البحث عن بيت الحكيم – اللد والحضور الفاعل بعد الغياب

مشاركة
* عبد الحميد صيام 09:16 ص، 30 يوليو 2022

أود أن أعترف أولا بأنني أجهل الجزء الجنوبي من فلسطين من اللد إلى النقب وما بينهما، رغم شغفي بفلسطين التاريخية كلها. فقد زرت كل مناطق الوسط والشمال انطلاقا من يافا إلى رأس الناقورة، وصولا إلى الناصرة وطبريا وبيسان. لم أبذل جهدا كافيا لاستكشاف هذه الجنة التي لا مثيل لها جمالا وثروة، التي جمعت بين البحر والسهل والمساحات الخضراء، التي لا تكشف عن عمق ارتباط الفلاح الفلسطيني بأرضه فحسب، بل تفضح محاولات تزوير البنية الإيكولوجية الطبيعية، باستقدام نباتات وأشجار غريبة هجينة كوجوه من جلبوها لتشويه طبيعة البلاد، معظمها من منطقة الكاريبي وأمريكا اللاتينية لتزاحم أشجار الجميز والرمان والصبر والتين والزيتون ودوالي العنب، كما شرح لنا الصديق الدكتور ثابت أبو راس، ابن قلنسوة، مستخدما مصلطلح “الاستيطان الإيكولوجي” لتغريب هوية البلاد وتشويهها. وسأتوقف في ثلاث محطات رغم قناعتي بأني لن أوفيها حقها من الوصف.

في اللد- عاصمة جند فلسطين

في نيتي دائما زيارة اللد بالتحديد التي ارتبط اسمها في ذهني بمجزرة مسجد دهمش يوم 11 يوليو 1948، حيث تم إعدام أكثر من 400 فلسطيني 160 منهم احتموا بالمسجد، وبأنها مسقط رأس حكيم الثورة جورج حبش، الشخصية الفذة والنادرة والنقية في تاريخ النضال الفلسطيني. استقبلنا في اللد الدكتور أبو راس أنا والدكتور أسعد غانم ابن بلدة شَعَب في الشمال، ثم انضم إلينا لاحقا الدكتور رياض إغبارية من أم الفحم. وبناء على إلحاح مني بدأنا نبحث عن بيت الحكيم، وسألنا العديد من المارة وأصحاب الحوانيت. كل الإجابات كانت سلبية فلا أحد يعرف بالضبط أين ولد الحكيم، وكنت أعتقد أن بيته ما زال قائما، إلا أن اثنين من رجال المدينة من كبار السن، أكدا أن بيته أزيل عن الوجود منذ زمن بعيد. “هذا هو الشارع الذي كان فيه البيت واسمه شارع الجيش. ولا نعتقد أن تسمية الشارع بهذا الاسم الاستفزازي جاء صدفة. لكن الحقيقة أن البيت أزيل عن الوجود منذ زمن بعيد”، كما قال رجل ستيني.

كي تعرف أن هذه الأرض فلسطينية ابحث عن أشجار الصبر (التين الشوكي) التي كان يستخدمها الفلاح لترسيم حدود أرضه

 

وقفنا على آثار مدينة اللد، أول عاصمة لجند فلسطين، إلى أن تم إنشاء مدينة الرملة القريبة منها، حيث انتقلت عاصمة الأمويين في إقليم فلسطين إليها. تجولنا في المدينة القديمة التي ما زالت تحتوي على آثار تاريخية وأسواق قديمة ومرابط خيل ومساجد خمسة، أنشئت قبل كيان “العابرين في كلام عابر” بمئات السنين. “هذا المسجد الكبير الملاصق للكنيسة أنشأه الظاهر بيبرس، وليس صدفة أن تتلاصق الجدران بين الكنيسة والمسجد تعبيرا عميقا عن وحدة الشعب هنا تاريخيا. أما مسجد دهمش فقد بقي على حاله منذ المذبحة المروعة، التي نفذها الجنرال إيغال ألون بأمر من “شريك السلام” إسحق رابين. استولت عليه السلطات لسنوات طويلة لكن الأهالي ولجنة المسجد، وبعد معارك قانونية طويلة استردوا ملكيته لأوقاف المدينة. وهناك معركة قائمة لتوسيع المسجد بعد أن باعت السلطات منطقة قريبة منه، إلا أن الأهالي أوقفوا عملية البيع. ولا بد من مشاركة القراء ما كتبه الأهالي على بوابات المسجد حفرا بارزا على الصخر. على الجانب الأيمن كتب ما يلي: “لقد أنشئ هذا المسجد بتاريخ 1342هـ/1923م على يد خليل دَهْمَش”. وكتب في الوسط: “أغلق المسجد على إثر المجزرة البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال عام 1948م/1386هـ ثم أعيد فتحه جزئيا عام 1996/1417”. وفي الجانب الأيسر كتبت جملة متابعة: “ثم حرر المسجد بجميع مرافقه من تاريخ 2000/1421 إلى تاريخ 2006/ 1427 على يد المجاهدين من أبناء هذا البلد وأهل الخير والحمد لله”. انظروا استخدام كلمات مثل المجزرة وقوات الاحتلال وحرر والمجاهدين” لتأخذ فكرة عن اللد وشجاعة أهلها.

طرد سكان اللد بالكامل عام 1948 وبدأت العودة إليها من القرى المدمرة تدريجيا إلى أن بدأت تشهد وجودا فلسطينيا جادا بعد السبعينيات. قام الكيان الصهيوني بترحيل أعداد من بدو النقب إلى اللد تنفيذا لمخطط تفريغ النقب وتشتيت سكانه. واليوم يصل سكان المدينة نحو 77 ألفا، من بينهم نحو 30 ألفا من الفلسطينيين، الذين لا يعرفون معنى الخوف، بل العكس هو الصحيح. فقد طالب سكانها اليهود في انتفاضة مايو 2021 الحماية من الدولة، والآن تجد خروج السكان اليهود متواصلا فكلما سكن عربي في بناية بدأ سكانها اليهود بالرحيل. انتفض عرب المدينة بشكل واسع في معركة “سيف القدس” وكانت مفاجأة للسلطات، إلا أن من يتجول في وسط المدينة لا يساوره شك في أنها مدينة فلسطينية، استرجعت هويتها المسلوبة كما استرجعت مسجد دهمش. الجمعيات العربية الإسلامية منتشرة في أنحاء المدينة كافة، مثل جمعية “فينا الخير” والروضة تسمى البراعم الإسلامية، والمدرسة الثانوية تسمى الهاشمية، وكنيسة الخضر (مار جريس) الملاصقة للجامع الكبير عامرة بالمصلين. كما تنتشر المطاعم والأفران والمحلات التجارية بأسماء عربية، تعيد المدينة لسابق نضارتها وروحها العربية.

 

بلدة هِرِبْيا حيث هزم آخر الصليبيين

 

في الطريق إلى هربيا مررنا على العديد من القرى التي محيت عن الوجود والتي تزيد عن 40 قرية. توقفنا في بلدة الفالوجة المشهورة، حيث حوصرت القوات المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، وهناك على الشارع وقرب شجرة الجميز الضخمة التي كانت مقرا لقيادة الجيش المصري، وضع نصب تذكاري للجندي المصري المجهول ـ توقفت الحرب هنا على بعد 8 كم من بيت لاهيا في قطاع غزة. لكن أوامر الانسحاب من هنا بعد توقيع اتفاقيات الهدنة، هي التي نقلت السيطرة على هذه المناطق الغنية إلى أيدي الصهاينة. بلدة هربيا مشهورة، لأن الصليبيين هزموا فيها عام 1244 وفروا من البلاد بعدها، ويطلق على المعركة اسم “حطين الثانية”. إنها قطعة من الجنة؛ بيارات وسهول وتلال خفيفة وبحر. كلها مستغلة من الفلسطينيين قبل النكبة. وكي تعرف أن هذه الأرض فلسطينية ابحث عن أشجار الصبر (التين الشوكي) التي كان يستخدمها الفلاح لترسيم حدود أرضه. “الفلاح الفلسطيني لم يكن يهتم بالشجر غير المثمرـ لذلك تجده يستغل أرضه الزراعية بكل ما طاب وحلا من الأشجار المثمرة”، كما يؤكد الدكتور أبو راس. مدرسة البلدة التي افتتحت عام 1922 ووصل عدد طلابها إلى 145 قبل النكبة هي الوحيدة القائمة. طرد سكان البلدة جميعهم، وأقيمت على أرضها مستوطنتان: زيكيم وكرميا، لكن أهلها لم يختفوا عن وجه الأرض. فعندما نشرتُ صورا لقصر حافظ العلمي المطل على البحر، الذي استولى عليه الصهاينة وصلني العديد من التعليقات من ورثة العلمي، الذين حافظواعلى الخيط الرفيع الذي يربط الأحفاد بأرض الأجداد. وأكثر ما أثار الشجن كروم الدوالي المزروعة قرب البحر على الكثبان الرملية وظلت تطرح حمولتها من العنب اللذيذ، رغم رحيل أهلها لأنها تعيش على مياه المواصي، أي نقطة تلاقي الماء المالح من البحر مع الماء العذب من الوديان.

الكاتب بجوار قصر العلمي  في بلدة هربيا والذي حولته إسرائيل إلى منتجع سياحي

 

رهط مدينة شبه محررة

معركة سكان النقب مع الكيان ما زالت قائمة منذ عام 1948. النقب يشكل 48% من فلسطين و60% من الكيان. كان يسكن في النقب نحو 100 ألف لم يبق منهم بعد التطهير العرقي والترحيل الداخلي إلا نحو 11 ألفا. مضيفنا الدكتور عامر هزيّل من رهط تحدث عن كيف تحولت رهط من ضيعة صغيرة كانت محطة للقوافل إلى مدينة يزيد سكانها عن 70 ألفا، كلهم من العرب جمعتهم السلطات من بادية النقب وقسمتهم إلى أحياء كل حي مخصص لقبيلة. البدو لا يخضعون لأحد ولا يخشون إلا الله ولهذا تهابهم السلطات وتبتعد عنهم قدر الإمكان، وعملت على تجميعهم في تجمعات سكانية. في مدينة رهط لا تكاد تعثر على الإعلانات بالعبرية كل شيء فيها يشير إلى عروبة المدينة، خاصة أسماء الشوارع. الروح الوطنية منشرة بين الناس والحركة الإسلامية الجنوبية هي الأكثر انتشارا في المدينة، حيث تقدم لهم الخدمات المجانية.

يقول الدكتور هزيل إن سكان رهط سيبلغ عام 2040 نحو 140 ألف نسمة. البدو الذين كانوا 11 ألفا عام 1948 أصبحوا الأن أكثر من 300 ألف وفي عام 2040 سنصل إلى 750 ألفا وعام 2050 سنقترب من المليون، حسب الإحصائيات الإسرائيلية. إنها معركة الديموغرافية. هذا ما يثير القلق لدى الكيان الكولونيالي الاستيطاني، حيث عادت الدعوة مرة أخرى إلى التطهير العرقي، كحل نهائي قبل فوات الأوان وإلا فستتحول البلاد إلى دولة عربية بطريقة سلمية ويصبح اليهود أقلية وبالتالي ينهزم المشروع الصهيوني مرة وإلى الأبد.

* كاتب فلسطيني

المصدر: القدس العربي

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"