة التصوير واستخدام التقنيات المبتكرة لإبراز المشاهد بأبهى صورة،  إدارته للإضاءة  والزوايا بحذر لإيصال أجواء مختلفة وتعزيز المشاعر والمواقف، إشرافه الدقيق على التفاصيل بحيث يهتم بكل جانب من جوانب الفيلم بدقة وعناية، سواء في اختيار الممثلين المناسبين أو التصميم الفني أو تأثيرات الصوت والموسيقى، و قدرته على استخلاص المشاعر وتحويلها إلى لغة سينمائية تعبر بدقة عن المشاهد والأحداث، وظهر هذا جليا في مشهد تجربة القنبلة.

 

صمت الموسيقى

لم يغفل  المخرج أهمية التصميم الصوتي والموسيقى في تعزيز تجربة المشاهدة،  استخدمت الموسيقى الخلفية  وهي من تأليف لادويج جورانسون ببراعة لتعزيز المشاهد الدرامية والمشوقة، لكنها اختفت تماما مع تجربة القنبلة، فقد اختار بعبقرية المخرج نولان  عدم وضع أي موسيقى لهذه اللحظة الحاسمة، وهذا الاختيار الفني عزز قوة اللحظة و ساهم  في خلق تأثير مرئي أكثر واقعية،  كانت الموسيقى هي أنفاس المشاهدين التي حبست لثوانٍ ، فقد تمكن هذا النهج السينمائي من نقل شدة الحدث وجعل المشاهدين يشعرون بالتوتر والترقب أكثر، حيث أن الصمت ترك  للمشاهدين الفرصة لتجربة المشهد والتعايش معه بشكل أكبر.

 

 

لحظة الإدراك المتأخرة

لا أحد يعرف معنى القنبلة الذرية أكثر من أوبنهايمر، هو القادر على وصف القدرة التدميرية لها، حتى لو لم يشهدها وهي تحط على هيروشيما وناغاساكي، ففي لحظات تكريمه العديدة، كان يقف أمام الناس، ليتحولوا فجأة في مخيلته الى أشكال الضحايا، وجوه محروقة، و أجساد متفتتة، حتى قدماه حطت على بقايا القنبلة في خياله، هنا تغيرت شخصية أوبنهايمر في الفيلم، وبات من الضرورة التركيز على الفخ اذا صح تبسيط الحالة، و التساؤل اذا كان هو أيضا ضحية منظومة، لينتقل التركيز بعدها على المواجهة في الخطاب بين العلم والسياسة، بين الطموح العلمي و المخاطر الإنسانية، نشاهد التناقض في سعي أوبنهايمر وزملاؤه العلماء إلى تحقيق تقدم في مجال العلوم، ولكنهم في نفس الوقت يدركون الآثار الكارثية التي قد تنجم عن تلك التقنيات،  يتناول الفيلم هذا التوازن الحساس ويطرح أسئلة حول حدود العلم والأخلاق ومسؤولية العلماء.

في المقابل يستعرض الفيلم العلاقة المعقدة بين العلم والسياسة، وكيف يتم استخدام التقنيات العلمية لأغراض سياسية وعسكرية، يظهر الفيلم الطموحات السياسية وتأثيراتها على اتخاذ القرارات العلمية، وكيف يتم استغلال التكنولوجيا لتحقيق أجندات سياسية وتحقيق المصالح الخاصة، هذا يشكل توترًا مهمًا يثري القصة ويجعلها أكثر إلهامًا للتأمل، بخاصة بعد محاولات للإطاحة بسمعة أوبنهايمر الذي تصدرت صورته الصفحات الأولى في كبرى الصحف، وانتهت بصورة صغيرة في احدى المقالات، وهذا هو ملخص الفيلم والحكاية و أبعادها.

 

* صحفية وناقدة سينمائية

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"