بعد نجاحها في تنظيم «أسبوع العودة والتحرير» في عدد من مناطق الشتات وتسيير تظاهرات حاشدة في شوارع بروكسل وغيرها، شارك فيها آلاف، ورفعوا صور شهداء المقاومة ورموز الحركة الأسيرة، وهتفوا لـ«كتيبة جنين» و«عرين الأسود» بمشاركة أكثر من 100 حزب وحركة،وبعد فشل سفراء الكيان الصهيوني في إلغاء هذه المسيرات عبر القمع والترهيب والتشويه، يمكن القول إن حركة «المسار الثوري البديل» قامت بخطوة مهمّة لجهة تعزيز دور الشتات وموقع الحاضنة الشعبيّة الأمميّة لفلسطين والمقاومة. وفعلت ذلك في حراك ثوري مُنظّم بقيادة جيل جديد تجاوز مفهوم «التضامن» إلى المشاركة الفعلية، وإعلان موقف واضح ضد ما يسمّى «حل الدولتين» التصفوي، وأعاد الاعتبار إلى شعار وهدف: تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
تُدرك حركة المسار الثوري البديل أن مواجهة الكيان الصهيوني وأنصاره في العالم، على نحو مؤثر وفاعل، مسألة غير ممكنة من دون استعادة الشعب الفلسطيني في الشتات لموقعه ودوره المُصادَر وتحرير صوته، ومن دون مشاركته الحقيقية في بناء المؤسسات والمنظمات التي تستجيب لمتطلبات معركة التحرر الوطني والاجتماعي. فالارتباط الوثيق بين دور الشتات ومهمة تثوير الحاضنة الأمميّة واضح لا يحتاج إلى شرح. فما جرى من تهميش لدور الفلسطينيين في المنافي، بعد مؤتمر مدريد 1991 واتفاق أوسلو الخياني 1993، كان يهدف إلى تصفية الحقوق الفلسطينية وسلخ «الشتات» عن نصفه الثاني في فلسطين المحتلة ومحيطه العربي والأممي، وتبديد كل عناصر قوته.
ومع دخول قيادة منظّمة التحرير نفق مدريد - أوسلو الكارثيّ، وتبديد تضحيات الفلسطينيين وإحكام سيطرة طبقة أوسلو على القرار السياسي الفلسطيني، جرى حشر العلاقة بين «فلسطين» ومحيطها العربي والدولي مع الحكومات والأنظمة، وليس مع الشعوب. صارت فلسطين الرسمية تعني السلطة الفلسطينية. واعترفت 80 دولة بكيان العدو بعد اعتراف «القيادة الفلسطينية بإسرائيل»، وفي هذا الفضاء المسموم، برزت عناوين ولافتات تحت مسمّى «المنظمات غير الحكومية» فأزاحت الحركة الوطنية وجرفت القوى اليسارية وأضعفت قدرة المجتمع الفلسطيني على الرفض والمقاومة. تحوّلت بعض الفصائل والأحزاب إلى مؤسسات للشحاذة والاسترزاق والتبعية. وصار «العمل الوطني» يعني وظيفة في نقابة أو مؤسَّسة حقوقية!
إنّ توسيع الحاضنة الشعبية الأممية للمقاومة العربية وتصليبها يشترطان موقفاً واضحاً حول سلطة الحكم الذاتي العميلة وضرورة إسقاطها، واعتماد رؤية ثورية واضحة تُحدد معسكر العدو ومعسكر الصديق دونما لعثمة أو ارتباك، والعمل على مراكمة انتصارات «صغيرة» تصبّ في مصلحة الشعب الفلسطيني وحركات التغيير الثوري في إطار النضال المشترك. فمن الصعب أن تؤدي المقاومة العربية دوراً مؤثراً على الصعيد العالمي من دون ارتباطها الوثيق مع حركات التحرر والقوى المناهضة للإمبريالية والصهيونية والفاشية ونظام الرأسمال النهبويّ.
الحاضنة الشعبية الأممية التي يريدها شعب فلسطين تتجاوز معنى «التضامن» و«دور المجتمع الدولي» و«المؤسسات الحقوقية»، فالذاكرة الشعبية الفلسطينية زاخرة بصور ثورية مغايرة، وتعرف الجماهير الفلسطينية أن العالم أوسع من أميركا وأوروبا. ويستطيع «الشتات» وهو ينهض بقيادة طلائع الجيل الجديد أن يقوم بتطوير الحاضنة الشعبية الأممية في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. وأن يلحظ، في الوقت نفسه، أهمية البُعد الشعبي الأممي داخل كيانات الاستعمار الاستيطاني الكبرى، ارتباطاً بالمركز الإمبريالي ودوره في صناعة المأساة الفلسطينية وجريمة تأسيس الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي. ومن المفيد في هذا المجال أن يُقلع بعض الفلسطينيين والعرب عن مقولة «فلسطين آخر احتلال في التاريخ» لأن نصف الكرة الأرضية محتلة ومستعمرة.
وعليه، فإن العلاقة الوطيدة مع قوى حليفة للمقاومة العربية، تناضل داخل الولايات المتحدة ونيوزيلندا وكندا وأوستراليا وغيرها، مسألة تكتسب أهمية مضاعفة في مواجهة الاستعمار الاستيطاني. وهنا يكمن الدور القيادي المركزي والحاسم للشباب الثوري الفلسطيني اليقظ، وأهمية تجديد الفكر السياسي للأحزاب والفصائل، وإطلاق مبادرات شعبية جديدة في كل مكان، إن أردنا اللحاق بركب العصر.
ومن الأهمية بمكان قراءة التجربة الفلسطينية في سنوات الثورة بين (1967- 1973) وكيف كانت قوى فلسطينية في زمن مضى تقدّم الدعم الشامل إلى حركات تحرّر عربية وأفريقية وإيرانية وتركية وكردية ضد أنظمة وسلاطين التخلّف والمَلَكية وفي مواجهة شاه إيران. قدَّم الشعب الفلسطيني لها التدريب والسلاح والمال والدعم السياسي. وأسس تحالفات مع قوى يسارية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وفي قلب أوروبا والولايات المتحدة، وساهم في نقل نضالات السود والسكان الأصليين إلى العالم. إنّ عبارات من نوع «يجب وقف التدخل الفلسطيني في شؤوننا الداخلية» كانت تهمة رائجة يُطلقها المعسكر الإمبريالي الصهيوني الرجعي، تماماً كما يفعل اليوم المعسكر ذاته مع حزب الله.
المُنظّمات والجمعيات النسائية والشبابية والطالبية التي تشكل النواة الصلبة في حركة «المسار الثوري البديل»، كـ«شبكة صامدون» و«رابطة فلسطين ستنتصر» و«حركة نساء فلسطين الكرامة» و«منظمة الإنقاذ الأحمر» و«الرابطة الأممية لنضال الشعوب» وقوى المقاطعة الجذرية، وغيرها، تعتمد على قدرتها الذاتية وترتبط نضالياً مع فلسطين المحتلة من خلال الحركة الأسيرة في سجون العدو الصهيوني والمقاومة في قطاع غزة، لذلك جرى استهداف هذه المنظمات ووضعها على «قوائم الإرهاب» ومحاولة «حلها» كما فعل الأرعن ماكرون مع «رابطة فلسطين ستنتصر» في فرنسا. كان الهدف إضعافها وتعطيل دورها ومنعها من تأسيس تيار وازن يُشكل ظهيراً شعبياً ودولياً للمقاومة في فلسطين.
وتجدر الملاحظة هنا إلى أهمية الدور الذي تؤديه حركة المقاطعة الدولية للاستعمار الصهيوني ومؤسساته وداعميه، ومع ذلك يجب تقييم هذه التجربة التي انطلقت منذ عام 2005 وضرورة تطوير وتثوير خطاب حركة المقاطعة. هذه مهمة وطنية وقومية وأممية في آن واحد، تتجاوز لجنة نخبوية هنا أو مكتباً هناك في رام الله. آن الآوان لأن ترتبط أهداف حركة المقاطعة بحق العودة ونضال اللاجئين الفلسطينيين والأسرى والمقاومة في فلسطين والمنطقة. فالمقاطعة تشكّل رُكناً واحداً في حاضنة شعبية أممية كبيرة ومتعددة وموجودة على اتساع الكون، كما لا يمكن أن تكون المقاطعة، في حد ذاتها، مشروعاً بديلاً من حركة التغيير الثوري ومشروع العودة والتحرير.
تُقدّم حركة المسار الثوري البديل في ذكرى انطلاقتها الأولى نموذجاً واقعياً وثورياً عن دور فلسطينيّي الشتات، إذ تنقل معنى «التضامن الدولي/ الشكلي» من حيّز الشعار العام الفضفاض إلى مستويات متقدّمة من المشاركة الفعلية والوضوح. وهذا التوجّه بات يقلق دوائر العدو الصهيوني وحُلفائه وعملائه. تستنفر هولندا وتتحفز سفيرة الكيان الصهيوني في بروكسل وتتحدّث المنظمات الصهيونية في كندا وفرنسا وألمانيا عن «الذين يريدون إعادتنا إلى المربع الأول»، وهذه العبارة تشير إلى الجهة نفسها التي أشار إليها الأديب غسّان كنفاني: الشباب الثوري الفلسطيني من اللاجئين والذين لن يتعلموا الهدوء.
وبقدر ما تحتاج المقاومة المسلّحة في فلسطين ولبنان إلى حاضنة أممية شعبية، تحتاج هذه الأخيرة، من المقاومة، إلى المزيد من الوضوح في رؤيتها للعلاقة الاستراتيجية مع حركات التحرر. يمكن أن تشكل المقاومة العربية في منطقتنا سَنداً قوياً لنضال الشعوب في قلب المركز الإمبريالي من خلال تعزيز تطوير العلاقات النضالية مع حركة تحرر السود في الولايات المتحدة والشعوب الأصلانية والحركات الشعبية والنقابية الجذرية التي تدافع عن حقوق الفقراء واللاجئين والمهاجرين وتقاتل من قلب المركز وفي «الأطراف». هذه قوى لها مصلحة في عملية التغيير والتحرير في بلدانها أيضاً، والعلاقة معها لا يحققها مؤتمر عابر، ولا طق الحنك على الفايسبوك والفضائيات.
حسناً فعلت القوى الوطنية والإسلامية في قطاع غزة، إذ نظّمت مهرجاناً جماهيرياً حاشداً بالتزامن مع «مسيرات العودة والتحرير» في الشتات. فهذا الموقف يُعزز وحدة الشعب الفلسطيني ويوحد شعاراته ورسائله إلى العالم، ولنتذكر كيف قدّم شعبنا في القطاع المحاصر التضحيات الجسام على مدار 18 شهراً من الانتفاضة الباسلة التي حملت اسم «مسيرات العودة وكسر الحصار». قاتل الشعب على السلك الزائل بالمقاليع واللحم الحي. هذا الدرس التاريخي الطازج والمُعمّد بالدم يجب أن نتعلّمه ونتأمّله، وخاصة نحن الذين نقيم في الشتات ونشارك في تظاهرات لا ندفع فيها قطرة دم واحدة.
ومهما تعاظم العامل الدولي المُساند لشعبنا، سيظل ثانوياً على أهميته القصوى. ويبقى العامل الذاتي الفلسطيني هو العنصر الحاسم المُقرّر في عملية التغيير والتحرير، وفي مواجهة طبقة فلسطينية عميلة، ونظام عربي موزع بين عاجز ومتواطئ، وفي عالم يُعاد إنتاج نظامه الدولي بالدم والحرب والجوع. وعليه، فإن الشروع الفوري في تأسيس الجبهة الوطنية الفلسطينية الموحدة التي يمكنها أن تكون الجسر الموثوق مع الشعب الفلسطيني وقوى التغيير الثوري على الصعيدين العربي والعالمي، مهمّة نضالية عاجلة لا تحتمل التأجيل والتسويف والانتظار.
* كاتب فلسطيني
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"