ها هو الكنيست الإسرائيلي يمنح ثقته للحكومة الجديدة التي نجح نتانياهو في تشكيلها بعد أزمة سياسية عميقة دامت ثلاث سنوات، جرت خلالها خمسة انتخابات مبكرة، في نيسان/إبريل 2019، وأيلول/سبتمبر 2019، وآذار/مارس 2020، وآذار/مارس 2021، وأخيرًا في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. غير أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ستكون مختلفة عن كل الحكومات السابقة، إذ يجمع كافة المراقبين على أنها ستكون أكثر الحكومات تطرفًا وعنصرية في تاريخ إسرائيل، سواء بحكم توجهها الفكري والأيديولوجي، أو بحكم المواقف السياسية والاجتماعية التي يتوقع أن تتخذها هذه الحكومة على الصعيدين الداخلي والخارجي خلال الفترة المقبلة.
فقد أسفرت الانتخابات الأخيرة عن فوز تحالف اليمين الذي يقوده نتانياهو بـ 64 مقعدًا من إجمالي مقاعد الكنيست البالغ عددها 120 مقعدًا، والذي يضم، إلى جانب حزب الليكود، أحزابًا دينية وقومية أشد تطرفًا، من أمثال حزب الصهيونية الدينية الذي يقوده بتسلئيل سموتريتش، وحزب العظمة اليهودية الذي يقوده إيتمار بن غفير، وحزب نوعم الفاشي بقيادة آفي ماعوز، بالإضافة إلى حزبين دينيين آخرين هما يهودت هتوراة وشاس. ومن المعروف أن بن غفير، والذي أصبح وزيرًا للأمن الوطني بصلاحيات موسعة، كان قد بدأ مسيرته السياسية كعضو ناشط في حركة كاخ المحظورة التي أسسها الحاخام الإرهابي مائير كاهانا، وسبق أن وجهت إليه اتهامات عدة، بسبب مواقفه العنصرية، ودعمه لمنظمات إرهابية ومشاركته في أعمال شغب وعنف ليس فقط ضد الفلسطينيين وإنما ضد اليهود العلمانيين أيضًا، وأن بتسلئيل سموتريتش، والذي أصبح وزيرًا للمالية ووزيرًا في وزارة الأمن في الوقت نفسه، كان أحد قادة حركة التمرد التي عارضت إخلاء مستوطنات قطاع غزة وسبق أن وجهت إليه اتهامات عدة استوجبت اعتقاله لعدة أسابيع، وأن آرييه درعي، رئيس حزب شاس الذي أصبح وزيرًا للصحة ووزيرًا للداخلية في الوقت نفسه، كانت قد وجهت له اتهامات بالتهرب الضريبي. ومعنى ذلك أن الأحزاب الصهيونية الدينية، والتي كانت منبوذة، حتى وقت قريب، وتحتل موقعًا هامشيًّا في حياة إسرائيل السياسية، أصبحت تحتل اليوم موقعًا محوريًّا في مراكز صنع القرار في إسرائيل، لأنها اليوم تعد القوة الثالثة في الكنيست والقوة الثانية في الحكومة.
لقد استحال على نتانياهو تشكيل حكومة برئاسته في غياب اليمين العنصري المتطرف في إسرائيل، ومن ثم فقد حرص على إرضائه، بسن حزمة من التشريعات قبل أداء الحكومة لليمين الدستورية، استهدفت تذليل بعض العقبات القانونية التي كانت تعترض هذا التشكيل، حيث قام الكنيست بإصدار قانون يقضي بالسماح لمن سبق اعتقاله بتولي حقائب وزارية، طالما لم تفرض عليه عقوبة السجن، ليتمكن درعي من تولي منصب وزاري، وقانون آخر يقضي بتوسيع صلاحيات وزير الأمن القومي وتمكينه من ممارسة سلطات القائد العام للشرطة، لإرضاء بن غفير الذي أصر على أن تكون له اليد الطولي في كل ما يتعلق بأمن الضفة الغربية وأمن المستوطنات.
تشكيل حكومة بسمات متطرفة إلى هذا الحد يعني أن إسرائيل قررت طيّ صفحة من تاريخها، حرص المشروع الصهيوني خلالها على ارتداء عباءة علمانية تسمح له بتبني خطاب سياسي براجماتي يمكن أن تتجاوب معه شرائح اجتماعية واسعة في الداخل وقوى خارجية مؤثرة على الصعيد الدولي، وبدأ صفحة جديدة تعبر بوضوح أكثر عن الوجه الحقيقي لمشروع توراتي عنصري في جوهره. فإسرائيل تعتقد أنها وصلت الآن إلى درجة من القوة تسمح لها بكشف أوراق هذا المشروع الذي استهدف ليس فقط إقامة دولة يهودية على ما تعتبره أرضًا "توراتية"، ولكن أيضًا تحويل هذه الدولة إلى قوة مهيمنة على منطقة الشرق الأوسط بأسرها. ويكفي أن نستعرض برنامج الحكومة الإسرائيلية الحالية، كما جاء في بيانها الرسمي، كي نتوصل إلى هذه النتيجة بوضوح تام. فهذا البرنامج يتحدث بشكل مباشر عن حق إسرائيل الذي لا ينازع في الاستيطان في كل شبر من أرض إسرائيل الكبرى، بما في ذلك "الجليل، والنقب، والجولان، ويهودا والسامرة"، بل وعن حقها أيضًا في شن حرب بلا هوادة على إيران وعلى كل منظمات وحركات المقاومة الفلسطينية، والتي تعتبرها إسرائيل منظمات وحركات "إرهابية"، ويعبر عن ثقته التامة بقدرة الحكومة على توسيع وتعميق "اتفاقيات أبراهام" لتشمل دولًا عربية أخرى، خاصة السعودية. ومن الواضح أن هذه الحكومة اتفقت على توزيع الأدوار فيما بين مكوناتها المختلفة بحيث يتولى ناتانياهو شخصيًّا إدارة كافة الملفات المتعلقة بالحرب والسلام وبالعلاقة مع الخارج، على أن تتولى الأحزاب الدينية والفاشية إدارة ملف المستوطنات والعلاقة مع الفلسطينيين. لذا يتوقع أن يواجه الفلسطينيون داخل الأرض المحتلة، قبل وبعد 67، تحديات ضخمة، تشمل الاستيلاء على المزيد من الأراضي لتحويلها إلى مستوطنات، كما تشمل الطرد، والنفي، والتشريد والقتل، لكل من يقف في وجه السياسات الإسرائيلية التي تستهدف التهويد الكامل لكل المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل حاليًّا وتكرار محاولات اقتحام المسجد الأقصى بوثيرة متسارعة، بينما سيلجأ نتانياهو إلى استخدام خطاب دبلوماسي ناعم يستهدف إقناع الدول العربية بضرورة التحالف مع إسرائيل لمواجهة الخطر المشترك الذي تمثله إيران، وإلى استخدام خطاب آخر متشدد لإقناع الإدارة الأمريكية بأن الاستخدام الفعلي للقوة الخشنة هو السبيل الوحيد لمواجهة مشروع إيران النووي وأطماعها المزعزعة للاستقرار في المنطقة.
هذه التحولات العميقة التي يتوقع أن تشهدها إسرائيل في المرحلة القادمة، تطرح على الفلسطينيين والعرب تحديات كبرى، لكنها تتيح أمامهم في الوقت نفسه فرصًا جديدة يمكن، إن أحسنوا استغلالها، أن تساعدهم على إدارة صراعهم الممتد مع المشروع الصهيوني بشكل أكثر عقلانية وأشد فاعلية. فالمخاوف العميقة التي يثيرها صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف، بجناحيه الديني والقومي، لا تقتصر على الفلسطينيين والعرب وحدهم وإنما تمتد لتشمل قطاعات واسعة من اليهود داخل وخارج إسرائيل، كما تشمل أيضًا قوى دولية كبرى يهمها استقرار هذه المنطقة من العالم. فعلى صعيد الداخل الإسرائيلي، يتوقع أن يضغط اليمين المتطرف من أجل تغيير قوانين الأحوال المدنية والخدمة العسكرية وطريقة عمل المؤسسات التعليمية والإعلامية، وذلك لتمكين رجال الدين من إحكام قبضتهم على المجتمع الإسرائيلي، ما يعني تغيير البنية المؤسسية للدولة الإسرائيلية لتصبح أكثر اتساقًا مع الرؤى التوراتية، وهو ما من شأنه تعميق الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي وزيادة حدة الصراعات الفكرية والسياسية بين الشرائح والمكونات الاجتماعية المختلفة. أما على الصعيد الخارجي، فيتوقع أن يؤدي صعود التيار الديني والعنصري المتطرف إلى تعميق عزلة إسرائيل عن المجتمع الدولي، وإلى إقناع القوى الدولية التي كانت متعاطفة معها باستحالة التطبيق الفعلي لحل الدولتين، وهو الحل الذي ما تزال تتبناه رسميًّا معظم هذه القوى، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، ما سوف يدفعها في النهاية إلى الاختيار بين بديلين لا ثالث لهما:
الأول: تخليها رسميًّا ونهائيًّا عن حل الدولتين، والذي أصبح مستحيلًا بفعل التوسع المستمر في بناء المستوطنات الإسرائيلية وإصرار الحكومة الجديدة على تصعيد وتيرته مع الرفض التام لحل الدولتين في الوقت نفسه، لصالح "الدولة الديمقراطية الواحدة ثنائية القومية". ويتوقع، في حال حدوث ذلك، أن يتخلى المجتمع الدولي تدريجيًّا عن تأييده المطلق وغير المشروط لإسرائيل، وزيادة تعاطفه مع المطالب الفلسطينية الرامية إلى إقرار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
الثاني: الاستمرار في تأييد حل الدولتين، ولكن على مستوى الشكل والخطاب السياسي فقط، مع ترك إسرائيل تواصل تدمير هذا الحل فعليًّا على أرض الواقع، وهو ما من شأنه تعريض المنطقة كلها لحالة من عدم الاستقرار قد تلحق ضررًا كبيرًا بالمصالح الغربية في المنطقة، ولأن القوى الدولية المناوئة للغرب ستحاول استغلال هذا الوضع لزيادة نفوذها في المنطقة، فربما تقتنع الدول الغربية بممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل لإجبارها على الاختيار بين حل الدولتين، وفقًا لما تنص عليه المبادرة العربية وحل الدولة الواحدة ثنائية القومية.
في سياق ما تقدم، ليس من المبالغة القول بأن فصلًا جديدًا من فصول الصراع العربي الإسرائيلي الممتد على وشك أن يبدأ، وأن مساره بات متوقفًا منذ الآن فصاعدًا على قدرة الفصائل الفلسطينية على التوحد وإنهاء الانقسام وتشكيل حركة تحرر وطني تتبنى استراتيجية نضالية جديدة لإدارة الصراع مع المشروع الصهيوني. فهذه الوحدة هي وحدها القادرة على: 1- استغلال الانقسامات الحادة التي يتوقع أن تشهدها الساحة الإسرائيلية في هذه المرحلة. 2- استغلال عزلة إسرائيل المتزايدة داخل المجتمع الدولي والتعاطف المتزايد للمؤسسات الدولية مع القضية الفلسطينية ومع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره 3- إحباط خطط الحكومة الإسرائيلية الرامية إلى توسيع نطاق "اتفاقيات أبراهام" لتشمل المملكة العربية السعودية التي يتوقع أن تتعرض لضغوط متزايدة من أجل الانضمام إلى هذه القافلة. 4- سد الذرائع أمام الحكومات العربية وإتاحة الفرصة أمام الشعوب العربية لممارسة ضغوط حقيقية على الحكومات التي تربطها بإسرائيل اتفاقيات تطبيع، من أجل إلغاء هذه الاتفاقيات أو تجميدها إلى أن يتم اعتراف إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
تطبيع العلاقات مع حكومة إسرائيلية تتبنى رؤية توراتية عنصرية فاشية ينطوي ليس فقط على خيانة للشعب الفلسطيني وإنما يشكل تنكرًا لكل القيم الإنسانية النبيلة.
* عضو مجلس أمناء النهضة العربية (أرض)
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"