إذا أخذت جولة بين جنبات القرافة ستجد مجموعات من الشباب والشابات من جنوب شرقي آسيا، وهم يزورون مقابر شخصيات إسلامية من حجم الإمام الشافعي أو ابن حجر العسقلاني أو جلال الدين السيوطي. لا يقوم هؤلاء الطلبة الذين يدرسون في الأزهر إلا بتقليد تاريخي ممتد لقرون وخلدته سلسلة طويلة من الرحلات من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، التي جعلت من زيارة القرافة ركنا أساسيا من أركان زيارة القاهرة. وهي شهادات حية تقف أمام معاول الهدم الجارية في جبانات القاهرة الآن، تكشف عن الجوانب الروحانية الهائلة لمنطقة القرافة وتراثها المهدد من ناحية، كما تقدم نموذج لإمكانية استخدام القرافة بما تحتوي كمقصد سياحي على مستوى السياحة الدينية، والأهم أنها تنفي المنطق الاستشراقي الذي يرمي القرافة بأنها مدينة موتى، إذ كانت تنبض بالحياة وتفاصيل مصرية خالصة.
***
كتابات الرحالة الذين زاروا مصر في عصور مختلفة، خصوصا من الرحالة المسلمين، تركت لنا ثروة هائلة عن جبانات القاهرة، ومدى الاحترام البالغ الذي نالته القرافة في ذاكرة الشعوب الإسلامية، وهو أمر يمكن استثماره والعمل عليه في أي مشروع لترويج السياحة الدينية داخل القاهرة، بما يكشف عن مورد سياحي لمصر لم يستغل بعد، لكن هذا كله قد يتبخر مع استمرار عمليات الهدم المتواصلة وغير المسبوقة في حجمها داخل الجبانات المصرية خصوصا منطقة ترب الشافعي وسيدي جلال والسيدة نفيسة، والتي تدهس التاريخ دهسا غير مدركة حجم الإفادة التي يمكن التحصل عليه من عمليات الحفاظ على هذه الثروة من المقابر، ليس التاريخية أو الأثرية فقط، بل على جميع المقابر كوحدة نسيج عمراني يعاد فيها إحياء القرافة كما كانت في العصور الوسطى وحتى عصر قريب جزءا حيا من العاصمة المصرية، وليس مدينة للموتى كما يحلو للبعض أن يطلق عليها دون فهم لطبيعة التجربة المصرية الخاصة جدا مع الموت.
***
فزيارة القرافة والإقامة فيها وممارسة أوجه الحياة بأشكال مختلفة أمر أقره الرحالة الذين زاروا مصر وسجلوا إعجابهم بتجربة المصريين الفريدة في التعامل مع القرافة، إذ يقول ابن جبير الأندلسي في رحلته المعروفة باسم “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار”، والتي سجل فيها مشاهداته في مصر زمن صلاح الدين الأيوبي: “بتنا بالجبانة المعروفة بالقرافة، وهي أيضًا إحدى عجائب الدنيا، لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة”، وهو يقرر أن المشاهد الكريمة بالقرافة “أكثر من أن تُضبط بالتقييد أو تتحصل بالإحصاء، وإنما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته”.
ويبدي ابن جبير إعجابه الشديد بالقرافة المصرية، إذ يكتب: “ومن العجب أن القرافة المذكورة كلها مساجد مبنية ومشاهد معمورة يأوى إليها الغرباء والعلماء والصلحاء والفقراء”، فابن جبير لا يتحدث هنا عن القرافة باعتباره مدينة موتى بل كجزء حيوي من المدينة يعيش فيه الكثير من العلماء والصوفية بجوار المشاهد لعلماء وفقهاء كبار. وهو الأمر الذي جعلها مدينة قائمة بذاتها ومنطق جذب للسياح إذا استخدمنا مصطلحا حديثا، فكتب الرحلة تفيض بمعلومات تكشف عن تحول القرافة إلى مقصد سياحي من الطراز الأول على مدار قرون عديدة حتى يومنا هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار زيارات الإندونيسيين وغيرهم من شعوب جنوب شرق آسيا لمقاصد بعينها في قلب القرافة.
***
وهو نفس ما نجده عند خالد بن عيسى البلوي، والذي زار مصر سنة 737هـ/ 1337م، وذكر في رحلته “تاج المفرق في تحلية علماء المشرق” رحلته لزيارة القرافة: “ثم قصدت القرافة، وهي ما بين مصر والقاهرة، بلدة كبيرة منفردة بنفسها مستقلة بأسواقها ومساجدها، وهي إحدى العجائب بما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة”.
نترك البلوي ونذهب مع أبي سالم العياشي (زار مصر سنة 1073هـ/ 1661م)، والذي سجل مشاهداته في الرحلة العياشية، إذ يقول: “وقد خرجنا آخر يوم من رمضان عشاء لزيارة القرافة الصغرى، وكان يومنا كثير الحر”، وهو يعترف أن الزيارة كانت سريعة موجزة للمقابر بسبب الصيام وشدة الحر وكثرة الزحام، لكنه يعطي صورة عن عادة من عادات المصريين في التعامل مع المقابر إذ يقول: “ولم نستكمل مرادنا في الزيارة ذلك اليوم، لشدة الحر وضعفنا بالصوم مع كثرة الزحام بالمقابر، فإن عادة النساء بمصر أن يخرجن ليلة العيد ويومه إلى المقابر، ويبقين هنالك برهة من الزمان”.
***
تتأكد هذه الصورة عند الرحالة النابلسي الذي زار مصر في سنة 1105هـ/ 1693م، وسجل مشاهداته في رحلته “الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز”، إذ نرى استمرارا لما سبق وأن ذكره ابن جبير قبل ذلك بأكثر من 500 عام، إذ يقول: “ولا تكاد تخلو القرافة من طرب، ولا سيما في الليالي المقمرة، وهي معظم مجتمعات أهل مصر وأشهر متنزهاتهم…والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها، ولا أبهى ولا أعظم ولا ألطف من أبنيها وقبابها وحجرها، ولا أعجب برية منها كأنها الكافور والزعفران، مقدسة في جميع الكتب، حين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عالي عليها، وفيها حايط من ورائها”.
بل أن العياشي يعطينا ملمحا مهما عن اتساع برنامج زيارة الجبانات إذ يعطينا نصا على غاية من الأهمية في ما يخص ترب المجاورين بالدراسة إذ يقول: “ثم زرنا غالب من كان بتربة المجاورين من الصالحين، وسمي هذا المكان تربة المجاورين لأنه قريب من الجامع الأزهر، وبه يدفن غالب أهله والمجاورين له، بل الأماكن القريبة من الجامع كلها تُسمى حارة المجاورين، إذ لا يسكنها في الغالب إلا العلماء والغرباء والفقراء، وقل أن تجد بإزائه دار متجر أو أحد أرباب الدولة لضيق المحل”، فقد تمددت زيارة الجبانات من منطقة القرافة جنوبي شرق القاهرة إلى المجاورين شمالها الشرقي، وهو أمر يكشف عن مدى الطلب الكبير على زيارة جبانات القاهرة من الزائرين للمدينة وذلك حتى وقت قريب.
المدهش أن القرافة في كتب الرحالة أصبحت بقعة محل إجماع وإشادة بجمالها، فعندما زار الرحالة العبدري المغربي مصر في نهاية القرن الثالث عشر، لم يعجبه في القاهرة إلا قرافتها، فقد هاجم المدينة وأهلها وألحق بها وبهم الكثير من التهم، إلا أنه لم يجد إلا التعبير عن جمال القرافة وما حوت، فقال في رحلته: “وفي القرافة وغيرها من أرض مصر من قبور العلماء والصلحاء ما لا يحصره عد”، ثم أخذ يعدد في ذكر قبور عدد من العلماء والصالحين، التي حرص على زيارتها والتبرك بها.
***
ما الهدف من هذا الدرس التاريخي الطويل والاستشهاد بنصوص رحالة من أزمنة مختلفة؟ نهدف من هذه الأمثلة أن نبعث برسالة للمسؤولين على ملف الإزالات في القرافة بأن هذا المكان الذي يتم التعامل معه بعبث واستهتار شديد نستطيع بقليل من الرعاية وقليل من الدعاية أن نحوله إلى مقصد سياحي له جمهوره في العديد من الدول الإسلامية، وذلك عبر الاستفادة من كتب الرحلات في الدعاية داخل هذه الدول لجلب سياحة من طراز مختلف. مع تأهيل منطقة القرافة لاستقبال السياح، إذ كانت القرافة دوما تستقبل الأحياء قبل الأموات، فلم تكن يوما مدينة الأموات. لكن هذا كله لن نفكر فيه إلا في حالة توقف بلدوزر الهدم الذي يضرب ضربات عشوائية في القرافة ويهدم التاريخ والتراث وفرصة استثمار سياحي على وشك الضياع.
* كاتب مصري
المصدر: "باب مصر"
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"