تهلّ علينا في هذه الأيام ذكرى مرور 12 عاماً على الثورة المصرية. ولأنها ثورة شعبية بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، فمن الطبيعي أن يكون لدى كل من شارك فيها، وهم بالملايين، رؤيته الخاصة لأسباب اندلاعها ونجاحها في إسقاط رأس الدولة وإخفاقها في إسقاط النظام، وكيفية تمكّن جماعة الإخوان المسلمين من ركوب موجتها للوصول إلى السلطة وإخفاقها في إدارة الدولة، والعوامل التي مهدت الطريق أمام عودة قوى الثورة المضادة وتمكنها من إمساك زمام الأمور بين يديها.
لا يتّسع المقام هنا لتقديم إجابات تحليلية عن كل هذه التساؤلات المهمة التي أظن أنها ستظل موضع جدل حاد لفترة طويلة قادمة، لكني أود أن أنتهز هذه المناسبة لعرض بعض الخواطر المستمدة من خبرتي الشخصية في التعامل مع أحداث تلك الفترة التاريخية البالغة الأهمية، وخصوصاً أنني تابعتها من موقعين مختلفين سمحا لي بتشكيل رؤية أقرب ما تكون إلى شاهد عيان على بعض ما جرى.
الموقع الأول هو عملي باحثاً وكاتباً ومحللاً سياسياً تناول معظم هذه الأحداث بالتعليق والتحليل لحظة وقوعها، عبر مقالات مكتوبة وبرامج تلفزيونية وإذاعية مسجلة بالصوت والصورة، ما يسمح لكل من يرغب بالعودة إليها للتحقق من مصداقيتها.
والموقع الآخر هو عملي منسقاً عاماً لحركتين سياسيتين ساهمتا بدور ما في إنضاج البيئة المحلية الحاضنة لهذه الثورة، وأقصد هنا "الحملة ضد التوريث" التي انطلقت صيف 2009 و"الجمعية الوطنية للتغيير" التي تأسست في شباط/فبراير 2010.
وسوف أجمل هذه الخواطر في مجموعة من الملاحظات أعرضها على النحو الآتي:
الملاحظة الأولى: تتعلّق بالأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة يناير المصرية، وهي بالقطع كثيرة، سياسية واقتصادية واجتماعية، أدت بالتراكم إلى تهيئة البيئة الحاضنة لهذه الثورة، لكن السبب المباشر يعود، في تقديري، إلى مشروع توريث السلطة ومحاولة نقلها من حسني مبارك الأب إلى جمال مبارك الابن، وهو المشروع الذي تعهَّدته بالرعاية مجموعة صغيرة من قيادات الحزب الوطني الحاكم، بالتعاون بين مجموعة محدودة وفاسدة من رجال الأعمال، وبدعم كامل من وزارة الداخلية بقيادة حبيب العادلي.
ولأن الرئيس مبارك الذي ظل في الحكم ما يقارب 30 عاماً كان قد تقدم به العمر وأصابته صدمة نفسية شديدة عقب الفقدان المفاجئ لأحد أحفاده، فقد قرر أن ينسحب تدريجياً بهدوء، وأن يقضي معظم وقته في منتجع شرم الشيخ، تاركاً معظم الأمور المتعلقة بإدارة الدولة لابنه جمال وللمجموعة المحيطة به في القاهرة.
لم يكن موقف المؤسسة العسكرية المصرية من هذا المشروع واضحاً، رغم ما يشاع في بعض الأوساط عن عدم رضاها. لذا، خطر لي في ذلك الوقت، وقبل أكثر من عام على حدوث الانفجار الكبير، أن أكتب مقالاً بعنوان "هل ترضخ المؤسسة العسكرية لمخطط التوريث؟" (راجع صحيفة "المصري اليوم" بتاريخ 22/8/2009).
الملاحظة الثانية: تتعلَّق بالحركات السياسية التي أسهمت في إشعال فتيل الثورة؛ ففي نهاية 2004 وبداية 2005، أي قبل نحو 6 سنوات من اندلاع الثورة، انطلق حراك سياسي قوي دشنته حركة "كفاية" التي راحت، وللمرة الأولى في تاريخ الحياة السياسية في مصر منذ 1952، تدعو وتنظّم تظاهرات تطالب مبارك بالتنحي أو على الأقل بعدم الترشح لولاية جديدة.
وقد تبعتها عام 2008 حركة "6 أبريل" التي تشكلت عقب إضراب عمال المحلة، وراحت تركز على مطلب العدالة الاجتماعية وحقوق العمال. وفي عام 2009، تأسست "الحملة المصرية ضد التوريث" التي تميزت بانخراط معظم الأحزاب والحركات السياسية الأخرى فيها، بما في ذلك جماعة الإخوان (باستثناء حزبَي الوفد والتجمع).
تجدر الإشارة هنا إلى أن "الحملة ضد التوريث" هي التي أخذت زمام المبادرة في شباط/فبراير 2010 لتأسيس "الجمعية الوطنية للتغيير"، وضغطت على الدكتور محمد البرادعي بعد عودته إلى القاهرة ليقبل رئاستها.
وقد أدت جميع هذه الحركات السياسية، إضافةً إلى مجموعات عديدة من الشباب غير المنظّم الناشط في مواقع التواصل الاجتماعي، دوراً مهماً في تهيئة المسرح المجتمعي للانتفاض والثورة، وهو ما حدث بالفعل عقب اندلاع الثورة التونسية الملهمة في كانون الأول/ديسمبر 2010 ونجاحها في إجبار زين العابدين بن علي على الهرب إلى السعودية.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بموقف جماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة، وتيار الإسلام السياسي بصفة عامة. من المعروف أن الجماعة لم تشارك في إشعال الانتفاضة التي انطلقت صباح يوم 25 كانون الثاني/يناير، وبالتالي لم تلتحق بركب الثورة إلا يوم 28، حين تأكَّدت من ضخامة أعداد المتظاهرين وإصرارهم على مواصلة الانتفاض.
أما التيار السلفي، فقد عارضها صراحة ولم ينخرط عملياً في صفوفها إلا بعد أن تأكَّد من نجاحها.
ولا جدال في أنَّ انخراط التيار الإسلامي بروافده المختلفة منح الثورة زخماً هائلاً، وساهم في إجبار حسني مبارك على التنحي، لكنه كان أيضاً أول من خرج من الميدان ليشارك في حوار دعا إليه عمر سليمان عقب تعيينه نائباً للرئيس، ومن دون أي تنسيق مع القوى السياسية الأخرى، ما ساهم في تعميق الانقسامات داخل صفوف قوى الثورة.
وقد ظلَّ التنسيق بين جماعة الإخوان والمؤسسة العسكرية قائماً إلى أن أعلنت الجماعة عزمها على تقديم مرشح لها في انتخابات الرئاسة. هنا، بدأت الخلافات بينهما بالظهور، ثم راحت تتعمق بمرور الوقت، إلى أن وصلت إلى ما يشبه القطيعة، وخصوصاً عقب نجاح الدكتور مرسي، مرشح جماعة الإخوان، في انتخابات الرئاسة.
ولأن الجماعة كانت قد حصلت قبل ذلك على أكثرية المقاعد النيابية في السلطة التشريعية، فيما حصل التيار الإسلامي ككلّ على أغلبية زادت على 75% من إجمالي هذه المقاعد، فقد تصورت أن الوقت حان لدخول مشروع الدولة الإسلامية حيّز التطبيق، ما زاد الانقسامات القائمة بين مختلف القوى السياسية عمقاً.
وهكذا، أصبح الصراع محتدماً بين 3 كتل لكل منها رؤية مختلفة؛ الأولى تمثلها المؤسسة العسكرية، والثانية يمثلها التيار الإسلامي بقيادة جماعة الإخوان، والثالثة تمثلها مجموعات الشباب التي أدت أكبر دور في إشعال فتيل الثورة.
ولأنَّ كتلة شباب الثورة كانت الأقل تنظيماً والأكثر انقساماً في ما بينها، فقد بدت مواقفها متأرجحة في صراع على السلطة يدور أساساً بين المؤسسة العسكرية من ناحية، وتيار الإسلام السياسي من ناحية أخرى.
وفي تقديري أن الدكتور البرادعي، ومن موقعه كرئيس للجمعية الوطنية للتغيير، كان بإمكانه أن يصبح ممثلاً حقيقياً لهؤلاء الشباب، لولا الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها، والتي أكدت عدم قدرته على استيعاب خصائص المرحلة ومتطلباتها.
الملاحظة الرابعة: تتعلَّق بموقف المؤسسة العسكرية؛ ففي بداية الثورة، بدت هذه المؤسسة حريصة على اتخاذ موقف الحياد حين رفضت استخدام القوة في مواجهة المتظاهرين بعدما طلب منها مبارك النزول إلى الشارع للسيطرة على الأوضاع.
وليس من المستبعد أن تكون قد تعاطفت مع ثورة وجدت فيها فرصة للخلاص من مشروع التوريث، لكنها لم تتعاطف أبداً مع مطلب تغيير النظام نفسه. أذكر أنني كتبت مقالاً بعنوان "ضد التوريث وليس مع الثورة"، نشر في صحيفة "المصري اليوم" بتاريخ 19/12/2011، شرحت فيه رؤيتي للموقف الحقيقي للمؤسسة العسكرية.
ولأنها أصبحت في وضع أقوى بكثير من وضع كل القوى السياسية الأخرى المتصارعة، وخصوصاً بعد إقدام مبارك على تسليم السلطة لها عند تنحيه، فقد تمكَّنت من إدارة المرحلة الانتقالية بطريقة بدت خلالها كأنها تتعمَّد استدراج جماعة الإخوان نحو مصيدة السلطة تمهيداً للانقضاض عليها بعد ذلك، مستغلة أخطاء فادحة ارتكبتها الجماعة خلال الفترة الممتدة منذ اندلاع الثورة وحتى تاريخ 30 يونيو/حزيران 2013، الذي شهد تظاهرات عارمة ضدها، شاركت فيها كل مؤسسات الدولة العميقة، إضافة إلى قطاع لا يستهان به من شباب الثورة، ما جعل مهمة المؤسسة العسكرية في الانقضاض عليها والتخلص من حكمها أمراً ميسوراً.
الملاحظة الخامسة: تتعلَّق بالدروس المستفادة مما جرى. يبدو واضحاً أن قطاعات عريضة من الجماهير التي خرجت يوم 30 يونيو/حزيران 2013 كانت تعارض حكم الإخوان، لكنها لم تكن تستهدف أبداً عودة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية للهيمنة على أوجه الحياة السياسية في مصر والسيطرة على كل مفاصل السلطة في الدولة والمجتمع.
وربما كانت هذه الجماهير مستعدة لتقبل مرحلة انتقالية قصيرة، تجري خلالها عملية سياسية تساعد على تهيئة الأوضاع لتأسيس نظام حكم ديمقراطي حقيقي يعمل بجد وإخلاص لتلبية مطالب الثورة في الخبز والحرية والكرامة الإنسانية، وهو ما لم يحدث.
لذا، هناك حاجة ماسّة الآن إلى أن تقف القوى التي أسهمت في تفجير واحدة من أهم وأكبر الثورات الشعبية في تاريخ مصر الحديث مع نفسها وتراجع أدوارها ومواقفها السابقة، وتعترف بما ارتكبته من أخطاء خلال سنوات الثورة وما بعدها، تمهيداً للاتفاق على رؤية موحّدة لإدارة العمل السياسي المشترك في المستقبل، وذلك باستخدام الأساليب السلمية وحدها، ثم الدخول كقوى مدنية سياسية لديها رؤية موحدة في حوار مع المؤسسة العسكرية الحاكمة للوصول إلى برنامج عمل يتضمن:
1- الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين من دون استثناء.
2- خطة لمواجهة أزمة الديون ومعالجة الخلل الحادث في بنية الاقتصاد المصري.
3- صيغة لعلاقة جديدة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني تكفل عودة الأولى إلى ثكناتها، وتمكن الثانية من إدارة النظام السياسي بطريقة مسؤولة تحقق مصالح الجميع.
لا شك في أن مصر تمر الآن بمرحلة حرجة، ربما تكون الأخطر في تاريخها الحديث، وتحتاج فيها إلى كل الأيادي الأمينة والمخلصة.
* المفكر المصري عضو مجلس أمناء النهضة العربية (أرض)
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"