من بين النُخب القليلة من المفكرين اللبنانيين والعرب، التي قرعت أجراس التحذير المُبكر من المشروع الإسرائيلي في فلسطين ومحيطها العربي، كان للنخبة المسيحية اللبنانية منذ أواخر القرن التاسع عشر، دورا رياديا في تفنيد مخاطر الهجرات اليهودية من الدول الأوروبية، وهذه المقالة تستعيد خلاصات مختارة من التحليلات المحذرة من أبعاد بناء "وطن قومي لليهود" في فلسطين، ابتداء مما رآه سليم وبشارة تقلا وانتهاء بما قاله ميشال شيحا وبولس سلامة.
في التاسع والعشرين من كانون الثاني/يناير 1900، كتب الشقيقان اللبنانيان سليم وبشارة تقلا في صحيفة “الأهرام ”عن مخاطر “حركة المهاجرة” محذرين قائلين “الصهيونيون يبحثون عن وطن لهم، سواء مالوا إلى فلسطين أو إلى ما بين النهرين، فإن أنظارهم متجهة إلى شطر من البلاد العثمانية، وهذا ما أردنا إلفات النظر إليه، وعلى أولياء الأمر أن يتعظوا ويتنبهوا لهذه الحركة”. قبل هذا التحذير الواضح، يصعب العثور على شبيه يستشرف مرحلة ما بعد مؤتمر “بازل” في آب/اغسطس 1897، الذي رعاه تيودور هرتزل، وتعترف مجلة “المقتطف” المصرية ـ اللبنانية (نيسان/ابريل 1898) التي كان يصدرها اللبنانيان يعقوب صروف وفارس نمر بأن المؤتمر المذكور لم يلق العناية في تفصيله وشرحه من قبل المطبوعات العربية الصادرة في ذلك الحين، إذ “لا يظهر لنا مما نطالعه في الجرائد العربية، أنها اعتنت بهذا الأمر اعتناء خاصا، وإنما ذكره بعضها، مع سائر الأخبار التي يذكرها”. في عام 1905، سيصدر نجيب عازوري (1873 ـ 1916) إبن بلدة عازور قضاء جزين، كتاب “يقظة الأمة العربية” أحد أوائل الكتب، بل أولها، الذي يتحدث بدقة وإحكام وبصيرة عن تفاصيل المشروع الاستيطاني في فلسطين، وفي هذا الكتاب يقول: “إن ظاهرتين هامتين متشابهتي الطبيعة إنما متعارضتان، تتضحان في هذه الآونة في تركيا الأسيوية، يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة اسرائيل، ومصير هاتين الحركتين أن تتعاركا بإستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى”. ويتوسع نجيب عاوزري بالشرح والتعليق فيكتب “فلسطين كما يريد اليهود المعاصرون إعادة بنائها، حدودها جبل حرمون الذي يحوي منبع نهر الأردن ووادي الليطاني، بالإضافة إلى راشيا وصيدا كطليعة حراسة في الشمال، وقناة السويس وشبه جزيرة سيناء في الجنوب، والصحراء العربية في الشرق، والبحر المتوسط في الغرب ـ والسيطرة على ـ قمة جبل حرمون يجعل القدس وسهول الفرات تحت نظر قمة حرمون، وكذلك البحر المتوسط وهضبة نجد”.
بالنظر الى واقع الحال، لا يمكن الحُكم على ما قاله نجيب عازوري سوى أنه رؤية سبّاقة ومتقدمة في التحذير ـ من ـ واستشراف هول ما ستلاقيه المنطقة من ابتلاءات ونائبات، وعلى إيقاع ناقوس الخطر نفسه، كتب الأب لويس شيخو في دورية “المشرق” البيروتية (تشرين الأول/اكتوبر 1920) فرسم للقارئ الصورة التالية، مبتدئا بردات الأفعال الفلسطينية إثر صدور “وعد بلفور” عام 1917: “لا شك ان هذا القرار هيًج عواطف المسلمين والنصارى، فرفعوا أصواتهم احتجاجا، وقدموا المعاريض إلى عصبة الأمم ودول الحلفاء وإلى مقام الحبر الأعظم، ورأت انكلترا ان تطمئنهم، وأتت الأنباء الأخيرة من فلسطين، ان خوف النصارى والمسلمين، من وضع اليهود يدهم على أورشليم وفلسطين، ليس وهما، وإن سألنا السائل عن رأينا، فجوابنا أن الصهيونيين يحاولون إنشاء موطن لليهود في فلسطين، وليس موطنا فقط بل دولة، وإن تمكن اليهود من أن ينفوا الوطنيين من فلسطين، إلا ان هناك أمكنة مقدسة لا يتخلى عنها النصارى والمسلمون، وهذه الدولة على رأيهم سياسية ودينية، ومن حيث هي دينية، فلا بد لهم من تجديد الشريعة الموسوية، فيقدمون الضحايا المفروضة من موسى الكليم في الهيكل، والضحايا لا يسوغ تقدمتها إلا في الهيكل، فيحتاجون إلى تجديد هيكل سليمان الذي في مكانه اليوم الجامع الأقصى، وهيهات أن يسمح المسلمون بتقديمه إلى اليهود”.
اللبناني نجيب نصار (1873 ـ 1948) المولود في بلدة عين عنوب قضاء عاليه، انتقل إلى مدينة حيفا، ليطلق منها صحيفة “الكرمل” إحدى أقوى الصحف الفلسطينية المناهضة للحركة الصهيونية على مدار عقود، ومن حيفا أصدر كتابا مرجعيا عام 1911 بعنوان “الصهيونية/تاريخها وغرضها”، وحين يصار إلى تتبع أعداد صحيفة “الكرمل”، يخلص التقويم العام إلى نتيجة مفادها عدم خلو أي عدد من الصحيفة لا يقرع جرس التحذير الرافض لمؤتمر “بازل” و”وعد بلفور” في فلسطين، خصوصا في عقد العشرينيات من القرن الماضي، ففي التاسع من كانون الأول/ديسمبر1929 كتب نجيب نصار “يتغنى جابوتنسكي بالملايين التي سيأتي بها اليهود لإعمار فلسطين، نحن نرغب في أن تبقى ملايينهم لهم، وتبقى بلادنا لنا”، وفي التاسع عشر من الشهر نفسه، أوجز مضمون “وعد بلفور” بالقول “لا نفهم من تصريح بلفور، إلا أنه يرمي إلى أخذ وطننا ومنحه لغيرنا”. وكتب سليم أبو جمره في مجلة “العرفان” اللبنانية (نيسان/ابريل 1921) واصفا حالة المواجهة التي وقعت عام 1920 في مدينة القدس، فقال “زادت حركة الهجرة وشعر الوطنيون، مسلمون ونصارى، بالخطر، فاتحدوا لدفعه، وحدثت ثورة القدس، وأخيرا قرر مؤتمر الصلح استقلال فلسطين تحت مشارفة انكلترا ـ التي ـ سمحت لليهود بالمهاجرة، وعينت صموئيل الإسرائيلي مندوبا ساميا، ولما وصل ونزل بميناء حيفا، اضطرب الوطنيون اضطرابا عظيما أمام هذا الإستعمار الذي تمكن من بلادهم وأصبح خطرا عليها، فصبرا أيها الأخوان، وليس لكم إلا التآلف، إذ لولا اتحاد الذرات الدقيقة لما قدر الجبل على مقاومة العواصف”.
ولا يخرج إميل زيدان (مجلة “الهلال”؛ شباط/فبراير 1923) عن هذا السياق، فبعدما يشرح الخلفيات والمفاصل التي قطعتها الحركة الصهيونية، يقول “ظل الصهيونيون يعملون بطرق غير رسمية إلى أن وقعت الحرب ـ العالمية الأولى ـ فاتفقت مصلحة الإنكليز ومصلحة الصهيونيين، القضية الصهيونية في اعتقادنا لا تحتمل الإمتحان المنزه عن الأغراض، بطلانها واضح، مقضي عليها بالفشل آجلا أو عاجلا، على أن الأيام كفيلة ببقاء الصحيح وزوال الباطل”. وأما مؤسس صحيفة “النهار” اللبنانية جبران تويني فله صولات وجولات في العراك والعداء مع الفكرة الصهيونية، ففي الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1929، نشر مقالة في صحيفة “الأحرار” جاء فيها “يزعم الصهيونيون أن فلسطين كانت وطنا لإسرائيل، هذا زعم يكذبه التاريخ، فقد هبط اليهود أرض فلسطين فاتحين، ثم فتحها شعب سواهم، فانجلوا عنها بالسيف كما فتحوها بالسيف، فإذا جاز لكل أبناء مذهب فتحوا بلادا ثم تركوها، أن يطالبوا بها، لكان للمسلمين أن يطالبوا بالأندلس وجنوبي إيطاليا وفرنسا وشرقي أوروبا، فالنظرية الصهيونية لا تستقر على أساس منطقي”، وفي التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 1929، كتب في “الأحرار” أيضا “نحن لم نخن قدس أقداس مبادئنا، بل رفعنا لواءها عاليا في مقاتلة التعصب الديني الذي يدعو إليه الصهيونيون، ومقاومة الدعاية الخبيثة التي ينشرونها للافتراء على العرب”.
المفكر والأديب أمين الريحاني، هو الآخر من رواد المسيحيين اللبنانيين الذين سعوا لإسقاط المنظومة النظرية الدينية والسياسية لاحتلال فلسطين، وعلى ما أوردته صحيفة “الإقدام” الفلسطينية في عدديها الصادرين في الرابع والعاشر من كانون الثاني/يناير 1930 أنه “ورد في بريد المهجر أن الأستاذ أمين افندي الريحاني، أخذ يتجول في مدن أميركا، متكلما عن القضية الفلسطينية، مدافعا عنها، محاورا الخطباء الصهيونيين، رادا حججهم”، ونقلت “الإقدام” عن صحيفة “تايمز ستار” ان الريحاني “وقف خطيبا في مدن عدة منها شيكاغو وبوسطن وغيرهما، وقد تكلم في جمهور كبير في عدة مدارس وجامعات في هذه البلاد”.
وكما تقدمت الإشارة إلى كتاب “يقظة الأمة العربية” لنجيب عازوري، لناحية أهميته وأولويته، فكتاب “يقظة العرب” الصادر عام 1939 لجورج انطونيوس (1898 ـ 1942) إبن بلدة دير القمر يوازيه شأنا وقيمة، ويتفوق عليه في جوانب عرض التفاصيل والإتصالات والوثائق التي كانت أظهرتها المسافة الزمنية الفاصلة بين سنة 1905 تاريخ صدور كتاب عازوري وسنة 1939 تاريخ صدور كتاب انطونيوس، وفيما لا يهمل الأخير شاردة أو واردة من استعراض تطور القضية الفلسطينية ونقيضتها الصهيونية، ينتهي إلى القول: “ليس في الإمكان أن يدافع احد عن السياسة البريطانية، حين تجلى للعيان ان التوفيق بين وعود بريطانيا للعرب ووعودها لليهود أمر محال، وحين اتضح أن الصهيونيين يسعون إلى إيجاد أغلبية يهودية، وحين اتضح أن العرب عازمون على حماية وجودهم ليظلوا أغلبية، حين لم يبق شك أن شعبا أجنبيا يهدف إلى طرد شعب مستقر في وطنه من أرضه وأملاكه، ويدل التاريخ إلى أن مثل هذا النزاع لا تحسمه إلا الدماء”. في هذه القائمة الريادية يدخل المفكر الأول للوطنية اللبنانية، ميشال شيحا (1891ـ1954)، وهنا اقتباسان من كتابه “لبنان في شخصيته وحضوره”: ـ في الصفحة 98 يقول ميشال شيحا: روسيا والولايات المتحدة اتفقتا ـ ولو لمرة واحدة ـ في مساندة اسرائيل، وهي مساندة عنصرية دينية متطرفة. ـ في الصفحة 137 يقول “إسرائيل بدعة الأرض، وواحدة من أغرب مغامرات العصر وأبعدها دويا، من يتاخمها يتاخم مشتلا للعنصرية في صميمها، ومطامع مختلة تغلي أبدا وتفور، حسبنا أن نتأمل في هذه الدولة المنافية للتاريخ، من جهتي قلتُ وكتبتُ عشرات المرات، فحذار حذار جارتنا الجديدة، لأنها ستطالعنا بالأخطار على صنوفها، سواء أكانت تتقدم في خط مطامحها تقدما ميسورا، ام كانت تعاني الضيق”. هل من زيادة؟ الزيادة قصيدة لبولس سلامة كتبها عام 1947: أبناء صهيون والدعوة مزورة / أأنتم الأصفياء الموسويونا؟ دعواهم العنصر السامي مهزلة / فليس صهيون من أحفاد شمشونا ومنذ ما عرف التأريخ مملكة / كانت فلسطين دار اليعربينا يا وعد بلفور يا عار الدهور ويا / وقاحة الضيف قد باع المضيفينا يا واهبا أرضا للطامعين إذن / أعميت عينيك عن حق المقيمينا.
* كاتب لبناني
المصدر: 180Post
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"