لم يكن لِشَيءٍ أنْ يُصِيْبَ الحركَةَ الصُّهيونيَّةَ، وكيانِها المُصطَنَع “إسرائيل”، وداعِمي كِليْهِما، بالانْسِعَارِ السياسي، والذُّعُرِ الوجوديِّ، بِأَبْلغَ من حقيقة أن تقرير منظمة العفو الدولية الصَّادر في مطلع شباط (فبراير) الماضي، والمُعنونِ بـ”نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضِدَّ الفلسطينيين: نظام قاسٍ يَقوم على الهيمنَة وجريمة ضِدَّ الإنسانيَة” قد كشف، بجلاء ساطع، حقيقةَ “إسرائيل” القائمة، أصلاً وفصلاً، على الآيديولوجيا التَّخييلِيَّة الصُّهيونية العنصرية الاستعمارية التَّوحشية التي انخرطت الحركةُ الصُّهيونيةُ وداعموا مشروعها من نُخب الرأسمالية الغربية الاستعمارية، وكياناتها، ودولها، وقُواها، ومن ثَمَّ “إسرائيلهُم”، في بذل أقْصَى الجُهودِ، وعبر كلِّ نَهْجٍ ووسيلةٍ وطريقٍ، وعلى مَدى زمنيٍّ مديدٍ، وبِكُلْفَةٍ عاليةٍ، لِتغطيةِ حقيقتَها العُنْصُرِيَّة الفاشيَّة المُنَاهِضةِ للإنْسَانيَّةِ بإطلاقٍ، بأرديَةٍ وأقنِعةٍ أُرِيْدَ لهَا أنْ تبدو إنسانيَّةً!
الصُّهيونيَّةُ والمُتَاجرةُ بِعذابات اليَهود
وهكذا كانَ للمُتاجَرة السياسيَّة بعذابات يَهُود أوروبا وآلامهم الإنسانيَّة الحقيقية التي لا يَملُك إنسانٌ حقيقيٌ إلا أنْ يأسى لَها، وأنْ يُدِينَ مُقترفي الانتهاكات والجرائم التي سبَّبَتْهَا، وأنْ يعمل بأقصى استطاعتِه للحيلولة دون تِكرارها ضَدَّ أيِّ شَعبٍ، أو دينٍ، أو قَوميَّةٍ، أو مِلَّةٍ، أنْ تُسهمَ في تأسيس عملياتِ تَغطيةِ عنصرية الصُّهيونيَّة وفاشيتها ولا إنسانيَّتها التي واكبت بلورة آيديولوجيتها ونشأة الحركة التي اعتتقتها آيديولوجيةً سياسيَّةً، وخُطَّةَ عَملٍ لتنفيذِ مشروع استعماريٍّ استيطانيٍّ مفتُوحٍ على الأمكنَة الموزَّعة على قاراتِ العالم بِأسرها سِوى القارة الأوروبيَّة التي أُنشئت هذه الحركة فيها وُدُعِمت من قِبل عديدٍ من حُكوماتِ بلدانها لتخليصها من يهودها بإخراجهم منها.
وفوقَ ذلك، فقد كانَ لِمنْطِق المُتاجرةِ المُحفِّزِ بنزوعٍ براغماتيٍّ نَفعيٍّ مُتأصِّلٍ في دُوغْمائيَّة الآيديولوجيا الصُّهيونيَّة العُنْصُريَّة، وفي أنهاجِ الحركَة الصُّهيونيَّة وآلياتِ عملِها، أنْ يَدفَعَ هذه الحركة إلى تحفيز، إنْ لم نَقُل إلى اقترافِ أو تسهيل اقتراف، المزيدِ من الانتهاكات، والجرائم ضِدَّ الإنسانيَّة، التي تواترت وتصاعدت حتَّى صَنَعت “الهُولُوكوست” الذي اقترفتهُ “النَّازيَّةُ الألمانيَّة” قرينةُ الصُّهيونيَّة ورديفها العُنْصريُّ، ليس بحقِّ يهود أوروبا وحدهم وإنِّما بِحقِّ أغيارٍ كثيرينَ ممنْ لَمْ تَرَهُمُ تَخْيِيلاتُ الصُّهيونيَّةُ العنصريَّة ومرجعيَّاتُها إلَّا “أغياراً” هُم أشباهُ بَشَرٍ، ومحضُ هُلامٍ، فلا يرقُونَ إلى مرتبَةٍ بشَريَّة تُعادلُ مرتبَة مُعْتَنِقيها والمُستقطبينَ من قِبَلِها من يهود العالم، المُتَعَدِّدي الأعراق والأوطانِ والجنسياتِ، والمجعُولين، بأَمر التَّخييلوجْيَا الصُّهيونيَّة العنصريَّة المجعولَة، بدورها، آيديولوجيا سياسيَّة مُدَيَّنةً ودِيْناً مُسَيَّساً، عِرقَاً فريداً، وشَعْباً مميزاً، اختارهُ إلَهٌ مخصوصٌ لِيَكونَ هُو “شَعْبُهُ المُخْتَارُ” الجديرُ بأنْ يُوْعَدَ من قِبَلِهِ بأرضٍ لم تَكُن لإيِّ فردٍ من أفرادهِ، ولا لأيِّ جدٍّ من جُدودهِم المُتَخَيَّلينَ، أدنى علاقَةٍ واقعيَّة بها أبداً، وذلكَ لأنَّ هذا “الشَّعبَ المُخْتارَ” شَعبٌ مُخْتَرعٌ، أَصْلاً وفصلاً، بقدرِ ما هُو مُخْترَعٌ الإلهُ الذي اختارهُ، والوعْدُ الذي إليهِ أعطَاهُ!
نظامُ تمييز عُنصري مُتَوحِّش
لَمْ تذهبْ منظمة العفو الدَّولية إلى كشف عُنصريَّة الصُّهيونيَّة من خلال مناقشةٍ نظريةٍ تجريديَّة لآيديولوجيتها العنصريَّة التَّخييليَّة، ومشاريعها الاستعماريَّة، وغاياتها، ووسائل تنفيذها التَّوحُّشيَّة، وإنِّما ذَهبت، محكومةً بصلاحياتها، ومبادئ عملها، ومعايير منهجيَّتِها البحثيَّة الصَّارمة، ومرجعياتها القانونيَّة ذات الجذور والأبعادِ والمقاصِدِ الثَّقافية الإنسانيَّة الرَّاسِخَة، إلى فعل ذلكَ من خلال متابَعةٍ تحليليَّةٍ، حثيثة ودقيقةٍ، لانتهاكاتِ الكيانِ العُنصريِّ الصُّهيوني المُسَمَّى “دولة إسرائيل” لِحُقُوق الإنْسَان الفلسطينيِّ وحُرِّياته الأساسيَّة، وذَلكُ مُنْذُ وقُوعِ ما قد أفْضى إلى إنشاءِ هذا الكيان الاستعماريِّ الاستيطانيِّ في فلسطين من مُمارساتٍ جسَّدتها انتهاكاتٌ جسيمةٌ، وجرائمُ حربٍ، وجرائمُ ضِدَّ الإنسانيَّة، اقترفتها العصاباتُ الإرهابيَّة الصُّهيونيَّة التي أَنْشَأَتْهُ، وتَواترَ اقترافُهَا، بَعدَ إنشائِه، من قِبلِ جيشهِ الرَّسميِّ، وقواتِه الأمنيَّة والشُّرطيَّة، وعصاباتِ مُستوطنيه المُدجَّجة بالتَّخييلوجيا التَّهويميَّة والسِّلاح الفتَّاكِ، على مدى العقود والسَّنوات التي أعقبت إنشاءَهُ في صيف العام 1948 وحتَّى تشرين الثَّاني (نوفمبر) 2021 الذي يسبقُ صُدور التَّقرير بثلاثَة أشهرٍ فحسبُ.
وعلى الرَّغِمِ من متابعة منظَّمة العفو الدَّوليَّة المستمرَّة لأحوال حقوق الإنسان في “إسرائيل والأراضي الفلسطينيَّة المُحتلَّة”، ومن توافُرها على استنتاجاتٍ وخُلاصَاتٍ توصَّلت إليها بحوثٌ متنوِّعَة أجراها باحثوها على مدى سنوات عديدة سابقة، إلَّا أنَّ إدركها حقيقةَ أنَّ هذه البُحُوث لم تَكُن قد تطرقت بِعُمقٍ وتركيزٍ إلى مسألة “التَّمييز العنصري والتَّطهير العرقي اللَّذين دأبت إسرائيل على ممارستهما ضدَّ الشَّعب الفلسطيني” أو اللَّذين تُمارسُهُمَا كياناتٌ وقوى ودولٌ أُخرى ضدَّ شُعوبٍ أصلِيَّةٍ أُخرى في أماكنَ وأوطانٍ عديدةٍ من العالم، قد أوجبَ عليها الاعتراف بأنَّها “لم تُولِ اهتماماً كافياً لحالات التَّمييز والقمع المنهجي في جميع أنحاءِ العالم”، كما أوجبَ عليها الشُّروعَ، اعتباراً من يوليو (تموز) 2017، في اعتماد “سياسة عالميَّة بشأن انتهاكات حُقُوق الإنسان وجريمة الفصل العنصري”.
ويبدو جَلِيَّاً أنَّ مُنَظَّمَة العفو الدَّولية قد تابعت، بإمعانٍ، التَّصريحات المسعورة التي واكبت بلورة قانون القوميَّة العنصري الصهيونيِّ وإقراره من قبل الكنيست الإسرائيلي، في 19 تموز (يوليو) 2018، كقانونٍ أساس لكيانٍ مُصطَنَعٍ جُعِلَ “دولةً بلا دستورٍ”، فَأدركتْ حقيقةَ أنَّ التَّجَسُّدَ الأقصى لجريمة الفصل العُنصريِ، كَتَجَسُّدٍ غير مسبوقٍ في تاريخِ العالمِ حتَّى في جنوب أفريقيا التي كادت هذه الجريمة أنْ تفتكَ بأصحابها وقاطنيها قبل أنْ تتعافي، بمناصرة إنسانِيي العالم وإرادتهم الحاسِمَة، من جراثيم دائِهَا الخبيث، إنِّما يتمثَّل في ممارساتِ الحركَة الصهيونيَّة وإسرائيلها مُذْ لحظَةِ إنشاءِ أيٍّ منهما حتَّى هذه اللَّحظَة، فاختارت، مُحفَّزة بوعيها الإنسانيِّ الجوهريِّ، وبنُبلِ نهُوضِهَا بأعْبَاءِ مسؤوليَّاتِهَا كمنظَّمة إنسانيَّةٍ تطوُّعِيَّة مرموقَةٍ تمورُ مُكوناتُ هُويَّةِ “المُثقف العُضْويِّ الجَمْعِيِّ الإنْسَانِ”، ومسؤولياتُهُ الإنسانيَّةُ الجَمَّةُ، في وجدانَ الملايين العشرة من أعضائها الدَّوليينَ، أنْ تُحيْلَ هذه “الحقيقة” إلى “فرضيَّة مُؤَصَّلة”، وأنْ تَتَفَحَّصَها بِعمقٍ يَتَقَصَّى جذورها، ولا يَكفُّ عن السَّعي لإدراك كُلِّ أبعادها، وملاحقة تداعياتها، والتَّنبُّوء بعقابيلها المُمكنة الوقوعِ ليس على صَدْرِ الشَّعب الفلسطيني مالك فلسطين وساكنها الأصلي، أو على ماهيَّاتِ يهود العالم الذين فُرِّغُوا من إنسانيتهم إِذْ صُهينُوا وجُلِبوا إلى “فلسطينَ” لاستعمارها واستيطانها بالإرهاب والقَهرِ، أو على صُدورِ الذين لمْ يُصهينوا مِنْ يهود العالم الذينَ أعملوا عُقولَهُم فرفضوا الانخراطَ في صُهيونيَّةٍ سياسيَّة تخييليَّةٍ تُسَيِّسُ الدِّينِ، وتُدَيِّنُ السياسَة، وتجعلُ الدِّيانَةَ قوميَّةً مُغْلَقةً على نفسها، فحسب، وإنَّما على مُستقْبَلِ البشريَّة بأكملها والعالم الإنسانيِّ بأسره.
العَفْوُ الدَّوليَّةُ وقولُ الحقيقة
وهكذا كان لإعدادُ هذا التقرير المُركَّزِ بِعُمْقٍ على مُقاربَةِ تجسُّداتِ الممارسَةِ الإسرائيليَّة الفعليَّة لـ”نظام الفصل العنصري الإسرائيلي ضِدَّ الفلسطينيين”، أنْ يستغرقَ نحو أربع سنواتٍ وبضعة أشهُر من الجهد البحثيِّ المُعَمَّق، وذلك بدءاً من منتصف العام 2017 وحتَّى مُفتتح تشرين الثَّاني (نوفمبر) 2021، كما كان له أنْ يَتَأسَّسَ “على عُقودٍ من البحث الميداني والمكتبي في جَمع الأدلَّة”، وأنْ يستندَ، مرجِعِيَّاً، إلى “السياسَة العالمية بشأن انتهاكات حُقُوق الإنسان وجريمة الفصل العنصري” المُعتمدة من قبل مُنَظَّمة العفو الدَّولية، وأنْ ينهضَ على كَمٍّ نَوعيٍّ هائلٍ من المصادر المرجِعيَّة الموثوقَة والمنشورات الصَّادرة عن مُنَظَّمات وهيئاتٍ ومراكزَ أبحاثٍ فلسطينيَّة وإسرائيليَّة ودوليَّة معنية بحقوق الإنسان، وعلى مُحاوراتٍ مُستمرَّة مع علماء وأكاديميينَ وصحفيين، وعلى إصغاءٍ مرهفٍ لأصحاب المَصلَحة الحقيقيِّن من ضَحايا الانتهاكات الإسرائيليَّة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية من الفلسطينيينَ وغيرهم من أصحاب المصلحة، وعلى مُشاوراتٍ تفاعُليَّة مُركَّزةٍ مع خُبراءَ ومستشارينَ قانونيينَ، ومع هيئاتٍ دوليَّة كهيئات الأمم المتحدة ومجالسها المعنيَّة، ومحكمة العدل الدَّوليَّة، والمحكمة الجنائيَّة الدَّولية.
وقد لا تُفْصِحُ زمنيَّةُ إتْمامِ هذا التَّقرير عن ضخامة الجُهود التي تَبْذُلُهَا منظَّمة العفو الدَّولية في مُتابعتها أحوال حقوق الإنسانِ وحريَّاته الأساسيَّة في العالم أجمع، وفي كشفِهَا المُتواصلِ عن الانتهاكات التي تتعرض لها هذه الحقوق والحرِّيات، وفي دَعوتها إلى احترامها والالتزام بها والدِّفاع عنها، وفي مُطالبتها المُتكرِّرة بمُساءَلَة منتهكيها ومُحاسبتهم وتقديمهم إلى محاكمات عادلة تُوْقِعُ على من تُدينهم العقابَ الواجبَ، فحسبُ، بل إنَّ لَها أنْ تُجَلِّي، في الوقْتِ عينه وفي تضافُرٍ مع استخلاصاتٍ قانونيَّةٍ ومعرفِيَّةٍ نجمت عن توثيق شامِلٍ، وتحليلٍ مُعَمَّقٍ، لممارسات إسرائيلَ وانتهاكاتها النِّظاميَّة المتواصِلة لحقوق الإنسانِ الفلسطينيِّ، تَواكبَا، صميميَّاً، مَع توثيقٍ وتحليلٍ مُماثلينِ للتَّشريعات والقوانين واللوائح، والتوجيهات والتصريحات الحكومية، ووثائق التخطيط وتقسيم المناطِق، والخطط والميزانيات والإحصاءات، والأرشيفات البرلمانيَّة، وقرارت المحاكم، والأوامر العسكريَّة الإسرائيلِيَّةِ، أصدق المعطيات والحقائق الأعمق تأصلاً ورسوخاً.
وفي تضافرٍ تفاعلي مع كل ما سبق، نجمت المعطيات والحقائق التي اعتمدها التقرير عن تَفَحُّصٍ نقدي رصين لكل ما له صلةٌ بالأمر مما صَدر عن الجانب الفلسطينيِّ المُنتَهَكَةِ حُقُوقَه، وضمنه تقارير وإحصاءات أصدرتها السُّلطات الفلسطينيَّة الرسميَّة، فتجلت فيه صدقية منظمة العفو الدولية كمُنظَّمة إنسانيَّة مرموقة وذات شأن، وكان له أن يفصح عن حقيقة حرص هذه المتظمة على إدراك الحقائق المُدقَّقة الصَّافيَةِ، بِموضُوعيَّة مُطْلقةٍ، وعلى قَولِ الحَقِّيقَة المُؤَكَّدةِ بسطوعٍ وجلاءٍ يَتجاوبان مع سَعيِها الدَّؤوب إلى حمايَة حُقُوق الإنسانِ وحرياته الأساسية وجعلِ منظوماتِها القانونية الثَّقافيَّة، بجميعِ مُكوناتها المُعتَمدةِ من قِبَلِ العَالمِ الذي كان للعنصريَّةِ النَّازيَّةِ أنْ تستهدفَه بشرورها، مناراتٍ تُضيئُ كُلَّ رحابِه، بلا أدنى تمييزٍ من أي نَوعٍ أو لونٍ أو شكلٍ، أو لأيِّ سببٍ أو دافِعٍ أو ذريعة.
خُلاصاتٌ مُؤَصَّلةٌ يُعَادُ تَأكيدها
لقد خَلُصت مُنظَّمة العفو الدَّولية، ضِمنَ ما خَلُصت إليه في تقريرها، إلى تأكيدِ، وإعادة بثِّ، وتعميمِ، حقيقةٍ مُؤكَّدةٍ كانَ مُثَقَّفون فلسطينيون، وعرب، ومن شَتَّى ثقافات العالم، قد اكتشفوها وكشفوا عنها، قبلَ أربعة عُقودٍ من اندلاع شُرور “النَّازيَّة” في الحرب العالميَّة الثَّانيَة، وقبل ما يربو على نصف قرنٍ من إعلانِ إنشاء “دولَة إسرائيل” فوقَ أرضٍ من أرضِ فلسطين في العام 1948. وما هذه الحقيقية المُؤَكَّدة التي لم يُغْفِلْ تقرير منظمة العفو الدَّولية مسَأَلةَ رَبْطِهَا الضِّمْنِيِّ بِجذورِها، وبالإرهاصات الواقعيَّة التي دلَّت عليها وجَلَّتها، إلَّا حقيقة أنَّ إسرائيل نفسها لم تَقُمْ، في أصل نشأتها، إلا على السَّرقَةِ والاغتصابِ والانتهاكاتِ الجسيمَة القائمة على مُمارساتٍ عنصريَّة تمييزيَّة، فاحشة ومُتوحِّشَةٍ، تُفْصِحُ عنها، بجلاء ساطِعٍ، عناوين الأعم الأغلب من الموضوعات التي تناولها التَّقريرُ ليُضيءَ موضُوعَهُ الرئيسَ ويُعَمِّقَه، ومنها: تَعَمُّدُ قَمع الفلسطينيين والهيمنة عليهم؛ شرذَمةُ الأراضي والتَّفرقة القانونيَّة والسيطرة؛ استخدامُ الحُكم العسكري للسيطرة ونزع الملكيَّة؛ الحرمانُ من القوميَّة والإقامة والحياة الأسريَّة؛ عرقلةُ الحياة الأسرية وفرض قُيود على التَّنَقُّل؛ تقييدُ الحقِّ في المُشاركة السياسيَّة؛ نَزعُ ملكية الأراضي والممتلكات؛ وسْمُ سياسات التَّخطيط والترسيم بالتَّمييز المُجحف؛ كبحُ التنمية للفلسطينيين؛ عملياتُ النَّقل القسري؛ الاعتقالُ الإداري والتَّعذيبُ وغيره من ضُروب المُعاملة السيئة والمهينة؛ أعمالُ القتل غير المشروع والإصاباتُ الجسيمة؛ الاضطهادُ والحرمانُ من الحُقُوق والحريات الأساسيَّة ؛ توظيفُ الاعتبارات الأمنية بقصد ترسيخ القَمع والهيمنة؛ والاستمرارُ في الحيلولةِ دون عودة اللاجئين الفلسطينيين المُهَجَّرين في البلدان المُجاورة وغيرها إلى ديارهِم التي هُجِّروا، قسراً، منها.
ولَم يَكُن لتقريرٍ مُتَخَصِّصٍ ومُرَكَّزٍ تناولَ كُلِّ هذه الموضوعاتِ التَّفصيليَّة، وغيرها ممَّا تفرَّع عنها، بالتَّفَحُّص المُدقَق والتَّحليل العميقِ، أنْ ينتهي إلى خُلاصَةٍ مُدقَّقةٍ ومُؤصَّلةٍ ومُتَواشِجةِ المُكَوِّنات غير تلك التي انتهى إليها، والَّتي تَقولُ، ضمن مُكَوِّناتٍ مُحَدَّدة أُخرى: إنَّ “إسرائيلَ قد أقامتْ، وأبقت على، نظامٍ مُؤَسَّسي من القَمع والهيمنة على السكان الفلسطينيين لصالح اليهود الإسرائيليين – نظام فصل عُنْصُري – في كُلِّ الأماكن التي سيطرت فيها إسرائيل على حياة الفلسطينيين منذ عام 1948” وبعد حرب حزيران 1967، وأنَّ نِظام الفصل العنصري المُؤَسَّسي المُمَنْهج الذي تُمارسِه إسرائيل ضدَّ الفلسطينيين في “إسرائيل والأراضي الفلسطينيَّة المُحتلَّة” إنَّما “يُكَمَّلُ بِنظامٍ قانونيٍّ يُسيطِرُ على حَقِّ اللاجئين الفلسطينيينَ المُقيمينَ خارج إسرائيل والأراضي الفلسطينيَّة المُحتَلَّة في العودة إلى ديارهم، (وذلك عن طريق نفي هذا الحق).” كما خلُصت منظَّمة العفو الدَّولية إلى أنَّ “تفكيك نظام الفصل العنصري الوحْشيِّ هذا إنَّما يُعد أمراً جَوهريَّاً لملايين الفلسطينيين الذين لا يزالون مُهَجَّرين في البلدان المُجاورة، والذين يُقِيْمُ كثيرون منهم على مسافة حوالي مائه كيلومتراً من ديارهم الأصليَّة، وذلك حتَّى يتسنَّى لهُمُ التَّمتُّع بحقُوقهم الإنسانيَّة دون تَمييزٍ مُجحِفٍ.”
ولستُ أحسبُ أنَّ سبباً رئيساً لإثارة الذُعرِ الوجوديِّ في الأوساط الصُّهيونيَّة جميعاً، وضمنها أوساطُ الرَّسميين الإسرائيلِيينَ ونظائرهم في الغرب الرَّأسمالي المُتوحِّشِ، يُمْكِنُ أن يُفارقَ جَوهرَ هذه الخلاصَة أو يَنأى عن إدراكِ مغزاها؛ ذلك أنَّ تفكيك نظام الفصل العنصري الإسرائيلي الوحشي هذا إنِّما يقتضي تفكيكَ الصُّهيونيَّة نفسها وإخراجِ “إسرائيلها” عن ماهيتها العنصريَّة التي أُنشِئت من أجل تجسيدها، والتي أُنْهِضِت، مُنذْ ما قبل إنشائها، وبعده، وفي اقترانٍ مع طبيعتها الاحتلاليَّة الإحلاليَّة الاستيطانيَّة، والوظيفيَّة الاستعماريَّة، عليها!
ثالوثُ خيمة التَّخييلوجيا الصُّهيونيَّة
ولذا، وفي مُقابل خلاصات تقرير مُنظَّمة العفو الدَّولية وتوصياتِه العقلانيَّة الإنسانيَّة المُؤَصَّلة واقعيَّاً ومعرفياً وقانونياً وسياسيَّاً وحضاريَّاً وتاريخيَّاً، لَم يَكنْ للتصريحاتُ والتعليقات والتَّعقيبات القصيرة، أو المُطَوَّلة، التي أبداها رئيس وزراء إسرائيل “بينيت” ووزير خارجيَّته “لابيد” وغيرهُما من الرَّسميينَ الإسرائيليين، أو التي دَبَّجَتها مؤسَّسات رسمية إسرائيليَّة، ومُعلِّقون صحافيون وإعلاميونَ إسرائيلونَ صهاينة، أو التي تَفَوَّه بها مُستوطِنٌ صُهيونيٌّ استُجلبَ للتَّوِّ من “أوكرانيا” أو من مكانٍ قَصيٍّ في الولايات المتحدة الأمريكية؛ لم يَكُن لها أنْ تستندَ في تعبيرها عنِ الفَزعِ الوجُوديِّ مِمَّا أحتواه تقرير منَظَّمة العفو الدَّولية الدَّامغِ “إسرائيلَ” اليهوديَّةَ الصُّهيونيَّة بالعنصريَّة، من حقائقَ وخلاصاتٍ وتوصياتٍ، إلى شيءٍ سِوى ثالوثِ الأعمدة الأُكذوبيَّة التَّهويميَّة الجَوفاء التي رُفِعت عليها “خيمةُ الصُّهيونيَّةِ العنصريَّة” وصنيعتها “إسرائيل” المُغطَّاةُ طوال الوقتِ بِهَا، وهو ثالوث: “شعبُ الله المُخَتار”، و”الأرضِ الموعودة”، و”مُعاداة السَّاميَّة”.
وقد كان لهذا الثَّالوث التَّخييليِّ الغرائبيِّ أنْ يُملي على “بينت” و”لابيد” وعلى غيرهما من الرَّسميين الإسرائيليينَ، المُصَدِّقينَه أو الزَّاعمينَ، لسببٍ أو لآخَرَ، أنَّهُم يُصَدِّقُونه، أمر اعتبار منظمة العفو الدَّولية “مُنَظَّمة راديكاليَّة، مُنْحَازة، وانتقائيَّة، ومُعاديَةً للسَّاميَّة”، و”تُردِّد الدعايةَ المُناهضةِ لإسرائيل دون تمحيص”. وما ذلك كُلِّه إلَّا لزعْمِهم أنَّ “تقريرها يُنْكِرُ عمليَّاً، وبشكل مُطلق، حقَّ إسرائيل في الوجود”. وبينما وُسَمَ صحافي إسرائيليٌ صُهيونيٌّ هذا التقريرُ ومُعِدُّوه ومُعْتَمدوهُ، ويا للعجبِ، بِإعمالِ نوعٍ من “التَّفكير السِّحري، أو التَّخييلي، التَّأمريِّ”؛ وكأنَّ الصُّهيونيةُ التي يعتنقُها هذا الصَّحافيُّ تُعْمِلُ سِواه! وصفته مُنَظَّمةُ “إيباك” بأنَّهُ “مُضَلِّلٌ ومُتَخلِّفٌ ولا يَقصِدُ شيئاً سوى شيطنة إسرائيل”، فيما وصفَ المُعَلِّق شاني مور، وهو موظَّف إسرائيلي رسميٌّ كان قد شغل منصب مدير مكتب السياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، التَّقرير بأنَّه “نَصٌّ كئيبٌ يُمكنُ التَّنبوءُ به”. ومُعرباً عن انزعاجه من حقيقةِ أنَّ “ردود الفعل الغاضبَة على التقرير قد لفَتَتِ الانتباه، أكثر فَأكثر، إليه”، أشار هذا المُعَلِّق إلى اندراج تقرير منظَّمة العفو الدَّولية في سياقٍ مُتنامٍ “يُدِيْنُ المنخرطون فيه بآيديولوجيا مُتَلَوِّنة بنظرية المُؤامرة”، ويتميَّزُ بـ”التركيز المَهووس وغير المُتناسب، في مجتمع حقوق الإنسانِ، على إسرائيل”!
وفي سياقِ سعيِه لأنْ يبدو موضوعياً وعقلانيَّاً، وغير مُنْسَعِرٍ، أو مذعورٍ، أو مأخودٍ بمنظق “التفكير السِّحريِّ التَّأمريِّ”، ذهبَ هذا المُعَلِّق إلى زَعِمِ أنَّ “الاحتلال الإسرائيليِّ لفلسطينَ ليس سبباً لأيِّ صراع وإنِّما هو نتيجة له”، وإلى أنَّ تعريف منظمة العفو الدولية للاحتلال ليس وصفاً قانونياً أو إقليمياً صحيحاً لأنَّه مُكيَّفٌ من قِبلها بطريقة تجعلهُ ينطبقُ على قطاع غزة”. كما ذهبَ إلى افتراضِ أنَّ خلاصَة خُلاصاتِ التَّقرير إنِّما تتمثَّل في أنَّ “إسرائيل عنصريَّة وشريرة ولا يُمكِنُ إصلاحها”، وهي الخُلاصَةُ التي سيتَوصَّلَ إليها، بحسب إدراكِه المُتَأخِّرِ كثيراً في الوعيِ وفي الزَّمنِ، كلُّ من يطَّلع عليه من النَّاس.
أصالةُ السِّياسَة إنْسَانيُّتُهَا الخَيِّرةُ
ولم يَكُن لِلْمُعلِّقِ الصُّهيونيِّ الإسرائيليِّ أنْ يَقرأَ في انضمامِ تقرير مُنظمة العفو الدَّولية إلى تقريرين أصدرتهما، في العام الفائت، مُنَظَّمتان لحقوق الإنسان هُما: الإسرائيلية “بتسيلم”، والأمريكيَّة “هيومن رايتس ووتش”، وتوصَّلا إلى الاستنتاج نَفْسِه في وقتٍ مُتقاربٍ، من دلالةٍ، أو معنىً، سوى أنَّ هذه المُنَظَّماتِ “ذاتيَّةُ الطِّراز Self – styled” في مُجافاتِها الموضوعيَّة، وأنَّ استنتاجها المُتطابقِ والمُتزامِنِ بشأنِ عُنصريَّة إسرائيل إنَّما هو “دليل على أنَّ النَّشَاطَ المُنَاهضَ لإسرائيل هو نشاطٌ اجتماعيٌّ أكثرَ من كونِه نشاطاً سياسيَّاً، إذْ هُوَ مِهنةُ إيمانٍ وعُضْويةٍ في مُجتمعِ الخير، وليس مُحاولةً لتغيير السِّيَاسَة، أو حتَّى القِيامَ بِعَملٍ سياسيٍّ أصيلٍ.”
ومن جِهتي، وبُغيَة النُّهوضِ بِعملٍ سياسيٍّ إنسانيٍّ أصيل، ليس كهذا الذي يدعو المُعلِّقُ السياسيُّ الإسرائيليُّ، ظاهريَّاً، إليه، فيما فحوى تعقيباته على التَّقرير لا تقصُدُ سِوى الأخذِ بنقيضِهِ المتمثِّلِ في إِذْعانِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ، وإنْسانِيِّيى العالم بِأسره، لإملاءاتِ حُكومات إسرائيل العنصريَّة المُتَوحِّشَةِ، وخُضُوعهم لإرادتها غير السَّوية من منظورات الحقِّ والحقيقة وإنسانيَّة السِّيَاسَة، فَإنِّي لأدعو إنْسانِييِّ العالم ومُثَقَّفيه الأحرار، بَدءاً بِمُثَقَّفِي الشَّعبِ الفلسطينيِّ المَقذوف بأسره في “هولوكوستات” الكيانِ التَّمييزي العنصري الإسرائيليِّ المُتَوحِّش، والمُثقَّفين الإنسانيينَ المُقيمين في أيِّ جزءٍ من فلسطينَ، وضمنهم منَ هُم كذلكَ من “يهودِ العالم”، إلى التَّمَعُّن في قراءة تقرير منظَمة العفو الدَّولية بشأن “نظام الفصل العنصري الإسرائيلي ضِدَّ الفلسطينيين”، وإلى التَّبصُّرِ المُعمَّق في إحالاته المتواترة إلى أُصولِ هذا النِّظام ومرجعياتِه العُنصريَّة، وإلى استكشافِ القاع الثَّقافي الإنساني العميق الذي ينهضُ هذا التَّقريرُ عليه ويستنيرُ بِه، والذي تتكفَّلُ استنارتهُ العقليَّة، المنطقية والقانونيَّة والمعرفيَّة، بإحالة التَّخييلوجيا العنصريَّة الصُّهيونيَّةِ، المُؤَسِّسةِ وُجودَ “دولةَ إسرائيل” الاستعماريَّة الاستيطانيَّة العنصريَّة في “فلسطينَ”، إلى رمادٍ يُفْصِحُ سَوادُهُ عن تَجَذُّرِ عنصريَّة هذه الدَّولَة وتوحُّشِها البَشَريِّ المُفتَقِرِ وجودَ نُواةِ فَكرةٍ، أو ذّرَّةِ سَعيٍّ، لالتقاطِ بذرةِ إنسانيَّةٍ مُمْكِنةٍ قَدْ تُغيِّرُ ماهيَّتهَا وغاياتها فَتُؤَمِّنَ وجودَها المُؤَقَّتِ في فلسطينَ إلى أنْ تأذنَ صيرورةُ الوجود الإنسانيِّ الحَقِّ بإجثثاثِه وإنهائه.
كَما إنِّي لأدعوهُم إلى الأخذِ بالخُلاصاتِ الَّتي أصَّلها التَّقريرِ، وإلى بذل أقصى الجهود لجعل توصياته العامَّة والمُحَدَّدة حقائقَ مشهودةٍ في واقعٍ إنسانيٍّ منشودٍ يُلبي أهْلُهُ نداءات وجودِهم الإنسانيِّ فيما هُم يَعْبُرُون مسارات حياتهم الإنسانيَّة المُشتركَة على هديِ أنوار مناراتِه المُضَاءة بمشاعلِ منظوماتِ حُقُوق الإنسانِ وحرياته الأساسيَّة التي هي صُلبُ أصلاب الثَّقافَة الإنسانيَّة، وجوهَرَةُ إنسانيَّة السِّياسةِ الحَقَّة.
* كاتب ودبلوماسي فلسطيني
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــــاة"