احتلت مصر موقعًا مركزيًّا في الدراسة التي كتبها عوديد ينون تحت عنوان "استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات". فعلى الرغم من أن هذه الدراسة نشرت بعد حوالي خمس سنوات من زيارة الرئيس السادات للقدس، وبعد حوالي أربع سنوات من توقيع مصر على اتفاقيتي كامب ديفيد، وبعد حوالي ثلاث سنوات من دخول معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية حيز التنفيذ. وعلى الرغم من إدراك "ينون" التام بأن توقيع مصر، الدولة العربية الأكبر، على معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل، كلفها تضحيات هائلة، وتسبب في عزلها عن العالم العربي وفقدانها هيبتها الدولية ومكانتها بين الأمم، إلا أن ذلك كله لم يشفع لها عند الحركة الصهيونية أو يجنبها مغبة ما كانت تحيكه لها هذه الحركة من مؤامرات. إذ تكشف هذه الدراسة، وبوضوح تام، أن صورة مصر في إدراك إسرائيل والحركة الصهيونية لم تتغير قط بعد توقيعها على معاهدة السلام. فقد اعتقد "ينون" أن أي استراتيجية لتفتيت العالم العربي لن تكلل بالنجاح إلا إذا كان بمقدورها إضعاف الدولة الأكبر في العالم العربي والمرشحة الطبيعية لزعامته. ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يحاول إثبات أن مصر، رغم ثقلها الديموغرافي وتأثيرها الثقافي، هي دولة ضعيفة وعاجزة ليس عن حماية العالم العربي فحسب، وإنما عن حماية نفسها من التفكك والسقوط. ولإثبات صحة قناعاته طرح "ينون" ثلاثة أسباب:
الأول: يتعلق بطبيعة النظام السياسي. فقد حاول "ينون" إثبات أن النظام المسئول عن إدارة الدولة والمجتمع في مصر هو نظام عقيم ومفلس ويتمتع بدرجة عالية من عدم الكفاءة، وأن البيروقراطية المصرية تمكنت من جهاز الدولة إلى درجة جعلت نظامها السياسي يبدو عاجزًا تمامًا عن الابتكار أو تحقيق أي إنجاز يذكر في أي مجال من المجالات. ورغم تسليمه بأن الجيش المصري يمثل حالة استثنائية، ومن ثم فبمقدوره الإفلات من قبضة هذه البيروقراطية المتحجرة، وهو ما أثبتته حرب أكتوبر 1973، إلا أنه واصل إصراره على التمسك بمقولة إن بقية قطاعات الدولة المصرية أصبحت في حالة يرثى لها من الترهل ولم يعد يشغلها سوى المحافظة على بقائها وإعادة إنتاج نفسها.
الثاني: يتعلق بطبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي. فقد ادعى "ينون" أن مصر دولة كثيفة السكان، شحيحة الموارد، متخلفة علميًّا وتكنولوجيًّا، وتكاد لا تجد ما يسد رمق سكانها الذين ما يزالون يعيشون بأعداد هائلة على رقعة محدودة من الأرض الزراعية لا تتجاوز نسبة ضئيلة جدًا من إجمالي مساحة البلاد، وأن المعونة الأمريكية التي تحصل عليها قد تساعدها على التخفف من أعبائها، لكنها معونة مشروطة وترتبط عضويًّا بعملية السلام، ومن ثم مؤقتة بطبيعتها ويصعب ضمان استمرار بقائها طويلًا. على صعيد آخر، اعتبر "ينون" أن النظام الاجتماعي في مصر يقوم على أسس طبقية وينطوي على مظاهر تمييز عديدة تمكن شريحة محدودة جدًا من السكان من مضاعفة ثرواتها بسرعة، والاستحواذ على النسبة الأكبر من إجمالي الدخل القومي، بينما تزداد الأغلبية الساحقة فقرًا يومًا بعد يوم! ولأن النظام الخدمي، خصوصًا التعليمي والصحي، يبدو متهالكًا بدوره من وجهة نظره، فليس من المتوقع أن تتمكن مصر من تحقيق انطلاقة تنموية خلال المدى المنظور.
الثالث: يتعلق بحالة الاستقرار والتعايش الطائفي. فقد ادعى "ينون" أن الأحوال الاجتماعية في مصر سيئة بسبب وجود أقلية قبطية كبيرة العدد، مضطهدة أو مهمشة ومستبعدة من المشاركة في العمل العام. ولأنها تبلغ، في تقديره، ما يقرب من 10% من إجمالي السكان وتشكل في الوقت نفسه أغلبية في جنوب البلاد، فقد أصبحت تبدو أكثر ميلًا للعزلة وليست لديها رغبة قوية في التعايش مع الأغلبية، خصوصًا في ظل تنامي التيارات الأصولية الإسلامية، وربما تكون قد أصبحت الآن جاهزة ومستعدة للانسلاخ عن الوطن الأم والتفكير في الاستقلال.
استنادًا إلى هذه الأسباب أو الفروض الثلاث، والتي تعامل معها بوصفها حقائق لا تقبل الجدل، توصل "ينون" إلى نتيجة مفادها أن مصر تبدو في ظاهرها دولة قوية، لكنها في حقيقتها دولة هشة، وهي حقيقة راحت، من وجهة نظره، تتكشف تباعًا عقب حرب 1956 ثم تأكدت نهائيًّا عقب هزيمة 1967 التي أدت إلى تدهور قدرات مصر الحقيقية بمقدار النصف على الأقل. صحيح أن استعادتها لسيناء، بما تحتوي عليه من ثروات طبيعية, خصوصًا في مجال الطاقة والغاز، قد يمكنها، من وجهة نظره، من استعادة بعض عافيتها، لكن "ينون" يرى أن على إسرائيل أن تحول دون حدوث ذلك وألا تسمح لمصر بالتقاط أنفاسها من جديد. ومن هنا نصيحة "ينون" للحكومة الإسرائيلية بأن تتبنى استراتيجية للتعامل مع مصر تقوم على خطين متوازيين، الأول: يستهدف العمل على استعادة سيناء، والثاني يستهدف تشجيع قيام دولة ذات أغلبية قبطية في صعيد مصر.
وفيما يتعلق بالخط الأول، حرص "ينون" على تحذير إسرائيل من تبني أي سياسة تقوم على الحلول الوسط، خصوصًا إذا تضمنت هذه السياسة انسحابًا من أراض كانت تحتلها، ومن هنا معارضته لمعاهدة السلام مع مصر، والتي أدت إلى انسحاب إسرائيل من سيناء. ويلاحظ هنا حرص "ينون" على تجنب اللجوء إلى الحجج التاريخية واستبدالها بحجج ذات طابع اقتصادي، تركز على ضرورة تأمين احتياجات إسرائيل المتزايدة من مصادر الطاقة المختلفة، خاصة النفط والغاز والمعادن الكثيرة التي تحتوي عليها سيناء. غير أنه بدا واضحًا من تحليله لهذه النقطة أنه يرمي إلى ما هو أبعد، وينظر إلى سيناء باعتبارها منطقة خفيفة السكان، وقابلة للتوسع والامتداد العمراني على نحو يصلح لاستيعاب الفلسطينيين الذين قد يضيق بهم قطاع غزة المكتظ، أو باعتبارها منطقة صالحة لتوطين نسبة لا بأس بها من اللاجئين الفلسطينيين في إطار حل دائم لمشكلتهم، حين يحين الوقت. أو حتى لاستيعاب المزيد من المهاجرين اليهود المتوقع تدفقهم على إسرائيل من مختلف أنحاء العالم، خصوصًا في ظل التحول التدريجي المتوقع لإسرائيل كقوة عظمى مهيمنة في المنطقة. أما فيما يتعلق بالخط الثاني، والذي يستهدف تعميق الخلافات بين المسلمين والأقباط والدفع في اتجاه قيام دولة ذات أغلبية سنية في الشمال وأخرى ذات أغلبية قبطية في الجنوب، فيلاحظ أن "ينون" يؤسس قناعاته هنا على أن نجاح إسرائيل في تحقيق هذا الهدف يحقق لها أمرين على جانب كبير من الأهمية، الأول: إضعاف الدولة المركزية في مصر، وبالتالي حرمان العالم العربي من قوة كانت ولا تزال مرشحة دائمًا لقيادته نحو التكامل أو الوحدة. الثاني: خلق أجواء مواتية لتفتت الدولتين المجاورتين لمصر، وهما ليبيا والسودان، لأنهما "لن يصمدا أبدًا كدول موحدة إذا ما تفتتت مصر".
في سياق ما تقدم، يمكن القول إن خريطة الدولة المصرية مرشحة للتغير، في حال نجاح إسرائيل في تحويل استراتيجيتها لتفتيت العالم العربي إلى حقيقة واقعة، وذلك على النحو التالي:
· أولًا: فصل سيناء عن مصر ووضعها من جديد إما تحت الهيمنة الإسرائيلية مباشرة، أو لاستخدامها متنفسًا لقطاع غزة المكتظ بالسكان، أو في إطار تسوية محتملة لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
· ثانيًا: قيام دولة ذات أغلبية سنية في شمال الدلتا.
· ثالثًا: قيام دولة ذات أغلبية مسيحية في صعيد مصر.
· رابعًا: قيام دولة نوبية في الوسط.
ويلاحظ هنا أن "ينون" لم يطالب صراحة باستخدام القوة المسلحة، خصوصًا لتحقيق الهدف المتعلق بفصل سيناء عن مصر، إلا أنه بدا واثقًا من أن النظام السياسي المصري سيرتكب ما يكفي من أخطاء تسمح لإسرائيل باستخدامها كأعذار تساعدها على تحقيق أهدافها التي يبدو واضحًا أنها لن تتخلى عنها مطلقًا، حتى وإن بدت مستعدة دائمًا لتأجيل بعضها تكتيكيًا إلى أن يحين الوقت المناسب. قد يقول قائل أن ما يقرب من أربعة عقود انقضت بالفعل، منذ أن قام "ينون" بنشر دراسته في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، دون أن يتحقق منها أي شيء مما كان يروج له. فسيناء ما تزال تحت السيادة المصرية ولم تتمكن إسرائيل من إعادة احتلالها أو وضعها من جديد تحت هيمنتها المباشرة، وربما لم تحاول ذلك أيضًا، كما لم تتمكن من استخدامها متنفسًا يصلح لتوطين اللاجئين الفلسطينيين. ولأن القضية الفلسطينية ما تزال دون حل، فليس من المعروف ما إذا كانت إسرائيل تخطط فعلًا لاستخدام سيناء كوطن بديل للفلسطينيين. على صعيد آخر، يلاحظ أن مصر لم تتفتت ولم تقم فيها دولة ذات أغلبية سنية في شمال الدلتا، ودولة أخرى ذات أغلبية مسيحية في الجنوب ودولة نوبية في الوسط. ومع ذلك يتعين الانتباه إلى حقيقة أساسية وهي أن مصر لم تستفد شيئًا من توقيعها على معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل، بل على العكس، فقد أصبحت بعد توقيع المعاهدة أكثر ضعفًا وترهلًا مما كانت عليه قبل توقيعها، خاصة حين كانت تقود العالم العربي نحو مواجهة شاملة للمشروع الصهيوني. أي أن أحلام الرخاء والاستقرار التي روج لها السادات لتبرير توقيعه على هذه المعاهدة لم يتحقق منها أي شيء، بينما ازدادت إسرائيل قوة وتمكنت من اختراق العالم العربي كله دون أن تلزم نفسها بأي تسوية مقبولة من جانب الفلسطينيين. وهنا مربط الفرس، فمن المؤكد أن السياسات الإسرائيلية تحرص كل الحرص على أن تظل مصر ضعيفة وألا تقوم لها قائمة، ما يعني في حقيقة الأمر أن المخططات الصهيونية الرامية لتفتيت مصر ما تزال قائمة، لكنها أحلام مؤجلة تنتظر اللحظة المناسبة لوضعها موضع التنفيذ. وهذا ما ينبغي على الشعب المصري أن يدركه وأن يتحسب لنتائجه المحتملة.
* المفكر المصري عضو مجلس أمناء النهضة العربية (أرض)
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"