اكتسبت فلسطين قدسيتها، كونها أُولى القبلتيْن، وثالث الحرميْن الشريفيْن، كما أنها مهد المسيح (عليه السلام)؛ إضافة إلى أن فلسطين قضية تحرر وطني، وعربية في منشئها، وفي حلِّها، بأفق إنساني؛ لذا، فقد تصدَّرت سُلَّم أولويات الأُمة العربية، والإسلامية، ما جعل الشعوب العربية، والإسلامية، حائلاً دون أن يتمتع الكيان الصهيوني بعلاقات طبيعية مع دولهم، فلزِم تغييب العقل العربي، ليصبح العدو صديقاً، وذلك بأدوات عدة، منها، تزييف الوعي الديني، من خلال فتاوى، وآراء تَنْتَحي بالشريعة، بعيداً عن الحق، وقد تمَّ، في موجات متوالية، كلٌّ منها أشدُّ من سابقتها، سُوءاً، وانحرافاً.
الخط الأصيل:
ثمة حقيقة يجب إقرارها، أولاً، أن فتاوى “التطبيع”، والمهادنة للعدو، كانت خروجاً على ما أصَّله فقهاء الأمة، من آراء فقهية، أوجبت الجهاد ضدّ العصابات الصهيونية، وكيانها الغاصب، وألزمت آحاد الأمة بالعزل التام للكيان، على كل الأصعدة، من خلال المقاطعة؛ إدراكاً من العلماء بطبيعة الصراع مع العصابات الصهيونية؛ فهو “عدوٌ محاربٌ”، قد “أغار على وطنٍ من دار الإسلام، فاستولوا عليه بالقوة، واستبدوا بأمر المُلك فيه”، وأن أهداف العدو البعيدة، هي “السيطرة على دول الإسلام كافة، والقضاء على عروبتها، وحضارتها”، ولتحقيق هذا الهدف، سعت هذه العصابات، أولاً، إلى “إقامة دولة يهودية بقُطر من أعز أقطار الأمة العربية والإسلامية، وهو فلسطين”، و”تهويد هذه البلاد الإسلامية المقدسة، وإخراجها من أيدي أهلها، وإجلائهم عنها”، وذلك من خلال “امتلاك أراضي فلسطين”، التي تعدُّ “القضية الأساسية”، وهذا كله يتم، بدعم من الدول الغربية، وبتأييد من المؤسسات الدولية، ومساعدة بعض أبناء الوطن؛ وانطلاقاً من هذا الفهم لطبيعة الصراع.
منذ الأيام الأولى للصراع العربي – الصهيوني، خرجت الفتاوى، تحثُّ المسلمين، في كل بقاع الأرض، على وجوب الجهاد لتحرير فلسطين، بالنفس والمال، وحرَّمت التقاعس عن هذا الواجب، وعدم جواز الصلح مع العصابات الصهيونية؛ “لما له من إقرار الغاصب [العصابات الصهيونية] على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بأحقية يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه”؛ وعارضت فتاوى العلماء، في أثناء الحرب مع العصابات الصهيونية، عقد الهدنة مع العدو الصهيوني، لما سيعود بالمصلحة عليه، دون تحقيق فائدة للمجاهدين، في ميدان المقاومة؛ وكذا أيَّد العلماء مقاطعة العدو، بـ”منع السلاح، والذخيرة عن اليهود، وعدم السماح بمرور ناقلاتها”، وعدم جواز “إرسال أي شيء، سواء كانت أسلحة، أو مواد تُستخدم في صناعتها، أو حتى الغذاء، والملبس”، حيث إن “إرسال غير الأسلحة إليهم، يُقوّيهم، ويُغريهم على التشبث بموقفهم، الذي لا تبرره الشريعة”. وأعلنت الفتاوى بطلان القرارات الدولية الجائرة، في حق الشعب الفلسطيني، مثل قرار التقسيم؛ وأجمعت على “تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود، وتحريم السمسرة على هذا البيع، والتوسُّط فيه، وتسهيل أمره، بأي شكلٍ، وصورة من صورها الرسمية (البيع)، أو غير الرسمية (كالترغيب)”، وتحريم “الرضا بذلك كله، والسكوت عنه، وأن ذلك كله أصبح، بالنسبة لكل فلسطيني، صادراً من عالِم بنتيجته، راضٍ بها، ولذلك، فهو يستلزم الكفر، والارتداد عن دين الإسلام”، وأن “بائع الأرض لليهود في فلسطين، سواء كان ذلك، مباشرة، أو بالواسطة، وأن السمسار، والمتوسط في البيع، والمسهِّل له، والمساعد عليه، بأي شكلٍ، مع علمهم بالنتائج، كل أولئك، ينبغي ألا يُصلى عليهم، ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم، ومقاطعتهم، واحتقار شأنهم، وعدم التودد إليهم، ولو كانوا أباءً، أو أبناءً، أو إخواناً، أو أزواجاً”؛ كما بيَّنت الفتاوى الموقف من آية: “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، حيث إجماع الفقهاء على تقييدها، برؤية مصلحة للمسلمين، في ذلك، أخذاً بقوله تعالى: “فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ”؛ وعن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة، أشار العلماء إلى وجود “فارق، لا بدّ من رعايته، وهو أن مكة كانت بلداً مشتركاً بين المؤمنين، والمشركين، ووطناً لهم أجمعين، بخلاف أرض فلسطين، فإنها مِلكٌ للمسلمين، وليس لليهود فيها حكمٌ، ولا دوله”؛ ولم ترتبط الفتاوى، بحدود فلسطين الجغرافية، بل خرجت من فلسطين، وسورية، وعلماء نجد، ومصر، وعلماء العراق، والمغرب العربي، وجمعية العلماء المركزية للهند، والمؤتمر الدولي الإسلامي في باكستان.
جاء حين من الدهر، سيطرت فيه أنظمة شمولية على الحكم في الدول العربية، حرصت على توظيف الدين لخدمة سياستها الرامية، في الأساس، إلى الاحتفاظ بكرسي الحكم، وضمان استقرار الأوضاع الداخلية، من خلال تحييد القوى الخارجية، حتى وإن كانت تلك السياسات في غير صالح الشعوب؛ ما استلزم تهيئة العقول العربية لما ترمي إليه تلك الأنظمة؛ ولأن الدين، أصل نافذ في وعي الشعوب، وأكبر المؤثِّرات على أبناء الأمة؛ فلزم استقطاب بعض أصحاب العمائم، لتبرير تلك السياسات، فسقط البعض في اجتهادات خاطئة، وارتضى البعض الآخر أن يفتي ابتغاء مرضاة الرئيس، فكان الخطأ، والتزييف، هو الموجِّه لتلك الآراء. غير أن الأمة لم تُعدم العافية، بل من علمائها من لم يزالوا على الحق، يكشفون كل زيف، بالحجة، والبيان.
الموجة الأولى:
قصَّ السادات شريط التطبيع، مع العدو الصهيوني، خريف 1977، وإن سبق هذه الخطوة سلسلة من التراجعات، التي أقدم عليها السادات، في تعامله مع عدو الأمة؛ فقد اختار السادات، منذ تولّيه رئاسة الجمهورية في مصر، في 17/10/1970، طريق “التسوية السلمية” مع الكيان الصهيوني، معوِّلاً على أمريكا، في أن تسانده بتحقيق تسوية مقبولة، فبدأ بتمديد وقف إطلاق النار مع العدو الصهيوني، دون أن يتشاور مع أيٍّ من أركان حكمه، لاهثاً وراء أي تسوية تُعلن؛ وما أن أصدر الوسيط الدولي، غونار يارنغ Gunnar Jarring، مذكرة aide-memoire، في 8/2/1971، والتي احتوت على خطوات تنفيذية لتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 242،United Nations Security Council، حيث طالب الكيان الصهيوني بالانسحاب إلى الحدود الدولية مع مصر، وطالب مصر بتوقيع “معاهدة سلام” مع الكيان الصهيوني، حتى سارع السادات بإعلان قبوله توقيع “اتفاق سلام” مع الكيان، بعد أسبوع من صدور المذكرة، غير أنه اصطدم بصخرة الرفض الصهيوني في التعاطي مع تلك المبادرة، في 26 من الشهر نفسه، وعلَّق السادات على ذلك، قائلًا: “أنا شايف إن مافيش فايدة، إلا إذا دخلنا في حرب مع إسرائيل”. واتجهت مصر نحو إتمام الاستعدادات العسكرية، لخَوْض الحرب ضدّ الكيان، وقد استعانت في ذلك بالعلماء، والدعاة الإسلاميين، لشحن الضباط، والجنود ضدّ العدو الصهيوني، مغتصِب الأرض، وترغيبهم في الجهاد، والاستشهاد في سبيل تحرير الأرض، ودحر العدو، حتى إن بعضاً من العلماء كان على خط الجبهة، في أثناء بدء الحرب، في 6/10/1973، لكنَّ خيار الحرب لدى السادات، لم يكن لتحرير الأرض، واستردادها، بل كان تحريكاً للركود في مسار التسوية، ومحاولة لإجبار الكيان الصهيوني على التحرك، بإيجابية ما، نحوها، حسب نصيحة وزير الخارجية الأمريكية، آنذاك، هنري كيسنجر Henry Kissinger.
قَرَن السادات انعطافه نحو المعسكر الأمريكي، بتَسَرْبُلِه بالدين الإسلامي، تحقيقاً لشرعية شعبية يواجه بها السيطرة الناصرية على مفاصل الدولة، فأطلق محمد عثمان إسماعيل، أحد معاونيه، عليه لقب “الرئيس المؤمن”، وسارع السادات إلى إضافة اسم “محمد” إلى اسمه، فأصبح “محمد أنور السادات”، وعلى غراره فعل كل كبار المسؤولين في الدولة، عدا النساء، وبطرس بطرس غالي، وأخذ السادات يُلِح على شعبه، كي يتحلى بـ”أخلاق القرية”، وحفلت شاشات التليفزيون، وسماعات الإذاعة بعرض السادات، وهو ذاهب إلى المسجد، وهو يركع، ويسجد، في خشوع، ثمَّ وهو يعود إلى منزلة، بملابسه الريفية، في استجداء لشعبية يفتقدها.
صُدِمت، الشعوب العربية، والإسلامية، وكذا معاونو السادات، بإعلانه عن مبادرته للسفر إلى الكيان الصهيوني، في خطابه الشهير، أمام مجلس الشعب المصري، في 9/11/1977، وقد تَقَصَّد حضور ياسر عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لهذه الجلسة، كخطوة ٍ لبدء مسار التسوية مع الكيان، والتي لم تكن مفاجئة لقادة الكيان، بل كانت الفخ الذي حفره الصهاينة للسادات، حيث إن الزيارة تمت بناءً على دعوة من مناحيم بيغن Menachem Begin، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، آنذاك، للسادات، حملها له الإعلامي الأمريكي الشهير والتر كرونكايت Walter Cronkite، لزيارة القدس، وسبقها لقاء، تمّ برعاية مغربية، حضره من الجانب المصري حسن التهامي، مبعوثاً من السادات، وكمال حسن علي، مدير المخابرات العامة المصرية، آنذاك، والذي أعلن، لاحقاً، أنه قد تمّ تكليفه من الرئيس السادات بزيارة المغرب، دون معرفته بهدفها، أو حتى هوية من سيقابله فيها، وحضر من الجانب الصهيوني موشيه ديان Moshe Dayan.ا[8] وعلى الرغم من طوفان الانتقادات، والمعارضة، الذي واجه تلك المبادرة، على المستوييْن، الشعبي والرسمي، في المحيط الإقليمي، وفي الداخل المصري، وحتى بين أركان نظام السادات، حيث استقال عدد من وزرائه، فإن السادات أتمَّ الزيارة المشؤومة، ثم قام بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد Camp David Accords، في 17/9/1978، على الرغم من مقاطعة عدد من أعضاء الوفد المصري لمراسم التوقيع، رفضاً لبنود الاتفاق؛ وبعدها، وقَّع السادات “معاهدة السلام” مع الكيان الصهيوني، في 26/3/1979، وما تبعها من التزامات الطرف المصري بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، في كل المجالات، وعلى كل المستويات؛ وفي المقابل، تصاعد الغضب العربي على ما أقدم عليه السادات، من خطوات، قوَّضت كل مكاسب انتصارات حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وشقَّت الصف العربي، في مواجهة العدو الصهيوني، حتى بلغ حدّ إعلان دول عربية مقاطعة مصر، وتمّ نقل مقر الجامعة العربية، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، من القاهرة إلى تونس العاصمة؛ وفي أثناء زيارته للكيان، لم ينسَ السادات أن يُصلي في المسجد الأقصى، ثاني أيام زيارته، والذي صادف أن يكون يوم عيد الأضحى.
***
في مواجهة ذلك الغضب، أصدر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، مفتي الديار المصرية، في 26/11/1979،[10] فتوى، غاب عنها الحق، بل اختفى فيها الدين، وانبرت خطاب دعاية مبتذلة، وإشادة بـ”حكمة الرئيس، وصحة رأيه، وسداد خطاه”، واستُخدمت نصوص الدين، في غير موضعها! والعجيب أن جاد الحق قد تحدى السلطات المصرية، وهو في منصبه، في مسألة فرعية متواضعة، وهي إلزام المجندين بحلق اللحية! أما في قضية مصيرية للأمة، فقد خرجت الفتوى، بشكل لا يتفق مع تعاليم الإسلام، وتنظر إلى الواقع بعين السيد الرئيس، ما يُذكِّرنا بالمثل الشائع: “يستبيحون قتل الحسين (رضي الله عنه)، ويستفتون في قتل الذبابة”!
ومما تضمنته فتوى تجميل الوجه القبيح للتطبيع الآتي:
1. نظرت الفتوى للإسلام بعين واحدة، حين ضخَّمت، بلغة دعوية، من جانب “السّلم، والإخاء في الإسلام، وأنه دين سلام، ومهادنة، وصفاء، وسكينة”. وتحدثت، في حشو ليس بمكانه، عن “وجوب الدعوة إلى الله، بالمنطق، والعقل”! مسرفةً في عرض القواعد العامة في التعايش السلمي، مع “أهل الكتاب”، والتأكيد على أن الإسلام “أمر المؤمنين بالامتناع عن القتال، إذا لم تكن هناك ضرورة”؛ وكأن تحرير أرض العرب، والمسلمين من يد العدو الصهيوني، يتحدد بـ”أسلوب الدعوة إلى الله”؟! وهل يتجلى موضوع العداء مع الصهاينة، في كونهم “أهل كتاب”؟! وهذا مؤسِّس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشيخ أحمد ياسين، الذي أكد، غير مرة، بأنه “لو احتل فلسطين مسلمون، لقاتلناهم”.
لذا، فقد قصَّرت فتوى جاد الحق في إبراز الصورة الشاملة للإسلام، والذي أمر بالإعداد للقتال، وامتلاك أسباب القوة، والأمر بالجهاد، والصمود أمام العدو في المعركة، وإنزال أكبر الخسائر، والأضرار به، بل السبق بالتهديد بالحرب، حال توافُرِ ما يؤكد استعداد العدو للقتال، وهذا جزءٌ متمِّمٌ لصورة الإسلام، جنباً إلى جنب مع مبادئه السمحة، وتوجيهاته في قبول الآخر، والتعايش معه بسلم، ما دام الآخر لم يناصبنا العداء.
2. اختارت الفتوى تفسيرات النصوص القرآنية، بانتقائية لافتة، لتأكيد وجهة النظر التي يراها الشيخ جاد الحق، أو التي أرادها السيد الرئيس، واستخدم الشيخ جاد الحق في فتواه صيغة “لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ”، حيث استخدم آية “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِج إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” إطلاقاً، دون عرض إجماع الفقهاء على تقييدها، برؤية مصلحة المسلمين في ذلك، أخذاً بقوله تعالى “فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ”، كما ورد في فتوى الشيخ حسن مأمون، مفتي الديار المصرية الأسبق، التي أصدرها في 8/1/1956،[14] بما يؤكد أن فتوى الشيخ جاد الحق صدرت دعماً، وتأكيداً لأحكام مسبقة؛ كما أن الشيخ جاد الحق، استشهد بآية في غير موضعها، حيث يقول الله تعالى: “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا”، وكأن “السّلم” مؤنث، بينما تعود “لها” إلى “القوة”، المذكورة في الآية السابقة عليها، “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ…”؛ أي أن “القوة” هي أول مؤنث مذكور قبل “لها”.
3. تضمَّنت الفتوى أحداثاً من السيرة، والتاريخ الإسلامي، وأنزلتها منزلة الدليل الشرعي، في حين أنها أحداث لا تمتّ بصلة، أو شَبَه، مع القضية المستَفْتَى عليها، كالحديث عن العلاقات الاقتصادية للنبي صلى الله عليه وسلم، مع يهود المدينة، والمعاهدة معهم على التشارك، في مواجهة أي اعتداءٍ، على الرغم من أن هذه المعاهدة لا تتفق مع واقع الأحداث، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن في حالة حرب مع اليهود، عند هجرته إلى المدينة، ولم يكونوا قد اغتصبوا أرضه، وقتلوا أهله. كذا استدلوا بـ”صلح الحديبية”، الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، كدليل شرعي على جواز الاتفاق، دون الأخذ في الاعتبار “فارق لا بدّ من رعايته، وهو أن مكة كانت بلداً مشتركاً بين المؤمنين والمشركين، ووطناً لهم أجمعين، بخلاف أرض فلسطين، فإنها مِلكٌ للمسلمين، وليس لليهود فيها حكمٌ، ولا دولة”، وذلك حسب ما أوردت لجنة الفتوى بالأزهر، في فتواها، بعنوان “الصلح مع إسرائيل لا يجوز شرعاً، والتعاون مع الدول المؤازرة لها لا يجوز شرعاً”، سنة 1956، ونحن نحارب الصهاينة، لأنهم احتلوا أرض العروبة، والإسلام، واغتصبوا حقوق أهلها، ضاربين عرض الحائط، بالحد الأدنى من حقوق الإنسان، ومستهترين بكل قرارات الأمم المتحدة United Nations، التي وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني، ودانت الصهيونية، وكيانها.
4. تحدثت فتوى جاد الحق بلغة كهنوتية، لا تتوافق مع ما هو مستقر في أصول الإفتاء، من أن الفتوى تمثل اجتهاداً لعالِمٍ، أو مؤسسة شرعية (مَجمَع فقهي)، فاستخدمت كلمات، مثل “هذا حُكم الله، أنزله إلينا”، و”ذلك حكم الإسلام في التعاهد، والمصالحة”، وحملت نقداً لاذعاً، واتهامات مجحفة، لمن انتقد معاهدات الإذعان من العلماء، ورأتهم قد تحدثوا “بما ليس حكماً لله تعالى، ولا لرسوله، وبما ليس نصحاً لله، ولا لرسوله، ولا لأئمة المسلمين، وعامتهم؛ إرضاءً للساسة، الذين لا يحتكمون إلى الله ورسوله”! ووصف جاد الحق العلماء المعارضين للتطبيع، بقول الله تعالى: “بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ”!
5. أسرفت الفتوى في إطراء الرئيس السادات، وامتداحه، وتغنَّت بحكمته، ورجاحة عقله، واستعرضت ما عدَّته “نظراته الثاقبة، الواعية للأمور السياسية، بأبعادها، الدولية والإقليمية”! ما خرج بالفتوى عن دورها الشرعي، في استبيان الأحكام الشرعية.
6. ساقت الفتوى قراءة مقتضبة مخلَّة لمعالم الصراع العربي – الصهيوني، حين قال جاد الحق: “وها نحن العرب قد اختلفنا مع اليهود، وقامت الحرب بيننا سنوات، ثم قامت لهم دولة، اعترف بها المجتمع الدولي”. وقد شملت تلك القراءة اعترافاً بدولة الكيان، ومن ثمَّ، تسليماً باحتلالها للأراضي العربية، فماذا تبقى في الصراع، بعد اعتراف المفتي بقيام دولة الكيان الصهيوني، على الأرض العربية المغتصَبة؟!
7. خرجت فتوى جاد الحق، مشتملةً على جملة من التناقضات، سيقت في طيِّها أحكام، ومبادئ، لا تتماشى مع روح الإسلام، ولا تتوافق مع القواعد الأصولية، في الإفتاء، والتي تستلزم الإلمام بالمسألة المستَفتَى عنها، ودراسة أبعادها، وفهم النصوص، والأدلة، في إطار المقاصد الكُلية للشريعة الإسلامية، مع إدراك مآلات الأمور، ونتائجها؛ فتحدثت الفتوى عن حروب عدة، خاضها العدو معنا، وما تلاها من توقيع معاهدات، واتفاقات هدنة، لم يلتزم بها الكيان الصهيوني! بما يهدم، في طياته، لبَّ الفتوى، وفحواها، إلا أن المفتي تغافل عن ذلك كله، بل أسرف في عرض وجوب الالتزام بنصوص الاتفاق، وتحريم مخالفته.
كذا، استعرضت الفتوى، في لغة اعتزاز، وفخر، نصر أكتوبر، وما حققه من خسائر في صفوف العدو، ثم عرضت، بعد ذلك، “إلى جواز قبول بعض الضيْم”، إن كان فيه مصلحة للأمة! فكيف انتصرنا في حرب أكتوبر 1973، ثم يكون علينا أن نتحمل الضيْم؟ وعن أي ضيْمٍ يتحدث فضيلة الشيخ جاد الحق؟!
8. رفعت الفتوى من شأن الاتفاقيات الموقَّعة إلى مكانة، جعلت مجرد الغضَّ من شأنها، أمراً محرَّماً، “لا يليق بمسلم، لأنه بخسٌ للحق” وهذا عسف، وقمعٌ للرأي الآخر، لا يليق بفتوى عالم أن تشتمله.
9. على الرغم مما ساقته الفتوى، تحت عنوان “أُسس المعاهدات في الإسلام”، واختصرته في ثلاثة شروط، فإن الشيخ جاد الحق لم يسعَ إلى قياس تلك الشروط على نصوص الاتفاقيات الموقَّعة، وملحقاتها، ولم يناقش مدى قُرب، أو بُعد تلك الاتفاقيات من شروط، وأُسس التعاهد في الإسلام، بل ساق جملاً إنشائية، فضفاضةً، ليؤكد ما هو مقرَّر سابقاً، بأن الاتفاقيات تتوافق وأحكام الإسلام، فقال: “إذا عرضنا اتفاقية السلام، بين مصر، و(إسرائيل)، على قواعد الإسلام، التى أصَّلها القرآن، وفصَّلتها السُنَّة، وبيَّنها فقهاء المذاهب جميعاً، على نحو ما أجملنا الإشارة إليه، نجد أنها قد انطوت تحت لواء أحكام الإسلام”! مستطرداً، بأنه “حين نستعرض نصوص اتفاقية السلام، وملحقاتها، وعرضها على القرآن، والسُنَّة، لا نجد فيها ما ينأى بها عن أحكامهما، إذ لم يتضيَّع حقاً، وما أقرَّت احتلال أرض”!
10. تغافل المفتي عن كوْن “معاهدة السلام” جرت، وأسباب عداء الأمة للصهاينة لم تنتهِ، حيث ما يزالون يغتصبون الأرض، ويقتلون أبناءها، ويهدمون منازلهم.
على الرغم من عدم إعلان الشيخ جاد الحق تراجعه عن تلك الفتوى، لاحقاً، فإنه، قد أصدر بيانات تنديد، وفتاوى، دعت المسلمين لحماية المسجد الأقصى، حين صار جاد الحق شيخاً للجامع الأزهر، ومع تصاعد أحداث العنف الصهيوني، ضدّ أصحاب الأرض، الفلسطينيين، وفي سنة توقيع اتفاق أوسلو Oslo Accords (1993)، بين الكيان الصهيوني وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، رفض الشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر، وقتها، استقبال الرئيس الصهيوني عيزر وايزمان Ezer Weizman، في أثناء زيارته للقاهرة، كما أعلن الشيخ جاد الحق رفضه لزيارة القدس، وهي تحت الاحتلال الصهيوني، حيث صرح بـ”إن من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم، آثم. والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجُّه إلى القدس، حتى تتطهر من دنَس المغتصبين اليهود، وتعود إلى أهلها مطمئنة، يرتفع فيها ذِكر الله، والنداء إلى الصلوات، وعلى كل مسلم أن يعمل، بكل جهده، من أجل تحرير القدس، ومسجدها الأسير”.
لم يخرج الشيخ محمد متولي الشعراوي، في فتواه المؤيدة للتطبيع، وتوقيع “معاهدة السلام” مع الكيان الصهيوني، عما سبق أن طرحه جاد الحق في فتواه، فقد استند الشعراوي إلى أن قبول الكيان الصهيوني لمبادرة السادات، هو بمثابة جنوحٌ للسّلم، مما يوجب على المسلمين التعاطي مع ذلك، بالإيجاب! ومضى الشعراوي في الدفاع عن فتواه، بعد مرور عقد من الزمان، ليؤكد أن سبب تأييده هو “أننا، أي المصريين، منذ عام 1948 غرقى، وهناك من يتفرج علينا، فقط، فلم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بل على العكس، كل عام في النازل أكثر”. وهل كان الشيخ الشعراوي يجهل بأن الدول العربية إنما خاضت حروبها ضدّ الكيان الصهيوني، وعياً منها بأنها تقاتل من أجل قضيتها هي، وليست بديلاً عن الشعب الفلسطيني، لأننا أمام قضية واحدة، وأمة واحدة، في مواجهة عدوٍ واحد، حيث كان مكشوفاً للقاصي، والداني، بأن الأطماع الصهيونية هي “من النيل إلى الفرات”، وإن اتسعت، بمساعدة المطبِّعين من حكام العرب، حتى صارت “من المحيط إلى الخليج”!
وقال الشعراوي، عن رأيه في قرار السادات، بتوقيع المعاهدة مع دولة الكيان: “يكفي أننا، الآن، نحاول أن نصل إلى ما كان يفعله، فلا نستطيع، فكل أمنيتهم ]الفلسطينيين]، الآن، أن يجلسوا مع اليهود… والسادات قد حقق لهم هذا، من زمان، في مباحثاته في مينا هاوس. ويكفي أن ياسر عرفات يقول، الآن: يا ريت اللي كان أيام السادات يحصل دلوقتي”؛ ولا ندري أين قال عرفات ذلك، ويبدو أن الشيخ الشعراوي لم يطلع على مذكرات إلياهو بن أليسار Eliyahu Ben-Elissar،ا[22] الذي تولى رئاسة اللجنة الفنية المرافقة لبيغن، في محادثات فندق مينا هاوس Mena House، وقد نشرت هذه المذكرات يومية صهيونية،[23] وفيها ذكر بن أليسار بأنه، حين ركب الطائرة مع الوفد الصهيوني إلى مصر، أفهم أعضاء هذا الوفد، بأن مهمتهم الأولى هي جذب أكبر عدد ممكن من الدول العربية إلى محادثات مينا هاوس. وبعد أن وصل إلى الفندق المذكور، أتى إليه أحد أعضاء الوفد الصهيوني، وهمس في أذنه، فأرغى بن أليسار وأزبد؛ ما جعل نظيره المصري، عصمت عبد المجيد، يتصل به، هاتفياً، ويسأله عن سرّ غضبه، فيرد عليه بن أليسار بأنه عثر على عَلَم منظمة التحرير الفلسطينية، على مائدة المحادثات؛ ردّ عليه عبد المجيد، من فوره: “إرفع هذا العَلم، وما شئت من الأعلام العربية عن الطاولة”. ما يعني أن منظمة التحرير لم تكن مدعوة، ولو افترضنا بأن أياً من الفلسطينيين حضر، وادعى تمثيل الشعب الفلسطيني في هذه المحادثات، فإن السادات لا يملك ضماناً لرد الحقوق الوطنية الفلسطينية إلى أصحابها، بل كان كل ما يأمله هو أن يَسحب البساط الفلسطيني من تحت أقدام الأنظمة العربية، التي قاطعت السادات، وعاقبت نظام حكمه، على ما اقترفه رئيس هذا النظام، وذلك في حال حضور أي فلسطيني هذا اللقاء.
الموجة الثانية:
امتدت تلك الموجة من الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987، وحتى وأد “الربيع العربي” سنة 2013، وقد شهدت تلك الموجة مزيداً من السقوط، إلى هاوية التطبيع مع العدو الصهيوني، في فتاوى بعض العلماء، والدعاة، وكأن مصلحة العدو، هي الغاية المرجوة.
1. المسار الفلسطيني (أوسلو):
جاءت انتفاضة الحجارة في 8/12/1987، من مخيم جباليا، بقطاع غزة، ومن ثمَّ إلى أنحاء شتى من قطاع غزة، فالضفة الغربية، وكان لهذه الانتفاضة أصداء واسعة ومؤثِّرة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وقد تزامنت الانتفاضة مع أحداث إقليمية ودولية، أذِنت بتغييرات جذرية في مسار الأحداث في فلسطين، بعد أن كانت قد شهدت فترة من الركود، منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد، و”معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية”، حتى إنه قد انعقد مؤتمر القمة العربية الطارئة في 8/11/1987، في عَمَّان، وقد تصدرت الحرب العراقية – الإيرانية جدول أعمال المؤتمر، بدلاً من القضية الفلسطينية، التي نُوقشت بصورة فرعية، وفي إطار البحث عن حلٍّ للمشكلة، بوسيلة سياسية! فلم يرد في قرارات المؤتمر أي ذكر لا لدولة فلسطينية، ولا لحق تقرير المصير، ولا حتى لتمثيل مستقل لـ”منظمة التحرير الفلسطينية”؛ ما يُظهر اعتبار القادة العرب، أن الخطر الرئيسي على العالم العربي، هو إيران وليس “إسرائيل”! ومن بين قرارات المؤتمر قرار بـ”إعادة النظر في العلاقات الاقتصادية، والتجارية، بين الدول العربية، والدول التي تزود إيران بالأسلحة”، في حين أنهى المؤتمر المقاطعة الديبلوماسية والاقتصادية لمصر، التي تمت على إثر توقيع الأخيرة “معاهدة السلام” مع الكيان الصهيوني؛ ما عدّه الكيان الصهيوني خطوة “ستجشع كل الدول العربية على عقد اتفاقات سلام مع (إسرائيل)”، وقد وصف شمعون بيريز Shimon Peres، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية للكيان الصهيوني حينها، الحدث بقوله: “ليست مصر التي عادت إلى العالم العربي، وإنما العالم العربي هو الذي عاد إلى مصر”!
تمثَّلت الرؤية الصهيونية لمسار الأحداث، أن “فرصة سانحة” تلوح في الأفق، لتحقيق تقدم في مسار التطبيع، من خلال البوابة الفلسطينية، حيث توافقت الرغبة الصهيونية وأُمنيات القيادة المتنفِّذة في منظمة التحرير الفلسطينية، آنذاك، في استثمار الأحداث، للحصول على مكاسب سياسية، وهي [تلك القيادة] التي أسرفت في تقديم نفسها، على الساحة الدولية، على أنها الشرطي الوحيد، القادر على وأد هذا “الشَغَب”(أي الانتفاضة)، وإعادة الاستقرار، أملاً في أن يقع على تلك القيادة الاختيار، لتقود تسوية سياسية مع الكيان الصهيوني، وهو الحلم الذي راود عرفات وفريقه منذ 1968. متغافلين عن أن الصهيونية تتعامل مع مَن تواجههم من العرب—فلسطينيين، وغير فلسطينيين—بمعادلة صفرية (إما هم، وإما نحن)؛ ما يعني أن الصهيونية، وكيانها لا يملكان إلا مشروع تصفية للقضية الفلسطينية، وما أبعد التصفية عن التسوية.
كان لزاماً على عرفات، أولاً، أن يقترب بالبيت الفلسطيني من مثلث القبول الصهيوني، فدفع مستشاره، بسام أبو شريف، لينشر رسالة، في حزيران/ يونيو 1988، داعياً فيها إلى “السلام”، والتعايش مع الكيان الصهيوني، ثمَّ عرض عرفات برنامجاً فلسطينياً جديداً، على المجلس الوطني الفلسطيني الـ 19 (الجزائر، 12-15 /1988/11)، ضمَّنه اعتراف المنظمة بقرار التقسيم، الصادر عن الأمم المتحدة (رقم 181، في 29/11/1947)، والقرار 242، الصادر عن مجلس الأمن (في 22/11/1967)، ثمّ وقَّع عرفات على “وثيقة ستوكهولمStockholm Declaration “، في 7/12/1988، والتي تضمنت اعترافاً صريحاً بالكيان الصهيوني، وبقراريْ مجلس الأمن 242 و338، و”نبذ الإرهاب” (أي المقاومة المسلحة)، وكان المقابل لذلك، أن سُمح لعرفات بأن يُلقي خطابه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة General Assembly of the United Nations، في جنيف، في 14/12/1988، بعد أن رفضت السلطات الأمريكية السماح له بدخول نيويورك، حيث المقر الرئيسي للأمم المتحدة.
أعلن الرئيس الأمريكي، جورج بوش George W. Bush، في خطابه، أمام الكونجرس Congress، في 6/3/1991، عن “مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط” Madrid Conference، بقوله: “آن الأوان لإنهاء النزاع في الشرق الأوسط، على أساس قراريْ مجلس الأمن الدولي 242 و338، ومبدأ (الانسحاب مقابل السلام)، الذي ينبغي أن يوفر الأمن، والاعتراف بـ(إسرائيل)، واحترام الحقوق المشروعة للفلسطينيين”.[27] وبدأت جلسات المؤتمر، في مدريد، في 30/10/1991، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي (قبل انفراط عقده، بنحو شهرين)، وبحضور أوروبي، وشارك، من الجانب العربي، كل من، مصر، وسورية، والأردن، ولبنان، والمغرب، وتونس، والجزائر، ودول مجلس التعاون الخليجي الستّ، وفرض الكيان الصهيوني شروطه على المؤتمر، فتمَّ استبعاد المشاركة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واكتُفي بمشاركة ممثّلين فلسطينيين، ضمن الوفد الأردني،[28] بعد موافقة “إسرائيل” عليهم، فرداً فرداً، وعلى ألا يكون أياً منهم على علاقة بمنظمة التحرير، أو يُقيم في القدس!
تتابعت اللقاءات السرية، بعد ذلك، بين ممثلين لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وممثلين للكيان الصهيوني، كلها على قاعدة واحدة، مفادها، كلما هبط سقف المطالب الفلسطينية، كلما ارتفع مستوى التمثيل الصهيوني في الاجتماعات، حتى بلغ المنتهى، بتوقيع محمود عباس، عضو مركزية فتح، وتنفيذية منظمة التحرير، وشمعون بيريز Shimon Peres، وزير الخارجية الصهيوني، على إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي (اتفاق أوسلو)، في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في 13/9/1993، متضمناً اعترافاً رسمياً من منظمة التحرير بالكيان الصهيوني، وإغفال حقّ العودة، وقضية القدس، كما حمَّل الاتفاق الجانب الفلسطيني التزامات أمنية، مفادها حماية أمن الكيان، ووأد الانتفاضة، والتصدي للمقاومة.
بعد أن تمّ التوقيع على اتفاق أوسلو، أعلنت كل فصائل المقاومة الفلسطينية معارضتها لاتفاق الإذعان هذا، وإن لم تتعدَّ هذه المعارضة حدود الألفاظ، عدا حماس، حيث أرسل رأس هذه الحركة، الشيخ أحمد ياسين، من محبسه الصهيوني، رسالةً، دان فيها اتفاق أوسلو، وندَّد به، سياسياً، ووجَّه ياسين خطابه إلى عرفات، قائلًا: “الذي لا يستطيع الزواج، لا يحل له الزنا!”، بينما كان للناطق الرسمي باسم حماس، آنذاك، إبراهيم غوشه، اتجاه آخر في نقد الاتفاق؛ مندداً بالقيادات المنتفعة، التي تتخذ قرارات مصيرية، “تصبُّ في مصلحة العدو الصهيوني المحتل، وتهدف إلى تدمير قضيتنا”؛ واتهم غوشة ياسر عرفات، وفريقه، بالعمل على تدمير مؤسسات منظمة التحرير، “تمهيداً لتمرير اتفاق الخيانة، والتفريط… وهو ليس إلا إدارة ذاتية هزيلة، على أقل من 2% من أرض فلسطين”. وحذَّر غوشه من أن يؤدي هذا الاتفاق إلى تنفيذ سياسة الترحيل الجماعي (الترانسفير)، والأخطر “كونفدرالية (إسرائيلية) فلسطينية… ومناطه تحويل الفلسسطينيين إلى سماسرة للاحتلال، من أجل اختراق المنطقة، والشعوب العربية”؛ ودمغ غوشه عرفات، وفريقه بأنهم “وضعوا أنفسهم في خندق واحد مع العدو المحتل… وما عادوا يمثلون إلا أنفسهم، ومصالح الأعداء”. وبعد بيان طويل، ذكر غوشه، في البند الـ 11 من أُسس موقف حماس من اتفاق أوسلو: “نطالب علماء الأمة أن يقولوا كلمتهم الفاصلة”.
2. المسار الأردني (وادي عربة):
نتج عن مؤتمر مدريد، أن بدأ التحرك الديبلوماسي على المسار الأردني – الصهيوني، سراً، إلى أن تمخَّض عن التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 25/7/1994، ثم توقيع “معاهدة سلام” بين الطرفين، في 26/10/1994، المتضمنة الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، وترسيم حدودها مع الأردن، والتطبيع معها، في كل المجالات.
اقتربت بعض الدول العربية من مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ وذلك بفتح مكاتب “تمثيل المصالح التجارية” للكيان الصهيوني، في تلك الدول، ومن خلال الزيارات الرسمية المتبادلة.
***
دعماً لاتفاقات تلك الموجة من التطبيع، كرّرت بعض الرموز الدينية، الفتوى السابقة ذاتها، بمضامينها، واستشهاداتها، دون مناقشةٍ لمآلات كامب ديفيد، وما تحقق من نتائج، وقياسها بميزان المصالح، والمفاسد، بل توقفت الفتاوى عند حدّ رصِّ الأدلة الشرعية، من نصوص، وآراء فقهية، وعبثاً حاولوا إلباسها ثوباً شرعياً، وإنزال مخرجاتها في منزلة الأحكام القطعية، ولأن تلك الحقبة، قد شهدت هرولة عربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتوقيع على صيغ تفاهم، ونتيجة لعجز الرموز الدينية القُطرِية عن تحقيق تقدم ملموس، نحو القبول الشعبي للتطبيع مع الصهاينة، نظراً لعمق الشعور العربي، والإسلامي، الرافض لأي تعاون مع الكيان الصهيوني، وكذا لقوة الصوت الشرعي المقاوم للاحتلال، فاندفع المطبَّعون لطلب الدعم من رموز دينية، لها ثقلها، على مستوى الوطن العربي، والعالم الإسلامي.
أعلن مفتي المملكة العربية السعودية، عبد العزيز بن باز، رأيه الفقهي في الاتفاقات الموقَّعة مع الكيان الصهيوني، في ردّه على أسئلة، وُجِّهت له، ونشرتها صحيفة “المسلمون” السعودية، في عددها رقم 516، في 23/12/1994، وقد أثارت فتواه جدلاً كبيراً على الساحة العربية، لما احتوته من غموض، ما استدعى أن ينشر الشيخ بن باز توضيحاً لما أفتى به، في الصحيفة ذاتها، العدد 520، في 20/1/1995، ثم انبرى الشيخ، ليعقِّب على ردّ فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي عليه.
في الجزء الأول من الحوار، أجاز بن باز “الهدنة مع الأعداء، مطلقة ومؤقتة، إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك”؛ مستنداً في رأيه إلى الدليل ذاته الذي استند إليه الشيخ جاد الحق في فتواه، على إطلاقه، ودون تقييد، وهو قول الله سبحانه: “وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”،[32] كذلك صلح الحديبية. كما أكد بن باز على وجوب طاعة الأمير، واستعرض أدلة على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى من أميره شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “على المرء السمع والطاعة، فيما أحب، وكره، في المنشط، والمكره، ما لم يُؤمر بمعصية الله”. أما عن زيارة المسجد الأقصى بتأشيرة من العدو الصهيوني، أجاب الشيخ بن باز بـ: “زيارة المسجد الأقصى، والصلاة فيه، سُنَّة إذا تيسَّر ذلك”؛ مستدلاً، في رأيه، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى”! وفي الختام، طرح المحاور السؤال: “يختلف الفلسطينيون في مواقفهم من عملية السلام: فحماس تعارض، وتدعو للمقاومة، والسلطة الفلسطينية موافقة، وأغلب الشارع، كما يبدو مع السلطة، فمَن تلزم الناس طاعته؟ وما هو موقفنا نحن في الخارج؟… نرجو بيان الحق؛ لأن هناك أخطاراً بأن ينشب القتال بين الفلسطينيين أنفسهم؟” فأجاب فضيلة الشيخ، بـ” ننصح الفلسطينيين جميعاً بأن يتفقوا على الصلح… وإرغاماً للأعداء الذين يدعون إلى الفرقة والاختلاف”.
أما الجزء الثاني من الحوار، فقد أشار بن باز فيه إلى أن “الصلح مع اليهود، أو غيرهم من الكفرة، لا يلزم منه، مودتهم، ولا موالاتهم، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين، وكفّ بعضهم عن إيذاء البعض الآخر، وغير ذلك، كالبيع والشراء، وتبادل السفراء… وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة، ولا موالاتهم”! وهو إقرار بأن الاتفاقيات الموقعة مع الكيان يترتب عليها التطبيع معه. كذلك نفى فضيلة الشيخ بأن تكون تلك الاتفاقيات قد “أقرَّت العدو على ما اقتطعه من أرض المسلمين في فلسطين”، بالرغم من أن الاتفاقيات قد تضمَّنت اعترافاً رسمياً من الجانب العربي، بدولة الكيان، وترسيم الحدود معها؛ ثم طرح المحاور سؤاله: “هل يجوز، بناء على الهدنة مع العدو اليهودي، تمكينه بما يسمى بمعاهدات التطبيع، من الاستفادة من الدول الإسلامية، اقتصادياً، وغير ذلك من المجالات، بما يعود عليه بالمنافع العظيمة، ويزيد من قوته وتفوُّقه، وتمكينه في البلاد الإسلامية المغتصَبة، وأن على المسلمين أن يفتحوا أسواقهم لبيع بضائعه، وأنه يجب عليهم تأسيس مؤسسات اقتصادية، كالبنوك، والشركات، يشترك اليهود فيها مع المسلمين، وأنه يجب أن يشتركوا كذلك في مصادر المياه؛ كالنيل، والفرات، وإن لم يكن جارياً، في أرض فلسطين؟”
فتضمَّنت إجابة بن باز: “لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية، وبين اليهود، ما ذكره السائل، بالنسبة إلى بقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود، في تبادل السفراء، والبيع والشراء، وغير ذلك من المعاملات، التي يُجيزها شرع الله المطهر، فلا بأس في ذلك. وإن رأت أن المصلحة لها، ولشعبها، مقاطعة اليهود، فعلت ما تقتضيه المصلحة الشرعية، وهكذا بقية الدول الكافرة حكمها حكم اليهود في ذلك!”
ولم يخرج تعقيب الشيخ بن باز على ردّ الدكتور يوسف القرضاوي عن حدود ما ورد في أجزاء الحوار.
بهذا، نجد في الفتوى الآتي:
1. لم تخرج الفتوى عن كونها رَصاً لنصوصٍ، وأحكام شرعية، دون التماس التقارب بينها، وبين الواقع المحكوم عليه بتلك النصوص، أو ما اصطُلِح عليه، فقهياً، بـ”تحقيق المناط”، وهو الخلل الرئيسي في تلك الفتوى، نتيجة تغاضي المفتي عن التاريخ الأسود للممارسات الإجرامية الصهيونية، في حقّ الشعب الفلسطيني، وشعوب دول الطوْق، والتغاضي عن بنود الاتفاقيات محل الرأي؛ ما انتحى بالفتوى، عن الحق المراد الوصول إليه، ويظهر ذلك جلياً، في ردّه على سؤال حُكم زيارة المسجد الأقصى، وهو تحت الاحتلال الصهيوني، المعقود معه تلك الاتفاقيات، حيث كانت إجابة الشيخ بـ “زيارة المسجد الأقصى، والصلاة فيه، سُنَّة، إذا تيسَّر ذلك”؛ ودليله في فتواه قول النبي صلى الله عليه وسلم:”لا تُشد الرحال، إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى”! فلم يتطرق إلى واقع أن الذهاب للمسجد الأقصى لا يتم إلا بتأشيرة من الكيان الصهيوني، لذا، لم يُناقش المصلحة المحققة للأمة من زيارة الأقصى تحت الاحتلال، ومقابلتها بما يلحق هذا الحدث من مفاسد، والترجيح بينهما، كما هو مستقر في فقه الإفتاء، علماً بأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب إلينا زيارة الأقصى، بينما كان هذا المسجد يرزح تحت نير الاحتلال الصهيوني، فكيف لهذا الحديث أن يكون الدليل الشرعي على جواز زيارة الأقصى، بتأشيرة دخول من العدو؟! وهل كان السؤال عن فضل الزيارة، أم حكمها، والأقصى قابع تحت الاحتلال؟!
الصدمة الأكبر كانت ختام فتوى بن باز، بتوجيهه نصيحة للفلسطينيين، المعارضين للاتفاق، والمطالبين باستمرار مقاومة المحتل الصهيوني، حتى تحرير الأرض، فقال: “ننصح الفلسطينيين جميعاً، بأن يتفقوا على الصلح، ويتعاونوا على البر، والتقوى، حقناً للدماء، وجمعاً للكلمة على الحق، وإرغاماً للأعداء الذين يدعون إلى الفرقة، والاختلاف”! وتغاضى الشيخ بن باز عن الحقوق الوطنية الفلسطينية المهدرة، والتي اغتصبها العدو الصهيوني.
2. تكفي مطالعة الأسئلة الصحفية، التي تمّ طرحها على الشيخ بن باز، لتُعرف الإجابة عليها، دون النظر إلى ردِّ الشيخ، فقد كانت صيغتها مكشوفة التوجيه، ومثال ذلك، السؤال الأول، والذي حرَّض على معارضي التطبيع، باتهامهم بـ”السعي لمواجهة الحكومات، التي تدعمه [التطبيع]، عن طريق الاغتيالات، أو ضرب الأهداف المدنية للأعداء”! مطالباً الشيخ بـ”بيان الحق، وكيف نتعامل مع هذا الواقع، بما يكفل سلامة الدين، وأهله”! وعلى ذلك سارت كل الأسئلة المطروحة على الشيخ، وكان الأوْلى أن يستبين الشيخ مدى صحة تلك الاتهامات، قبل أن يُجيب على ما طُرح عليه.
3. ألبست الفتوى ثوب القداسة لولي الأمر، بالتأكيد على “السمع، والطاعة لولي الأمر، في المنشط والمكره، والعُسر واليُسر، وعلى ألا ينزع المسلمون يداً من طاعة، إلا أن يروا كفراً بواحاً، عندهم من الله فيه برهان”، دون مجال لنقاش، أو إبداء رأي مع قرارات ولي الأمر، لاختفاء فرضية أن يكون رأيه قد جانب الصواب، أو أنه يعمل لصالح أعداء الوطن! كذا، لم تُحدِّد الفتوى، من أين حصل عرفات على لقب “ولي الأمر”؟! وأي شرعية منحته أن يمثل الشعب الفلسطيني؟! ومدى أحقية أن يوقِّع على الاتفاق، ويخرج على إجماع فصائل المقاومة الفلسطينية؟! حتى إن أعضاء اللجنة المركزية لفتح انقسموا مناصفة، بين القبول بالاتفاق ورفضه، (ثمانية، مقابل ثمانية)، ورجَّح وجود عرفات مع الأوائل، الموافقة عليه، باعتباره رئيساً لـحركة فتح، لكن يبقى الإجماع الفصائلي بالرفض، والإدانة.
***
تزامناً مع تعيين الشيخ محمد سيد طنطاوي، شيخاً للأزهر، في 27/3/1996، أقدم على تقليص المناهج الشرعية، في كافة المراحل التعليمية، بالأزهر الشريف، وتغيير محتواها، باستبعاد كافة الأحكام المرتبطة بفكرة الجهاد في الإسلام، والتركيز على أبعاد السماحة، والتعايش، وقبول الآخر، فحسب.
لم يكتفِ طنطاوي بذلك، بل استقبل في تشرين الأول/ أكتوبر 1997، سفير الكيان في مصر تسفي مازئيل Zvi Mazel، ومن بعده الحاخام يسرائيل لاو Yisrael Meir Lau، في سابقة لم يُقدِم عليها أي عالِم إسلامي، قبله، حيث رفضت الرموز الدينية الإسلامية، الإقدام على تلك الخطوة، على الرغم من طلب الكيان، أكثر من مرة، بناء جسور تواصل مع المؤسسات الدينية في مصر، ما وُوجِه بانتقادات لاذعة، في أرجاء الوطن العربي، والعالم الإسلامي، لما للأزهر من مكانة في نفوس الشعوب العربية، والإسلامية، فاتجه المفكر الإسلامي، الدكتور محمد سليم العوا، إلى “مجمع البحوث الإسلامية”، لطلب إبراز الحكم الشرعي حول هذا الحدث، وعرض، في رسالة له، الأسئلة الواجب على المجمع الإجابة عنها، حول اللقاء. فأصدر المجمع بياناً، بعد اجتماعه، في 25/12/1997، وفيه انبرى أعضاء المجمع دفاعاً عن شيخهم، وذكروا أن “الظروف التي تُحيط بالعرب، والمسلمين، الآن، تجعل مثل هذه المقابلات، أحيانًا، أمرًا أقرب إلى الوجوب الشرعي، لما تحققه من نفع للإسلام، والمسلمين، إذ فيها مواجهة للمخالفين في الدين، إحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل، ولبيان سماحة الإسلام”![35] وكأن الصهاينة قد انسحبوا من أرض العرب، والمسلمين، فور لقاءات طنطاوي المتكررة مع الصهاينة، وردوا الحقوق إلى أهلها! بل ظلّ التمدُّد الصهيوني، على أراضي فلسطين، وارتفعت وتيرة الاعتداءات الصهيونية على أصحاب الأرض الفلسطينية، إضافة إلى الاعتداءات الصهيونية المتكررة على الشعبيْن، اللبناني، والسوري، دون أن تردعهم لقاءات الشيخ طنطاوي مع الصهاينة!
توغَّل الشيخ طنطاوي في مساره التطبيعي، فأعلن فتواه في أيلول/ سبتمبر 2005 بأنه “لا يوجد في الدين الإسلامي ما يحرِّم التطبيع مع الدول الأخرى، خاصة إسرائيل، طالما كان التطبيع في غير الدين، وفي المجالات التي تخدم شؤون الحياة، واحتياجاتها”! دون ذكر دليله على تلك الفتوى.
تكراراً لمشهد ممارسة التطبيع، وفي أثناء فعاليات مؤتمر “حوار الأديان”، الذي نظمته الأمم المتحدة، والمملكة العربية السعودية، بنيويورك، في 12/11/2008، صافح الشيخ طنطاوي، رئيس الكيان الصهيوني، شمعون بيريز، وتبادل معه الحديث، وقد هزَّت الصورة الفوتوجرافية للمصافحة، بعد تداولها بوسائل الإعلام، ما تبقى من مكانةٍ لشيخ الأزهر في نفوس الشعوب العربية، والإسلامية، ثم جلسا سوياً على المنصة، في مؤتمر حوار الأديان، في 1-2 /2009/7. وانبرى الشيخ يدافع عن نفسه، لاحقاً، في مداخلة متلفزة، مع الإعلامي المصري، عمرو الليثي، وادعى بأنه لم يكن يعرف مَنْ هذا الشخص، قائلاً: “واحد قابلني في السكة، سلمت عليه، فيها إيه ده”؟! ثم قال: “وافرض إني أعرفه، فيها إيه؟! هو من دولة احنا معترفين بيها، ومن شهريْن كان هنا، وقعد مع الرئيس”؟! وبسؤال الشيخ طنطاوي عن تعليقه على حصار الصهاينة لغزة، أجاب: “أنا لا أعرف أن هناك حصار على غزة، وهل دِه شُغلتي أنا”! ثم تناقض كلامه، عندما قال: “هذا الحصار منذ شهور، إحنا مالنا”؟! وتعليقاً على مطالبة البعض له بالاعتذار عن تلك الصورة، ردّ قائلاً: “هؤلاء أحقر من أن أرد عليهم”!.
تزامناً مع “انتفاضة الأقصى”، وبعد عجز الكيان الصهيوني عن مواجهة العمليات الاستشهادية، التي حصدت أرواح العشرات من المستوطنين المحتلين لأرض فلسطين، خرج شيخ الأزهر، محمد سيد طنطاوي، ليعلن أن هذه العمليات هي انتحار،[39] ورأى أنها تستهدف مدنيين، حرَّم الإسلام قتلهم،[40] ولأنه قد أجازها، في السابق، فعالج هذا التناقض بأن حصر إجازة تلك العمليات، حال يتم التفجير في “عدو جاء لقتل شخص، أو للاعتداء على البلد، أما من يفجِّر نفسه في سوق، أو في حافلة، أو سيارة [سواء] حدثت هذه العمليات في إسرائيل، أو في العراق، أو في مصر، أو… فهي انتحار”! بينما لطالما كرَّر قادة الصهاينة بأن شعب “إسرائيل” هو جيشها. وثمَّة باحثون عرب كُثُر سلّموا بأن “إسرائيل جيش له شعب”.
وجَّه وزير الأوقاف المصري، حمدي زقزوق، نداءً للمسلمين، في نيسان/ أبريل 2009، في ندوة “القدس من المنظور الإسلامي”، قائلاً: “إنني أدعو كل المسلمين، في الوقت الراهن، لزيارة القدس، حتى ولو بتأشيرات قوات الاحتلال الإسرائيلية”، وذلك بدعوى “حماية المدينة المقدسة”، وأن هذا لا يُعَدُّ من باب التطبيع! ولا ندري لماذا لم تصدر “فتواه هذه”، في أثناء حالة الحرب بين مصر، والكيان الصهيوني؟! وبعد أعوام رأينا الداعية اليمني، الحبيب علي الجفري، والدكتور علي جُمعة، مفتي الديار المصرية، يحققان حلم زقزوق، ويقومان، كلٌ على انفراد، بزيارة المدينة المقدسة، بتأشيرة دخول من قبل حكومة العدو الصهيوني، في نيسان/ أبريل 2012، وادعى الجفري أن ذلك قد تمّ “عملاً بقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الْأَقْصَى”، وشوقاً إلى القبلة الأولى، ومسرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم”، وأن هذه الزيارة تأتي “نصرةً له، ودفاعاً عن قضيته، وتأييداً لأهله، المرابطين في وجه غطرسة الصهاينة، وانتهاكاتهم، ومخططاتهم لتهويد القدس، وطمس هويّتها العربية الإسلامية”! وأكد جمعة أن الزيارة تمت “بصفة شخصية، وأنها لا تُعتبر تطبيعاً”، وأنها كانت تحت إشراف كامل للسلطات الأردنية، ولم يحصل على تأشيرة من دولة العدو. بينما فضح الإعلام الصهيوني مغالطة جمعة، حيث قالت إذاعة الجيش الصهيوني “إنها علمت، من خلال مصادرها، أن زيارة مفتي مصر للقدس، جاءت بالتنسيق مع وزارة الدفاع الإسرائيلية، وبصحبة قوات الجيش الإسرائيلي، لتأمينه من أي هجمات، قد تحدث له [الشيخ جمعة] من كتائب شهداء الأقصى، الرافضة للتعامل مع إسرائيل”. وعن خطّ سير الزيارة، قالت الإذاعة العسكرية في الكيان الصهيوني: “وصل المفتي من عَمّان، عن طريق جسر اللنبي، يرافقه الأمير غازي، مستشار ملك الأردن، ثم تولت سلطات الجيش الإسرائيلي تأمينهم بوحدات عسكرية خاصة”. ولمن يدعي أن هذه الزيارة نصرةً للأقصى، ولأهله المرابطين، نسأل: هل وفَّر الصهاينة حراسة قوية لكل من الجفري، وجمعة، وسَمَحوا لهما بزيارة الأماكن المقدسة، في وقت كان المحتل الصهيوني قد حظر على شيخ المسجد الأقصى، الشيخ عكرمة صبري، دخول المسجد، لمدة ستة أشهر، هل هذا كله، فعله الصهاينة، لمعاونة جمعة، والجفري، في نصرة الأقصى، وأهله المرابطين؟!
هو جُمعة نفسه، الذي حاضر في المعهد الأمريكي للسلام US Institute of Peace، في 14/6/2013، قائلاً: “الصورة الذهنية، القائمة في أذهان الناس، أن إسرائيل تظلم الفلسطينيين…”، وقال جمعة أن الصهيونية “لا تبذل مجهوداً في الشرق الأوسط لتصحيح هذه الصورة الذهنية”! وأردف: “فالصورة القائمة، التي نتجت من سكوت اليهود، ومن سكوت إسرائيل، ومن سكوت الصهيونية، هي أن الصهيونية حركة نازية، وأن الهولوكوست [holocaust] يتم، الآن، بتفاصيله في فلسطين… هل تريد من الشعب أن يقف مع النازية؟!”، واستطرد، موجهاً نصحه للعدو الصهيوني، قائلاً: “عليكم عبء، وهو أن تُوجِّهوا الإعلام، اللي بتمتلكوه في العالم كله، لتصحيح تلك الصورة”!
الموجة الثالثة:
شهدت الساحة العربية بعد اغتيال “الربيع العربي”، تغيّرات جذرية، عصفت بكثير من “التابوهات السياسية”، التي لطالما احتمت وراءها حكومات عربية، أمام الضغوط الأمريكية، بشأن العلاقة مع الكيان الصهيوني، ما دفع الكيان الصهيوني إلى استثمار تلك الحقبة، لتحقيق قفزات نحو القبول العربي بدولة الكيان، نظراً لحالة الهزيمة النفسية، التي عمَّت الشعوب العربية، بعد انكسار الحلم نحو غدٍ أفضل، ومع حملات القمع غير المسبوقة، في أغلب الدول العربية، ونتيجة لحالة الانبطاح الكلي لدى حكومات عربية، والقبول بكل ما تحلم به “ماما أمريكا”.
1. ترامب واعظاً ونتنياهو مبتهلاً:
وقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump يخطب من قلب الجزيرة العربية، مهد الإسلام، في 21/5/2017، بحضور ممثلين لـ 55 دولة إسلامية، يُملِي عليهم ما يتوجب فعله لمحاربة “التطرف، والإرهاب”! وأن “المهمة الأولى، في هذا الجهد المشترك، هي أن تحرم أممكم [الإسلامية]، جنود الشر من الأراضي. ويجب على كل دولة في المنطقة أن تضمن ألا يجد الإرهابيون ملاذاً آمناً فيها”! ومن ثم “يجب علينا، أيضاً، تجريدهم من إمكانية حصولهم على الأموال”! وحدَّد ترامب للحضور الهدف الرئيسي، وهو تكوين “تحالف الأمم التي تشترك في هدف القضاء على التطرُّف”؛ مما يعني “مواجهة أزمة التطرف الإسلامي، والجماعات الإسلامية الإرهابية. وهذا يعني الوقوف معاً ضدّ قتل الأبرياء المسلمين، وقمع النساء، واضطهاد اليهود، وذبح المسيحيين”. ثم وجَّه ترامب أوامره، إلى علماء الدين، قائلاً: “يجب على القادة الدينيين أن يُوَضِّحوا أن البربرية لن تجلب لك أي مجد—تبجيل الشر لن يجلب لك أي كرامة. إذا اخترت مسار الإرهاب، ستكون حياتك فارغة، ستكون حياتك قصيرة، وستكون روحك مدانة”! مع ملاحظة أن ما يصفه ترامب بـ”الإرهاب”، والتطرُّف، ما هي إلا المقاومة المشروعة للمحتل، الذي تحميه الإمبريالية العالمية.
تجلَّت الرؤية الصهيونية، في تلك المرحلة، في تجاوز المسار الفلسطيني، كمدخل لإحلال السلام، وتحقيق تقدم في مسار التطبيع مع الدول العربية، خلافاً لما تبنَّاه إسحاق رابين Yitzhak Rabin ورفاقه، من قبل؛ فتحركت الديبلوماسية الصهيونية نحو تكوين “شراكات”، إقليمية ودولية، حتى تكون المدخل لإخضاع الفلسطينيين للإملاءات الصهيونية، ومن ثمَّ، تتحقق للكيان الصهيوني المركزية في المنطقة، بما يضمن أمنه وتقدمه؛ وأعلن بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، من فوق منصة الأمم المتحدة، في 27/9/2017، عن تغيُّر جذري في مكانة “إسرائيل” بين الأمم، “فبعد مضي 70 عاماً، العالم يحتضن إسرائيل، وإسرائيل تحتضن العالم”! متحدثاً عن تدشين علاقات جديدة، مع دول متناثرة بين ستّ قارات، وبعد نحو عام، تحدث نتنياهو، من على المنصَّة نفسها، عن التقارب الصهيوني مع بعض الدول العربية، “ففي أعقاب التعاظم الإيراني، قرُبَت الصفقة بين إسرائيل، وعدد أكبر، من أي وقت مضى، من الدول العربية، والتي تكون أقرب إلى بعضها البعض، لتشهد صداقة، لم أشاهد مثلها في حياتي، قط، واستحال تخيُّلها، قبل عدة سنوات”! متابعاً قوله: “إن إسرائيل تُقَدِّر، تقديراً عالياً، لعلاقات الصداقة الجديدة تلك، وآمل أننا نقترب من بلوغ اليوم، حيث تستطيع إسرائيل عنده إحلال سلام رسمي، مع جيرانها العرب، إضافة لمصر، والأردن، ومن بينهم الفلسطينيون، أيضاً”! وفي حزيران/ يونيو 2017، أعلن نتنياهو، في أثناء مؤتمر صحفي، في غرب إفريقيا، “أن الكثير من الدول العربية لم تعد ترى إسرائيل عدوّاً لها، حتى إنني سأقول إنهم يرون في إسرائيل حليفاً لهم، حليفهم الذي لا غنى عنه، في حربهم ضدّ الإرهاب، واغتنام مستقبل التكنولوجيا، والابتكار”.
2. دول الخليج العربي:
جاء “اتفاق أبراهام Abraham Accords”، الذي تمّ توقيعه في البيت الأبيض، بين الإمارات والبحرين والكيان الصهيوني، في 15/9/2020، ضمن سياقات التحوُّلات التي تشهدها المنطقة العربية، في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”، وفي إطار الاستراتيجية الصهيونية، الرامية إلى ترسيخ شرعية وجودها، في محيطها الإقليمي، متجاوزاً أُطر “معاهدات السلام” والتطبيع السابقة، في كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، لتأسيس “تحالف استراتيجي شامل”؛ وقد كان التطبيع سابقاً للاتفاق؛ فقد ظهرت، خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2018، مجموعة من المؤشِّرات على تغيرات استراتيجية، في موقف بعض دول الخليج من الكيان الصهيوني، تمثَّل أبرزها في زيارة وزيرة الثقافة والرياضة الصهيونية، ميري ريغف Miri Regev، دولة الإمارات العربية المتحدة، لحضور مباريات جودو دولية، وتجوَّلت في مسجد الشيخ زايد بأبو ظبي، وكذا حضور أيوب قرا Ayoob Kara، وزير الاتصالات الصهيوني، مؤتمراً حول الاتصالات في دبي. جاءت تلك الزيارات، بعد سلسلة طويلة من الانفراجات في علاقات دول الخليج مع الكيان الصهيوني، سواء على صعيد المشاركة في التدريبات، والمناورات العسكرية، والمنافسات الرياضية إلى جانب الكيان الصهيوني، أم على صعيد العلاج لبعض الأثرياء العرب في دولة الكيان، وتصدير المواد الزراعية واستيرادها من وإلى الكيان. أما البحرين، فقد اتجهت نحو التطبيع مع الكيان، على المستوى الرسمي، حيث قام الأمير، مبارك آل خليفه، نائب رئيس مجلس الوزراء البحريني، بزيارة الكيان الصهيوني، في شباط/ فبراير 2018، ووُجِّهت الدعوة لوزير الاقتصاد الصهيوني، إيلي كوهين Eli Cohen، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، لزيارة البحرين، وحضور مؤتمر دولي.
اقتربت بعض دول مجلس التعاون الخليجي، من مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني، على مستوى الزيارات الديبلوماسية، بمستويات متعددة، وعلى مستوى التعاون في مجالات الأمن والتبادل التجاري، دون إعلان اتفاق بين الطرفيْن.
دانت فصائل المقاومة إقدام حكام الإمارات والبحرين، على توقيع ذلك الاتفاق المخزي، وعدّت حركة الجهاد الإسلامي تلك الخطوة “طعنة في ظهر الفلسطينيين”. وقال القيادي بالجهاد، خضر عدنان، إن “الاتفاق الإماراتي، مع محتلي فلسطين، طعنة لشعبنا، وقدسنا، وأقصانا. ستبقى فلسطين كاشفة العورات، ترفع من ينصرها، وتُسقط من يخذلها”. ودان المسؤول نفسه “الصمت العربي، والإسلامي عن هذه الاتفاقات، والارتماء في حضن الصهيوني المجرم المحتل، شراكة في خذلان فلسطين، وشعبنا. من لم ينصر فلسطين، يوماً، برصاصة، ليخجل من نفسه، وهو يصف خضوعه لأراذل الخلق، وشذَّاذ الآفاق، بأنه اتفاق سلام، وكأنه حارب لأجل فلسطين”.
كذا، أكدت حركة حماس أن تلك الخطوة الغادرة جاءت “تتويجاً لمسار العلاقات المشبوهة، بين حكام دولة الإمارات العربية، وقادة الحركة الصهيونية، في الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، والذي ظهرت معالمه، في أكثر من محطة، كان منها مشاركتهم، ومباركتهم للإعلان عن خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة بصفقة القرن”. وهي تشكل “اعتداءً صارخاً على حقوقنا الدينية، والقومية، والوطنية، والتاريخية، في فلسطين”، و”خروجاً عن التوافق العربي والإسلامي، وضرباً للأمن القومي العربي، وتحدياً لإرادة شعوب الأمة، العربية والإسلامية، وقواها الحيَّة، المتمسكة بفلسطين، ومقدساتها الإسلامية، والمسيحية”. ورأت حماس أن “كل ما يترتب على هذه الاتفاقات، لا يُمثل شعبنا وأمتنا، والرد عليه سيكون بالمزيد من الوحدة الفلسطينية، ومواجهة الاحتلال، وعزله، وتفعيل كل أدوات المقاومة، لطرد الاحتلال”.
أما حزب الله، فقد وصف أمينه العام، السيد حسن نصر الله، تلك الخطوات بـ”المنكر الأكبر”، وقال: “نحن لم نتفاجأ بما قام به بعض حكام دولة الإمارات، فهو مسار طبيعي، يسيرون فيه منذ فترة؛ فالتطبيع موجود، وقائم، بالفعل، منذ فترة، ولكن الإعلان عن توقيع الاتفاق، هو حاجة أمريكية، بالدرجة الأولى”. ورأى السيد نصر الله أن توقيت الإعلان عن الاتفاق “يؤكد كيف أن بعض الأنظمة العربية هم خَدَم عند الإدارة الأمريكية، فما أقدمت عليه دولة الإمارات، هو خدمة انتخابية سياسية للرئيس ترامب، لتحقيق أي إنجاز، على مستوى السياسة الخارجية، بعد فشله المتتابع، خارجياً؛ وأيضاً خدمة لنتنياهو، المأزوم في الكيان”، حيث عدَّه السيد نصر الله في أضعف حالاته، على مدى تاريخه السياسي؛ واستطرد السيد نصر الله، قائلاً: “كما أراد ترامب أن يحقق نجاحاً اقتصادياً سابقاً، وأنجز ذلك، من خلال حلب بعض الأنظمة العربية الخليجية، مالياً، فهو، أيضاً، يريد أن يحقق نجاحاً، على مستوى السياسة الخارجية، من خلال حلب الأنظمة العربية، سياسياً”؛ ورأى نصر الله من أقدموا على تلك الخطوة “ضعاف، ولا لوْن لهم، ولا طعم، ولا رائحة”، وأن “عاصفة صغيرة، من هنا أو هناك، يمكن أن تزلزل عروشهم”. وذكر الأمين العام لحزب الله أن أولئك الحكام، بالرغم من تصريحاتهم العلنية، المعادية لإيران، واعتبارها العدو الحقيقي، فإنهم “خلف الستار، يسعون للاتصال مع إيران، وطمأنتها، وإقامة علاقات معها، ويتمنون أن يصلوا، في وقت يكون لهم علاقات جيدة مع إسرائيل، وعلاقات جيدة مع إيران، أيضاً”. وعلَّق السيد نصر الله، في ختام كلمته، على تطبيع بعض الدول الخليجية مع العدو الصهيوني: “إن الواجب الإنساني، والديني، والشرعي، والجهادي، والأخلاقي، والوطني، والقومي، يُحتِّم علينا أن نقف، ونقول إن هذا عمل مدان، ومرفوض، وهذا خيانة للإسلام، وخيانة للعروبة، وخيانة للأمة، وخيانة للقدس، وللشعب الفلسطيني، وللمقدسات، هذا، كما يقول الفلسطينيون، خطوة غادرة، وطعنة في الظهر”، موجهاً كلمة للشعب الفلسطيني المظلوم، والمغدور، وللشعوب العربية، والإسلامية، التي لم تزل في قلب القضية، وحركات المقاومة: “علينا أن نغضب في قلوبنا، ولكن لا نحزن، لأن سقوط الأقنعة شيء جيد، ولأن من السُنن الإلهية، التاريخية، والاجتماعية، الحاكمة في التاريخ، والمجتمعات، وهذا الأمر واضح في القرآن الكريم، فإن جبهة الحق، عندما يُقدِّر الله تعالى لها أن تقترب من الانتصار، عليها أن تُلقي بأثقالها، يجب أن يتم الفرز فيها، يجب أن يخرج منها الكذابون، والمنافقون، والمتآمرون، والخدَّاعون، والطاعنون في الظهر”.
مختتماً: “فكما أننا نرى فيه جانب المنكر، يجب أن نقول أيضاً: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ”.
كما دانت جماعة الإخوان المسلمين بمصر، اتفاق الإمارات على تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”، معتبرةً الاتفاق “خيانة للقضية الفلسطينية”، و”سقوطاً في مستنقع التطبيع المشؤوم”، وأوضح بيان الجماعة أن “حصاد التطبيع، الذي جنته الأنظمة العربية، التي خاضت غماره، على امتداد السنوات الماضية، هو حصاد بائس، وقد جرَّ عليها الفشل، والخراب، والتبعية، وأسقطها في دوامة لم تستطع الفكاك منها، حتى الآن”. وشددت الجماعة على موقفها المبدئي، الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، مؤكدة أن “فلسطين، وفي القلب منها القدس والمسجد الأقصى، أمانة في عنق كل مسلم، وأن تحريرها مسؤولية كل المسلمين، وكل الأحرار حول العالم”. أما حركة النهضة التونسية، فقد عدت الاتفاق “اعتداءً صارخاً على حقوق الشعب الفلسطيني، وخروجاً على الإجماع العربي، والإسلامي، الرسمي والشعبي، ووقوفاً مع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني”. ودعت الحركة “الدبلوماسية التونسية، المنحازة للقضية الفلسطينية، إلى اتخاذ موقف واضح، ضدّ هذه الخطوة الخطيرة، ومضاعفة الجهود لدعم الموقف الفلسطيني، في كل المحافل، العربية والدولية، والتصدي لكل مشاريع التفريط في الحق الفلسطيني”.
علَّق الشيخ كمال الخطيب، نائب رئيس الحركة الإسلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948، على “اتفاق أبراهام”، بإشارته إلى أن “للإمارات، وإسرائيل علاقات سرية مشبوهة، منذ سنوات، وجاء الإعلان عنها، الآن”. وأكد أن “توقيت الإعلان عن الاتفاق، اختاره ترامب، ونتنياهو (رئيس وزراء الاحتلال)، وليس الإمارات”. واختتم كلمته: “شعبنا على العهد، وفيٌ، لن يُساوم، هذه القدس، هذا الأقصى، هذه فلسطين، من خَدَمها هو الذي نال الشرف، ومن طعنها وغدر بها، هو من وضع لنفسه موقعاً في خانة الذل، والعار، والهوان”.
أعربت رابطة علماء فلسطين، في قطاع غزة، عن أسفها، حيال اتفاق تطبيع الإمارات مع “إسرائيل”، ورأت أن “ما فعلته الإمارات مخالفة شرعية واضحة، قد تفضي إلى موالاة الكافرين”، وأردفت: “نعتبر أن هذا اليوم، هو يوم حزين في تاريخ قضيتنا، وعلاقتنا الداخلية”. ورفض الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين اتفاق نتنياهو – بن زايد، ووصفه بـ”الخيانة العظمى”، وأنه “اعتراف ضمني بحق إسرائيل في بسط سيادتها على الضفة”، وناشد الاتحاد “الأمة الإسلامية، بأن يكون لها موقف حاسم، من هذه التنازلات، بالرفض، والشجب، والعمل على الحفاظ على قضيتنا الأولى، وعلى حقوق الفلسطينيين بالكامل، من خلال خطة استراتيجية”؛ مؤكداً “بأن على الأمة أن لا تضعف عزيمتها، بمثل هذه الخيانات، التي هي غثاء، كغثاء السيل، فالحق هو الذي يبقى، وينتصر”.[63] ثم أصدر الاتحاد “فتوى علماء الأمة بتحريم الصلح والتطبيع مع محتلي الأقصى والقدس وفلسطين”، في 6/9/2020، في ختام مؤتمره “هذا بلاغ من علماء المسلمين”، لبيان حكم “التطبيع مع محتلي المسجد الأقصى، والقدس الشريف، وفلسطين المحتلة”، في 30/8/2020، حيث ناقش بنوده العلماء الحاضرون، ووقَّع على الفتوى مئات العلماء.
في 13/9/2020، صدر “بيان علماء الأمة حول تطبيع البحرين”، حاملاً توقيع 28 هيئة إسلامية، من كل الأقطار العربية، والإسلامية، ورأى العلماء، في البيان: “أن هذه الاتفاقيّة، التي أبرمها النّظام الحاكم في مملكة البحرين، خيانةٌ لله تعالى ولرسوله ولعامة المسلمين، وللمقدّسات، ولدماء الشّهداء وتضحياتهم؛ وهي لن تحمي المطبِّعين، ولن تحفظ لهم عروشهم، ولا حكمهم”، وأردف البيان: “إن من التّلبيس الباطل، والكذب الصريح، أن يتمّ التّذرُّع لاتّفاقات التطبيع الخيانيّة هذه، أنّها تجلب النّفع للقضيّة الفلسطينيّة”، وحذَّر بيان العلماء “نظامَ الحكم في البحرين من مآلات هذا الاتّفاق التّطبيعيّ على البحرين نفسها، وعلى القضية الفلسطينية، وعلى الأمّة برمتها؛ فالعدوّ الصهيونيّ يجب أن يبقى عدوّاً، وتحويله إلى حليفٍ سيكون وبالاً ونكالاً عليهم، في الدنيا، وخزياً لهم في الآخرة”.
3. المغرب:
أما المغرب، فمنذ عهد الملك الحسن الثاني، وسار على هديه الملك محمد السادس، قد احتلت العلاقة مع الكيان الصهيوني موقعاً مركزياً في استراتيجية المغرب الخارجية، حتى بعد تخفيض المغرب لمستوى التمثيل الديبلوماسي في العلاقة بين البلديْن، غداة اندلاع “انتفاضة الأقصى”، في الضفة والقطاع (أواخر سنة 2000)،[66] وفي 10/12/2020، أعلن العاهل المغربي، محمد السادس، استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية، والعلاقات الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني، “في أقرب الآجال”، مقابل مجرد اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء الغربية!
في إشارة إلى تأييده لقرار حكومته بالتطبيع مع الكيان، أكد سعد الدين العثماني، رئيس الوزراء المغربي، والأمين العام لحزب العدالة والتنمية: “لا نريد أن تكون هناك مقايضة بقضية الصحراء، لكن الانتصار في هذه المعركة اقتضت الضرورة أن يتزامن مع الانفتاح على الآخر”، في إشارة للتطبيع مع الكيان الصهيوني. مبرراً ذلك، بضرورة إتمام تلك المقايضة، لفرض السيادة المغربية على الصحراء، حيث إنه “إذا كان [المغرب] غارقاً في هذه المعركة [أزمة الصحراء]، ولم يستكمل وحدته، سيكون عاجزاً أن يقوم بما كان يريد أن يقوم به، بجانب الفلسطينيين”!
عدَّت حركة حماس: “توقيع رئيس الحكومة المغربية الإعلان المشترك لتطبيع العلاقات مع العدو، وتأييد الأمانة العامَّة لحزب العدالة والتنمية لهذه الخطوة، خروجاً عن مبادئ الحزب، وأدبياته الدَّاعمة، والمؤيّدة لفلسطين، وشعبها المقاوم، وكسراً لموقف التيار الإسلامي، المُجمِع على رفض التطبيع مع الاحتلال”، وأكدت الحركة “أن تحقيق المصالح للدول الإسلامية، لا يمكن القبول بأن يكون على حساب قضية الشعب الفلسطيني، فلا يستقيم الادِّعاء بالوقوف مع الشعب الفلسطيني، مع إقامة علاقات، وشراكات مع عدوّ الشعب الفلسطيني، والذي يمعنن يوميًا، في إجرامه، وإرهابه، ضد أرضه، ومقدساته”. كما وضع حزب الله ولوج المغرب في علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني، “في سياق السقوط المتتالي، الذي بدأته بعض الدول العربية، تنفيذًا للرغبات الأمريكية، والإسرائيلية، في شطب القضية الفلسطينية، وتصفية مفاعيلها”، وإن “خضوع هذه الأنظمة لسياسة الابتزاز، الأمريكية والصهيونية، طمعاً في تحقيق مكاسب هنا، أو إلغاء عقوبات هناك، ليست سوى أوهام، وسراب، لن يجني المطبِّعون منها شيئاً، وسيكتشفون سريعاً أنهم لم يحصدوا إلا الخيبة، وأن بلادهم أصبحت مكشوفة أمام العدو الإسرائيلي، ومؤامراته الخطرة”، معتبراً الحزب أن “الرهان الحقيقي هو على الشعب المغربي الحر، الذي قاوم الاستعمار الفرنسي، لسنوات طوال، وعلى جميع شعوب أمتنا الشريفة، الرافضة لكل أشكال التطبيع، والتي ستُسقِط كل الاتفاقيات الخيانية، وستكون سنداً قوياً للشعب الفلسطيني المقاوم، الذي لم تهزُّه كل اتفاقات الذل، والعار، وسيُتابع جهاده، حتى تحقيق النصر، والتحرير الكامل”. وعن حركة الجهاد الإسلامي، صرَّح داود شهاب، بأن اتفاق تطبيع العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني، هو “سياسة استعمارية بثوب جديد، و”انتكاسة جديدة للنظام العربي”، وأن “الشعب المغربي، وقواه السياسية سترفض التطبيع”.
أصدرت جماعة العدل والإحسان المغربية، بياناً، أعلنت فيه إدانتها “إدانة شديدة قرار التطبيع، الذي اتخذته السلطة المغربية مع الكيان الصهيوني، الغاصب لأرض فلسطين”، حيث إنه “يتنافى مع المواقف التاريخية، والآنية، لهذا الشعب الكريم (المغربي)، الداعم لإخوانه في فلسطين، ولحقهم الكامل، في تحرير أرضهم، والعودة إلى ديارهم”، كما اعتبرتها “خطوة غير محسوبة العواقب”. وأكدت الجماعة أنها ترفض “مقايضة أي شبر من فلسطين، مقابل الاعتراف بسيادتنا على أراضينا”. وعلَّق البيان على تلك الخطوة، بـأنها “سقوط للأقنعة، وكشف للحقائق”.
كذا، أعلنت جماعة الإخوان المسلمين المصرية “رفض كافة محاولات، ومسارات التطبيع، مع الكيان الصهيوني، تحت أي مسمى، بصرف النظر عمَّن يقوم بها، أو ينخرط فيها، والتي تسهم في تقنين الاحتلال، وسلب الحق الفلسطيني، مهما جاءت الادعاءات بخلاف ذلك”. كما أزال البيان اللبس، حول موقفها من قبول حزب العدالة والتنمية المغربي، بتأكيدهم “استمرار موقفهم الداعم لقضية الشعب الفلسطيني العادلة، ومساندته في تحرير أرضه، وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف”، وأن هذا الموقف ينطلق من “احترامها لمبادئ الحق والعدل، ورفض احتلال أراضي الغير، بالقوة، ودعم استقلال الشعوب، وحريتها في إقامة الدولة المستقلة على أرضها، تلك المبادئ التي تؤكدها الشرعية، والمواثيق الدولية، وتنادي بها قيم الإسلام الحنيف، وكافة الشرائع السماوية”.
وصف راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، ورئيس مجلس النواب التونسي، الاتفاق الصهيوني – المغربي بأنه: “خروج على الإجماع العربي”. وقال، بلغة هادئة نسبياً: “نحن صدمنا من هذه الخطوة، التي خرجت عن الإجماع العربي، بما عبرت عنه (المبادرة العربية)”. وأكد أن الأمر غير مطروح في تونس، لأن: “لدينا إجماع وطني، رسمي وشعبي، على رفض ذلك، وعلى دعم حقوق الشعب الفلسطيني، التي أقرها مبدأ الأخوة العربية، والإسلامية، وحتى القانون الدولي”.
أما الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فقد أعرب عن “رفضه، وإدانته لهذه الخطوة، التي لا تجوز، شرعاً، ولا تتناسب مع مكانة المغرب، الذي يرأس “لجنة القدس الشريف”، بل وتتنافى مع مواقف الشعب المغربي، المساندة، دوماً، للشعب الفلسطيني، والمناهضة لكل أشكال الاحتلال، والاغتصاب، والعدوان، والإجرام، التي يمارسها، ويتمادى فيها الكيان الصهيوني، الذي لا تزيده هذه المبادرات التطبيعية إلا تعنتاً، واستكباراً، وعدواناً”. وأشار الاتحاد إلى “بطلان كل اعتراف بدولة الاحتلال، أو بشيء من اغتصابها لأرض فلسطين، وحقوقِ شعبها، وعلى رأسها، تحرير المسجد الأقصى المبارك؛ ويؤكد تمسكه بكافة ثوابت القضية الفلسطينية، مهما كثر المطبِّعون والمفَرِّطون”.
4. السودان:
اتخذت علاقة السودان مع الكيان الصهيوني صورة الموجات، فقد فتحت قنوات اتصال، أول مرة، بعد استقلال السودان (1956)، ثم كان الانقطاع، بعد انقلاب 1958، الذي قاده الفريق إبراهيم عبود، وفي عهد النميري (1969–1989) عادت الاتصالات مع الصهاينة، مرة أخرى، ثمَّ شهدت العلاقة توتُّراً بين الطرفيْن، خلال فترة حكم البشير (1989-2020)، لاتهام السودان بدعم المقاومة الفلسطينيية بالسلاح، إلا أن البشير غيَّر سياسته، وانضم إلى معسكر “مصر – الإمارات”، وبدأ بفتح قنوات اتصال مع الكيان الصهيوني، بالرغم مما قاله، في لقائه مع مشايخ الطرق الصوفية، في 3/1/2019، عن تلقيه نصائح بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، لكي ينصلح حال بلاده، معلقاً على ذلك بقوله: “لكننا نقول الأرزاق بيد الله”!
سادت حالة من الترقُّب، بعد تشكيل مجلس السيادة السوداني، في 21/8/2019، لمعرفة الوجهة التي سيتجه إليها المجلس، في علاقاته، وتحالفاته السياسية الدولية، حتى صدَّرت وكالات الأنباء العالمية نبأ “لقاء عنتيبي”، الذي تمّ بين بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، وعبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، في 3/2/2020، والذي اتفقا فيه على “بدء تعاون، يؤدي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين”.[79] وقد أعلنت قيادة الجيش السوداني، في 5/2/2020، دعمها لتحركات البرهان الدولية، “التي ترمي إلى تحقيق مصلحة البلاد”![80] وكانت السودان قد سمحت لشركة الطيران الصهيونية “العال El Al”، للتحليق في سماء السودان، وهو ما احتفى به نتنياهو، معلناً أن الكيان الصيهوني، الآن، في أوج عملية تطبيع مع الدول العربية، والإسلامية، وقال البرهان إن “أمام السودان فرصة لرفع اسم بلادهم من قائمة الإرهاب”![81] في وقت عرضت واشنطن، بالتعاون مع أبو ظبي وتل أبيب، مساعدات مالية على السودان، مقابل تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. وأكد محمد حمدان دقلو (حميدتي)، النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني، والرجل القوي في المجلس، أن “السودان في حاجة إلى إسرائيل”! وإنهم “ماضون في طريق بناء علاقات مع إسرائيل”! وقد أكد عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني، لمايك بومبيو Mike Pompeo، وزير الخارجية الأمريكي، في 25/8/2020 أن “حكومته لا تملك تفويضاً يتعدى مهام المرحلة الانتقالية، وأن التطبيع مع إسرائيل سيتم بحثه، بعد إكمال هياكل الحكم الانتقالي”. وسرعان ما تغلَّب رأي المكوِّن العسكري في المجلس، وتمّ التوقيع على اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، في 6/1/2021، حيث نشر حساب السفارة الأمريكية في الخرطوم، على تويتر، “نهنئ الحكومة الانتقالية المدنية، لتوقيعها، اليوم، على إعلان اتفاق أبراهام، الذي يساعد السودان في مسارها التحوُّلي إلى الاستقرار، والأمن، والفرص الاقتصادية”.
دان حزب الله: “السقوط السياسي، والأخلاقي، للسلطة الحاكمة في السودان، في مستنقع التطبيع مع العدو الإسرائيلي”، مؤكداً بأن “الشعب السوداني الشريف سوف يُسقط هذه السلطة، لإقدامها على خدمة العدو، مقابل أثمان بخسة”. وأشاد الحزب بـ”الفاعليات، والاحتجاجات، التي قام بها الشعب السوداني، وأحزابه، رفضاً للتطبيع مع العدو”؛ ورأى حزب الله: “انتهاج بعض الدول العربية سلوك الخيانة، والتطبيع مع العدو الصهيوني، لن يُؤثِّر على عزيمة الشعب الفلسطيني، ولا حركات المقاومة في المنطقة”.
عبَّرت حركة حماس، في بيان صحفي، عن “إدانتها، وغضبها، واشمئزازها، من تطبيع حكومة السودان المشين، والمهين الذي لا يليق بالسودان، شعباً، وتاريخاً، ومكانةً، ودوراً، كدولة عمق، داعمة لفلسطين، وقضيتها، ومقاومتها”؛ ودعت الشعب السوداني “لرفض هذا الاتفاق، الذي لن يجلب للسودان استقراراً، ولا انفراجاً، كما يدَّعون”، وإلى “محاربة كل أشكال التطبيع، وعدم القبول بأي علاقة مع هذا العدو المجرم”.
في الشأن ذاته، أكد عادل علي الله، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين بالسودان، أن التطبيع مع الكيان الصهيوني: “خيانة للقضية الفلسطينية”، وأن قيام حكومة السودان بتلك الخطوة “يُعد إهداراً لكرامة الشعب السوداني الأصيل ومقايضةً رخيصة للمبادئ، مقابل مصالح آنية، لا تُسمن، ولا تُغني من جوع، إن (وُجدت)؛ وابتزازاً مهيناً، واستفزازاً صريحاً لوجدان الشعب السوداني الأبي، وعقيدته المهيمنة”، وأضاف “لا نعترف بإسرائيل كدولة، بل هي احتلال، لذلك نعارض التطبيع معها، وضدّ التطبيع، إلى أن تحل قضية فلسطين، بشكل كامل”. كما شدَّد عادل علي الله: أن “القضية ليست قضية يهود وعرب، بل قضية احتلال لأرض، ليست لمَن قام بالاحتلال”، وأردف إن “السودان شعب اللاءات الثلاث: (لا صلح، لا اعتراف، ولا تفاوض مع إسرائيل، حتى يعود الحق لأصحابه)”، ورفض اعتبار التطبيع مساراً لحل الأزمة الاقتصادية، في السودان، مؤكداً أن السودان “يحتاج إلى تخطيط، وليس إلى تطبيع”، وأن “الطريق إلى رفع المعاناة عن الشعب السوداني الكريم لا يمر عبر تل أبيب”.
كما دعا “تيار نُصرة الشريعة ودولة القانون”، بالسودان، الذي يضم أحزاباً، وجماعات إسلامية متعددة، إلى مسيرات احتجاجية، رفضاً لمحاولات العلمنة، وإقصاء الشريعة، والتطبيع مع الكيان. وعن حزب المؤتمر الشعبي السوداني، صرَّح الأمين العام بالإنابة للحزب أن “تطبيع السودان مع الكيان الصهيوني يُحقق ما يريده الصهاينة، بتفكيك البلاد”. ورفض الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، وإمام “الأنصار”، ربط رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية لـ”الإرهاب” بالتطبيع، وعدَّه ابتزازاً مهيناً لكرامة الشعب السوداني.
على المستوى الشرعي، أصدر مجمع الفقه الإسلامي، بالسودان (29/9/2020)، فتوى، بإجماع هيئة أعضائه، “بتحريم التطبيع مع الصهاينة، في كافة المجالات، باعتباره مساندة للظلم، ومعاونة على الإثم، والعدوان، وقد نهى الإسلام عن ذلك”.[90] وأعلن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في 26/10/2020، تأييده لفتوى مجمع الفقه الإسلامي، في السودان، وعدَّ إقدام الحكومة السودانية المؤقتة، على التطبيع مع دولة الاحتلال والاغتصاب، “إهانة تاريخية، للشعب السوداني، الأبي الوفي، وخذلاناً للشعب الفلسطيني الشقيق”.[91]
***
قفز الدور الشرعي إلى الواجهة، مرة أخرى، بعلماء، ودعاة، سجلهم الإفتائي حافل بتراث داعم لممارسات الحكومات المتعاقبة، حيث كان الإفتاء، عندهم، إرضاءً للحاكم، وتأييداً لسياساته، وإن رفعوا، مؤخراً شعار “الإفتاء من أجل الأعداء”!
خرج مفتي السعودية، الشيخ عبد العزيز آل شيخ (2014)، برأي شرعي، يحرِّم فيه مساندة الشيعة (حزب الله)، في حربه ضدّ الكيان الصهيوني، وعدَّها أمراً خطيراً، لأن “معاونة غير المسلمين من نواقض الإسلام”! معطياً لنفسه الحق في توزيع صفة الإسلام، أو سحبها، من أي فرقة أراد. وبعدها، في كانون الأول/ ديسمبر 2017، حذَّر آل شيخ، الخطباء في المملكة من الحديث في الأمور السياسية، في خطبة الجمعة، ورأى أن “الخطبة جاءت لتذكير الناس، وموعظتهم، وتحذيرهم من غضب الله، وحثِّهم على طاعة الله، والمحافظة على الصلوات، وأداء الزكاة، والصوم، والحج، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، والصدق، والأمانة، والبعد عن الكذب، والخيانة، وعلاج مشكلات المجتمع، وفق الكتاب والسُنَّة”. وعدَّ آل الشيخ مخالفة ذلك، خروجاً عن غاية الجمعة، ومقاصدها!
في سابقة لافتة، دعا وزير الاتصالات الصهيوني، أيوب قرا، في 13/11/2017، مفتي السعودية، “لزيارة إسرائيل، ليحظى باستقبال حافل، واحترام”! وذلك تقديراً لفتواه “بحرمة قتل اليهود”، واعتباره “حماس تنظيم إرهابي، يضر الفلسطينيين”، وأن “التظاهرات من أجل الأقصى، غوغائية، وإنه يمكن التعاون مع الجيش الإسرائيلي، من أجل القضاء على حزب الله”! وعلى الرغم من عدم وجود أي بيان رسمي بالفتوى، فإنه لم يصدر أي نفي للفتوى، أو تعليق على دعوة وزير الاتصالات الصهيوني، من دار الإفتاء السعودية.
أسهب الشيخ السديس، إمام الحرم المكي، في أيلول/ سبتمبر 2017، في الحديث عن حاجة “الإنسانية إلى تحقيق الأمن، والسّلم الدولييْن، وإلى مكافحة الإرهاب [أي المقاومة] والتطرُّف، والطائفية”، ثم امتدح جهود العاهل السعودي، الملك سلمان، والرئيس الأمريكي، ترامب، “اللذان يقودان العالم إلى مرافئ الأمن، والسلام، والاستقرار، والرخاء”! والسؤال هنا، ما رأي مفتي السعودية في كلام السديس عن ترامب، وهو من رأى، في فتواه، أن معاونة غير المسلمين من نواقض الإسلام؟!
هاجم الداعية السعودي، أحمد بن سعيد القرني، الفلسطينيين، لبقائهم في فلسطين، ومقاومتهم الصهاينة، فقد دوَّن على حسابه على تويتر، في 14/7/2017، قائلاً: “مَنْ أعظم حرمة عند الله، دم المسلم الفلسطيني، أم المسجد الأقصى؟ اتقوا الله في دماء الناس، مَن قال إن الموت في سبيل الأقصى استشهاد“! ثم نادى أهل فلسطين أن “انتهجوا نهج رسول الله في فتح مكة، ولا تتبعوا قادتكم المغامرين بكم، فأنتم أصبحتم وقود هذه الحرب الخاسرة”! وطالب بدليل يقول إن على المسلمين أن يُقاتلوا الأعداء، وهم في حالة ضعف، حيث ذكر: “الشعوب هي الضحية، التي يسوقها الطغاة الى المذبح، هاتوا دليلاً من القرآن والسُنَّة يقول بقتال العدو، وأنتم في ضعف، وبدون عدة وعتاد”! وأردف: “لن يتخلى اليهود عن المسجد الأقصى، فهم مثل ثعلب جائع أمسك بجرادة. ولن يرسل العرب جيشاً لتحرير القدس، وما تفعله حماس تهلكة، ولم يأمر بها الله”! ثم أكد بأن “المسجد الأقصى مسجدُنا، وليس لليهود، ولن يعود إلا بأمر الله، ثم الاعتصام، وإعداد القوة، ومن رباط المدافع، والدبابات، وليس سكيناً، وحجراً”! وحدَّد الداعية “شروط عودة المسجد الأقصى، الاعتصام، والاجتماع، وإعداد القوة، وأنتم لا معتصمين، ولا متوحدين، ولا إعداد، ولا قوة، فعن أي تحرير تتحدثون”؟! وختم التدوينات، قائلاً: “لستم بأشرف من رسول الله، ولستم بأحب عند الله منه، ولو أراد أن يُهلك كفار قريش لكَفَت رفع يده إلى السماء، فاتبعوه وانظروا فعله”!
لم يكتفِ رجال الدين البحرينيين بمجرد الإفتاء، لدعم جريمة التطبيع، بل شاركوا في مهد الطريق، لتأسيس “التحالف الاستراتيجي” مع العدو الصهيوني، فبعد أيام من إعلان ترامب، رسمياً، اعتبار القدس عاصمة الكيان الصهيوني، في كانون الأول/ ديسمبر 2017، قام وفد بحريني، ضمن منظمة “هذه هي البحرين”، ضمّ رجال دين شيعة، بزيارة الكيان الصهيوني، بشكل رسميٍّ، في زيارة استمرت أربعة أيام، كما قاموا بزيارة القدس، والبلدة القديمة، وصرّح رجل الدين الشيعي في الوفد أن “الشيعة، الذين يشكلون الأغلبية في الدولة، التي يحكمها السُّنة، لا يسيئون النيَّة، تجاه أعضاء أي ديانات أخرى”! وقد احتفت وسائل الإعلام الصهيونية بالوفد الزائر، معتبرة الزيارة خطوة في طريق إنهاء المقاطعة العربية للكيان الصهيوني.
صمت أحمد الطيب، شيخ الأزهر، ورئيس مجلس الحكماء المسلمين، عن التعليق على موجة “الهجرة العربية إلى الكيان الصهيوني”، وما تمخَّضت عنه من “تحالفات”، صمتاً غير لائق، فالأزهر هو المنارة، التي تَشْخَص إليها أبصار المسلمين، في مثل تلك الأوقات، لمعرفة حكم الشرع في تلك الأحداث، وليس من عادته أن يمر حَدَث، يرتبط به المسلمون، إلا ويبادر بالتعليق عليه، وبيان الحكم الشرعي فيه، وإدانته، إن كان فيه ضررٌ على الأمة؛ لذا، فصمته لا يمكن النظر إليه، إلا أنه إقرار؛ وتدليل على ذلك، ما قام به الشيخ عباس شومان، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وأحد أبرز المتحدثين باسم الأزهر، في كثير من المناسبات، من هجوم على مفتي القدس، والديار الفلسطينية، الشيخ محمد حسين، الذي أفتى بحرمة زيارة الإماراتيين للقدس، وحرمة صلاتهم في المسجد الأقصى، لأن الزيارة تمت باتفاق يحمل علامات تطبيع مع الكيان. فعلق شومان، على ما قاله مفتي القدس، قائلاً: “أرفض إصدار فتاوى شرعية، لا تستند إلى أي مرتكزات، أو قواعد شرعية، ولا أعرف، بصفتي من المختصين في الفقه الإسلامي، مسوِّغاً للحكم بإبطال صلاة شعب دولة مسلمة، بكامله، في مسجد، من مساجد الله، اعتماداً على موقف سياسي، اتخذته دولته، وليس دفاعاً عن الإمارات، ولا تدخلاً في مواقفها السياسية، التي يقدرها قادتها، فإن الفتوى الصادرة انتقائية، وغير معتبرة شرعاً”! ورأى أن فتوى الشيخ محمد حسين “تتعارض مع الضغط القوي من القيادات في فلسطين، لإصدار فتاوى تطالب المسلمين كافة بزيارة الأقصى، والصلاة فيه”!
هلَّل مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي لما سماه “المسعى الإيجابي، والخطوة السديدة الموفَّقة، التي اتخذتها قيادتنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأدت إلى وقف تمدُّد السيادة الإسرائيلية على مناطق من الأراضي الفلسطينية”! وثمَّن المجلس، في بيان له، “حكمة صاحب السمو الشيخ، محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسعيه من أجل السلام العادل، والدائم، في منطقة الشرق الأوسط”؛ ورأى هذه المبادرة سبيلاً لـ”السلام” في المنطقة، مؤكداً “تأييد المجلس لكل ما تقوم به الدولة، لمصلحة البلاد، والعباد، باعتبار أن المصلحة هي المعيار الشرعي لتصرفات ولي الأمر، والذي هو، وحده، المقدِّر للمصلحة، والمحقِّق للمناط، فيما يتعلق بالحرب، والسلام، والعلاقات بين الأمم”؛ لذا “فإن المجلس يبارك ما تقوم به القيادة الرشيدة، لخير الوطن، والأمة”!
علَّق الشيخ عبد الله بن بيّه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء، على بيان المجلس، قائلاً: “إن هذه المبادرة هي من الصلاحيات الحصرية، والسيادية، لولي الأمر، شرعاً، ونظاماً”. وبيَّن بن بيّه “إن في الشريعة نماذج كثيرة، وأصولاً شرعية ناظمة، لمثل هذه القضايا، صلحاً، وسلاماً، وفقاً لما تقتضيه الظروف، والمصلحة العامة”! وأشاد الشيخ نفسه بمبادرة صاحب السمو، الشيخ محمد بن زايد، والتي تُضاف إلى السجل الحافل للدولة، في دعم القضايا العربية، والإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وجهودها المستمرة في دعم المصالحات، ونشر “السلام”، في مختلف بقاع العالم، داعياً الله تعالى السداد والتوفيق لكل خير، وأن يدفع عن بلدنا، وبلاد المسلمين، والعالم، شر الحروب، والأوبئة، وكل ما من شأنه أن يؤذي البشرية، ويؤدي إلى النزاعات، والخصومات العبثية.
خرج الداعية وسيم يوسف، على حسابه على تويتر، في 13/8/2020، ليقول: “نهنئ الإمارات وإسرائيل على هذا الإنجاز العظيم، ونسأل الله لحفظ سلام الأوطان”؛ مستشهداً بـ”فتوى الشيخ ابن باز في حكم التطبيع مع إسرائيل”، ودوَّن من الفتوى، ما نصُّه: “كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود، في تبادل السفراء، والبيع، والشراء، وغير ذلك من المعاملات، التي يُجِيزها شرع الله المطهَّر، فلا بأس في ذلك”! وعلّق يوسف، في 16/8/2020، على مقطع فيديو لفلسطينيين، في القدس، يدوسون بأحذيتهم على صورة لولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، بقوله: “أنتم لا تستحقون القدس، الحقيقة، إنكم بلا أخلاق، اليهود أشرف منكم”! وانتقد العرب الرافضين للتطبيع مع الكيان الصهيوني، في 16/9/2020، بقوله “إسرائيل لم تُدمِّر سورية، إسرائيل لم تحرق ليبيا، إسرائيل لم تُشتِّت شعب مصر، إسرائيل لم تحطم ليبيا، إسرائيل لم تُمزِّق لبنان، قبل أن تعيبوا إسرائيل، أنظروا إلى أنفسكم بالمرآة، يا عرب، فالعلة بكم”! وقد اقتبست الخارجية الصهيونية تلك التغريدة، معلِّقة عليها بـ”عندما تدرك الشعوب العربية هذه الحقائق، فالسلام قادم، قريباً، بإذن الله”!
أضاف الداعية يوسف المزيد من التدليس، في 25/9/2020، مغرِّداً على حسابه: “من أشراط الساعة انقلاب الموازين، مَن يريد السلام (متخاذل)، ومَن يريد (الدمار) شجاع، مَن يريد الأمان لوطنه (عميل)، ومَن يريد (الفتنة) مناضل، مَن يريد التعايش مع الأديان (مرتد)، ومَن يريد الطائفية (مجاهد)، مَن يريد الوسطية (منافق)، ومَن يريد التشدُّد (ثابت)”، ففاز يوسف بتعليقٍ من أفيخاي أدرعي Avichay Adraee، الناطق باسم الجيش الصهيوني، بقوله: “نسأل الله، سبحانه، الثبات على الحق”!
مضى الداعية يوسف في مسلكه للترويج للتطبيع، فنشر في 12/2/2021، على حسابه على تويتر، شريطاً مصوراً، وعلَّق: “أطفال من فلسطين يلعبون كرة القدم مع الجيش الإسرائيلي، كرة بلاستيكية ممتلئة بالهواء، جمعت لغتيْن، ودينيْن، وشعبيْن على أرض واحدة، ويأتي أصحاب الفكر المتطرِّف، المتشدِّد، يرون الموت للآخر، ويرفضون التعايش! ليتهم ككرة القدم! قيمة البلاستيك في وحدة القلوب أعظم من قيمة لحاهم للأسف”!
لحاقاً بالركب، دوَّن الداعية، الحبيب علي الجفري، على حسابه في فيسبوك Facebook،في 20/8/2020، تعليقاً على تطبيع الإمارات، فأكد أنه: “لا يخفى على من لديه مسكةٌ من علمٍ في الفقه، أن قرار عقد المعاهدات مع العدو، صلحاً كانت أو هدنةً، هو من مسائل السياسة الشرعية، التي أُنيطت بولي الأمر، وفق ما يظهر له من مصلحة عامة”! ثمَّ أتبع الجفري ذلك، بالتأكيد على ثقته “في دولة الإمارات، وإرادتها الخير”، وثقته “على وجه التحديد، في الشيخ محمد بن زايد، ثقة مبنية على معرفة عن قُرب، في المدة التي كنتُ فيها مقيماً في الإمارات، وأعلم، عن اطلاع، بجدية اهتمامه لأمر المسجد الأقصى الشريف”، مع دعوة الجفري ألا تكون تلك المعاهدة “ذريعة للتطبيع الشعبي مع العدو”! وجدَّد الجفري دعوته إلى المسلمين لـ”شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى”، فهي (عند الجفري) “سُنَّة نبوية ثابتة، مهجورة، طوبى لمن أحياها”!
على المنوال ذاته، ذهب الداعية عبد الله فدعق، إلى أن “من يفهم (ألف باء) الشرع يفهم أن فقه “السياسة الشرعية”، والذي يُسمى “السياسة العادلة”، يخوِّل ولي الأمر رعاية مصالح الناس، ومقاصد الشرع، وتقديم المصالح، والموازنة بينها، وبين المفاسد، وأنه قرار، وإجراء سياسي، جاء لتحقيق غايات نبيلة”! واصفاً الإمارات بالدولة “الشجاعة”، والتي “مارست كامل حقها السيادي، وربِحت، وصنعت، مشكورة، سلاماً تاريخياً مدوِّياً، أعلنه بكل حكمة، وبمنتهى بُعد النظر، سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.” ورأى الداعية عبد الله فدعق أن “السلام الشامل، والعلاقات المباشرة، باب لتوطيد العلاقات بين الناس، وباب للنهوض بالمنطقة، ككل، وباب لتعزيز الاستقرار العام”. مع تأكيده بأن السعودية هي السبَّاقة في الدعوة للتطبيع، من خلال مبادرتها، منذ 18 عاماً؛ ثمَّ عرَّج على زيارة المسجد الأقصى، وهو تحت الاحتلال الصهيوني، وعدها أحد أهم ثمار الاتفاق الإماراتي، مدللاً على جواز تلك الزيارة، بـ”زيارته صلى الله عليه وسلم للمسجد الحرام، بعد صلح الحديبية، وهو تحت حكم المشركين، والأصنام تنتشر بالعشرات، داخل الكعبة المشرفة، وحولها، دون أن يمنع ذلك من زيارته صلى الله عليه وسلم لمكة، بموافقة كفار قريش”.
باطلاً، ادَّعى أسامة اليماني، الداعية السعودي، بأن المسجد الأقصى ليس موجوداً في القدس، بل في الجِعْرانة، المحاذية لمكة! وأنه [الأقصى] لم يكن الوجهة الأولى لصلاة المسلمين، ومن ثَمَّ، فمدينة القدس ليست مميَّزة في الرسالة المحمدية! هكذا، وبكل سهولة، هدم اليماني ما هو ثابت شرعاً وتاريخاً، دون أن يفكر في أن يذكر دليلاً على صحة ادعائه؛ وكيف أنه قد حَصَر الصراع العربي – الصهيوني، في المدينة المقدسة، والمسجد الأقصى، وهو على غير الحقيقة.
ذهب الشيخ محمد العنجري، من الكويت، إلى أن الشرع قد أجاز للشيخ محمد بن زايد، “كوَلِي أمر شرعي، أن يعقد هذا الاتفاق، ولا يجوز أن يُنازَع في ذلك، بل يجب على الشعب الإماراتي الكريم أن يقف مع ولي أمره، في اتفاقه”! وهل يسري هذا الحكم على أهل الكويت؟!
فور إعلان ترامب عن اتفاق التطبيع مع الإمارات، دوَّن بنيامين نتنياهو، على حسابه على تويتر، قائلاً: “السلام عليكم، وعلينا”! فبادر الشيخ اليمني، هاني البريك، نائب رئيس المجلس الانتقالي في الجنوب، بنشرها، والتعليق عليها بـ”وعليكم السلام، وعلينا. وحيَّ على سلام، تسكن فيه المنطقة، ويقطع دابر الحروب، وتُجَّارها”! وهاجم البريك معارضة السلطة الفلسطينية لقرار التطبيع، قائلاً: “أقبح ما خلق ربي مسؤول فلسطيني، يُنَدِّد بما قامت به الإمارات، من أجل الشعب الفلسطيني، ومنع ضم أراضيه، ولإحلال السلام المنشود بحل الدولتيْن، وهو الذي يسارع للدول العربية المطبِّعة، يلتمس منها التوسُّط لدى إسرائيل. كلما قرب السلام، ندَّد اللئام المستفيدون من إبقاء السلام معلَّقاً”.
وصدقاً تحدث البريك، فالسلطة الفلسطينية، لم تتوقف عن السعي وراء العدو الصهيوني، لتوقيع اتفاق معه، توهُماً منها بتحقيق إنجاز سياسي، يُضاف إلى سجلها، ولولا إعراض حكومة الكيان الصهيوني، عن رئاسة السلطة الفلسطينية، لما خرجت أصوات معارِضة للتطبيع مع الكيان، وإلا، فلماذا أعادت السلطة الفلسطينية ما يسمونه “التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني”، والذي بمقتضاه يتم اعتقال المقاومين الفلسطينيين، ومن ثم اغتيالهم، أو إيداعهم سجون الاحتلال؟! وأكد البريك أنه “إذا فتحت زيارة الجنوبيين لتل أبيب، وتمّ قبلها توقيع خطة السلام، بين الإمارات، وإسرائيل، سأقوم بزيارة اليهود الجنوبيين، في بيوتهم، وسأذهب معهم إلى القدس، وسأصلي في المسجد الأقصى. صباحكم سلام، وتسامح، وتعايش، وقبول الآخر”!
رداً على فتوى مَجْمع الفقه الإسلامي في السودان، في 29/9/2020، بتحريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، إجماعاً، ذهب الشيخ عبد الرحمن حسن حامد، رئيس دائرة الفتوى بهيئة علماء السودان، لمهاجمة المَجْمع، وفتواه، معتبراً أن التطبيع مع الكيان الصهيوني من مسائل السياسة الشرعية، والتي تنطوي تحت مسؤولية حاكم المسلمين، فإذا “رأى ولي الأمر ضعفاً في المسلمين، كما هو في أيامنا هذه، سِيَّما في بلادنا هذه [السودان]”، ووجد ولي الأمر “مصلحة في عقد صلح، فإنه يجب عليه أن يفعل ذلك، حفاظاً على بَيْضَة الإسلام! ولو على مال يدفعه لغير المسلمين، حفاظاً على دولة الإسلام”! مستنداً في ذلك على فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأحزاب، “حيث فاوض (ثقيفاً)، على ثلث ثمار المدينة، إن هم تركوا الحرب”![115] لقد تعامل الشيخ حامد، مع الدليل الذي ذكره، في فتواه، بصيغة “ولا تقربوا الصلاة”، فتفاوُض النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان مع عُييْنة بن حصن، والحارث بن عوف، رئيسَي غطفان قد حدث، كما ذكرته مراجع السيرة، إلا أن المراجع ذاتها أكدت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ليستشيرهما في الأمر، إلا أنهما عارضا الاتفاق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأيهما، ولم يتم الاتفاق؛ فهل دعى الشيخ ولي أمره إلى الدعوة للاستفتاء على التطبيع مع العدو الصهيوني، والالتزام بنتائجه؟! وهل يراجع الشيخ فتواه، إن علم، احتفاء دولة الكيان الصهيوني بتلك الفتوى، وأن صفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية” قد نشرت التسجيل الخاص بها؟!
أطلق الداعية المغربي، رضوان بن عبد السلام، سهام نقده، على من عارضوا التطبيع، في فيديو له، على صفحته، على فيسبوك، في 13/12/2020، متهماً إياهم بالجهل، وأنهم “لا يفهمون معنى التطبيع، ولا يعرفون شيئاً عن القضية الفلسطينية”! و”لا يفقهون في السياسة شيئاً! [لأن] التطبيع موضوع سياسي كبير، عليَّ وعليك”، وأن معارضيه “لا يعرفون عنه إلا الفتات”، واعتبرهم “أكبر ممسوخين في العالم”، لأنهم يمارسون التطبيع مع الشيطان، ومع المنافقين، والزنادقة، والشواذ”، ويطبِّعون “مع الذين يسبُّون الرسول صلى الله عليه وسلم”. وتساءل: “لماذا فلسطين، فقط، التي يجب أن نقاطع من احتلها، وننسى باقي الدول”؟! داعياً معارضي التطبيع للاهتمام بعباداتهم، وأحوالهم الشخصية، لأن “الله سيسألنا على الصلاة، وليس على فلسطين”! مردفاً “كنْ في حالك، وربِّي أولادك”! مردداً: “أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقُمْ على أرضكم”!
طرح الداعية السعودي، بدر العامر، في شباط/ فبراير 2021، سؤالاً للنقاش، على حسابه على تويتر، مفاده: “هل يجب علينا، شرعاً، تحرير فلسطين؟”، وبعد سجالٍ بين متابعيه، أجابهم، قائلاً: “بالعربي لستُ مأموراً، شرعاً، بفعل ما لا أُطيق، وأستطيع”! استناداً لادعاء بأنه “ليس عند المسلمين قدرة للتحرير، والأوامر الشرعية كافة منوطة بالاستطاعة، ولا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها، وعليهم الإعداد لذلك، حتى يتمكنوا من تحرير أرضهم”!.
كان لزيارة المسجد الأقصى، بموافقة حكومة الاحتلال الصهيونية، نصيبها من الجدل؛ فأفتى الشيخ صالح المغامسي، إمام وخطيب مسجد قباء، بالمدينة المنوَّرة، بأنه “لا مانع شرعي من زيارة المسجد الأقصى، وهو تحت الاحتلال”، مؤكداً “عدم وجود دليل شرعي، محكم، يمنع الزيارة”! إلى الوجهة ذاتها، ذهب محمود الهبَّاش، قاضي قضاة السلطة الفلسطينية، فرأى أن “زيارة فلسطين، والقدس، والمسجد الأقصى المبارك، تُعدّ فضيلة دينية مؤكَّدة، يتردد حُكمها بين الندب، الذي هو أصل حكمها، والوجوب الذي يفرضه حال فلسطين، في مواجهة مؤامرات الاحتلال الغاصب، وعدوانه”؛ فالزيارة، عند الهبَّاش، “ضرورة سياسية… ورباط مقدس، مبارك، في أرض الرباط”، وانتقد الهبَّاش معارضو زيارة فلسطين، بموافقة الاحتلال الصهيوني: “هل يريد الحمقى أن يساعدوا الاحتلال على إفراغ فلسطين، حين يُحرِّمون على الناس زيارتها؟!”.
فضيلة الدكتور أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأحد العلماء المجاهدين، المعارضين لمسارات الخزي، والتفريط، و”الاتحاد” له جهاد عظيم، منذ نشأته (2004)، لأجل فلسطين، وكان، وما يزال، حائط صدٍّ في وجه المدلِّسين، والمفرِّطين، إلا أن الريسوني، قد فاجأ الأمة، باجتهاده في مسألة زيارة فلسطين، والقدس؛ ففي آب/ أغسطس 2020، وجَّه نداءً للمسلمين، “في كافة أنحاء العالم، لزيارة القدس، ودعم المَقْدسيين، والمرابطين، مادياً، ومعنوياً”، ورأى بأن “ليس كل من زار القدس مطبِّعاً، أو داعياً للتطبيع”، موضحاً أن “الغرض، والمقصد من الزيارة كفيل بمعرفة الموقف الشرعي، والسياسي منها”، وأن “من تستدعيه المخابرات، وقنوات الاحتلال، فحتماً نرفضه، ونحاربه، ونعتبرها خيانة، وطعنة من الخلف”!.
على “طاعة ولي الأمر”، استند دعاة، وعلماء التطبيع، في آرائ.هم، دون غيره من الأسانيد الشرعية، التي اتَّكأ عليها سابقيهم، فقد اختفت من فتاويهم آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنها—طاعة ولي الأمر—مطلقة، غير مقيَّدة بالالتزام بشرع الله، والعمل لمصلحة الأمة؛ فتعاملوا مع تلك “الطاعة العمياء” كأحد أركان الإسلام، دون انتباه إلى ما أصَّله الإسلام من قواعد للسياسة الشرعية، قيَّدت قرار الحاكم برأي الأمة، وألزمته برأي الشورى، وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم، في غير موضع، في السِلم، والحرب، على السواء. أما زيارة فلسطين، والقدس، والمسجد الأقصى، فالرأي الشرعي بيِّن، وواضح، فصَّله علماء أجلاء؛ ما يزيح اللبس، والغموض.
تمايزت تلك الموجة، بأسلوبها الدعائي، لنفث سموم الصهاينة في العقل العربي، مخترقين فضاء التواصل الاجتماعي بالـ”Share”، والـ”Like”، بما حملوه من آراء، دون استنادٍ إلى رأي فقهي، أو دليل شرعي، إلا تكرار فتاوى سابقيهم، وما وسعهم أن يُمعِنوا النظر في مآلات الموجات السابقة، بل راحوا يُفتُون، دعماً للعدو، فتنازلوا له عن مسرى المصطفى صلى الله عليه وسلم ومقدسات المسلمين، بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة.
***
وبعد، فلعل َّتلك أعظم الخطايا لعلماء ودعاة ساندوا عدوهم بفتاويهم، فكانوا خنجراً طُعِن به المقاومون والمرابطون على ثغر الأمة الأكبر، قضية فلسطين، ووقف العدو الصهيوني رافعاً “القبعة” لأولئك المدلِّسين، تقديراً لما قدموه له من خدمات، عجز عن تحقيقها بنفسه؛ ويبقى أمل فلسطين معقوداً على المقاومة المشروعة بصورها المتعددة، وعلمائها المنادين بالحق، منتظرة هبَّة الشعوب العربية لتحريرها، فهل من مجيب؟
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــــاة"