لو أخبرنا أحدهم قبل أعوام أن إسرائيل أو معظم دول الخليج العربي أو حتى باكستان تدعم موقف روسيا في غزوها لأوكرانيا أو تتحاشى انتقاده، وتقف في مواجهة الموقف الأميركي المعادي بقوة لروسيا، لما صدقنا أنفسنا، لكن ذلك الواقع، اليوم، حقيقة، إنه العالم المتعدد الأقطاب، فلا تستغرب. قبل حوالي ثلاثة عقود، عندما كانت الولايات المتحدة في قمة نشوتها انتصاراً بعد الحرب الباردة، اعتبرت أن دمج دول مثل روسيا والصين بشكل خاص ضمن منظومة السوق الحر والاقتصاد المفتوح، طريقها لاحتوائها ولإحكام سيطرتها في عالم القطبية الواحدة.
لم تكن الولايات المتحدة تعلم أن الصين وروسيا تحديداً، التي سعت لضمهما لمنظومتها الاقتصادية الليبرالية قبل عقود قليلة ستنافسها وتتفوق عليها من داخل تلك المنظومة الغربية نفسها والتي اعتقدت أنها طريقها لإحكام سيطرتها على العالم. ولم يخطر على بال الولايات المتحدة ذات الإمكانيات الاقتصادية الضخمة، خصوصاً في ظل عالم ما بعد الحرب الباردة، مضافاً إليها قدرات القوى الغربية الأخرى الشبيهة والصديقة والحليفة، مجرد التفكير بإمكانية تحدي أي قوة أخرى في العالم لمكانتها الاقتصادية أو القطبية، ومن داخل منظومتها التي صنعتها بيدها.
اليوم، هناك العديد من الشواهد التي تؤكد أننا دخلنا إلى عالم ما بعد القطبية الواحدة، ولعل الأزمة الروسية الأوكرانية دليلنا، رغم أنها تنشأ بين أميركا وروسيا، وليس بين أميركا والصين، القوة الأكثر تهديداً والأشد خطراً على الولايات المتحدة، حسب وصفها. وتركز أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا على قضية «أمن الطاقة» الذي يرتبط بشكل مباشرة بالتطور التكنولوجي الغربي، بعد أن باتت دول الاتحاد الأوروبي أسيرة لروسيا في هذا المجال، بحكم موقع روسيا الجغرافي وقدرتها الإنتاجية وأسعارها المنافسة وفق لغة السوق، وكذلك الحديث عن المنظومة الأوروبية الأمنية الهشة، المرتبطة بحلف «الناتو» والمعتمدة على حماية الولايات المتحدة، إلا أن كفة الشراكة الأوروبية الاستراتيجية مع روسيا رجحت على كفة العداء الأيديولوجي، خصوصاً وأن أوروبا تعتمد في مجال الطاقة على روسيا أكثر بكثير من الولايات المتحدة، كما تعتمد عليها كذلك، وبشكل أكبر من الولايات المتحدة، في تجارتها الخارجية. وأود التذكير أنه تمت إثارة هاتين القضيتين تحديداً، والمتعلقتين بأمن الطاقة والأمن العسكري أوروبياً بعد الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم قبل ثماني سنوات، دون تحقيق أي نتيجة بعد ذلك، حيث بقيت معاملات أوروبا وأميركا التجارية والسياسية والدبلوماسية مع روسيا دون تبدل حقيقي. كما أن موقف الاتحاد الأوروبي، اليوم، والرافض للتماهي مع قرارات الولايات المتحدة بحظر واردات الطاقة الروسية، والأزمة لا تزال في أوجها، ما هو إلا دليل إضافي على أن عالمنا، الآن، محكوم بمفهوم الأقطاب الاقتصادية المتعددة ومصلحة السوق ولغة المكسب والخسارة، التي باتت تجيدها روسيا والصين باحتراف كما باتت تفهمها باقي دول العالم بإتقان، التي لم تعد تعترف بالأيديولوجيات فقط.
وأما فيما يتعلق بالنظام الأمني الأوروبي، توصل استطلاع رأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في أواخر كانون الثاني من العام الجاري، وشمل عددا من الدول الأوروبية، التي يمثل عدد سكانها مجتمعة ثلثي سكان الاتحاد الأوروبي، إلى أن مخاوف الأوروبيين حول الأزمة الروسية الأوكرانية تختلف من بلد لآخر، إذ يخشى الألمان والإيطاليون والرومانيون والفنلنديون في المقام الأول أن تقطع روسيا إمدادات الطاقة عنهم، في حين يقلق الفرنسيون والسويديون من الهجمات الإلكترونية. ووجد الاستطلاع أن الألمان والفرنسيين من بين أقل الشعوب الأوروبية استعداداً لتحمل الأعباء الاقتصادية المترتبة على الأزمة الحالية، وبدرجة أقل قليلا الإيطاليين والفنلنديين، فما بالك بتحمل الأعباء العسكرية، ويبدو أن البولنديين فقط من استعد لتحمل أعباء هذه الأزمة، حتى على المستوى العسكري. وفي حين اعتبر معظم المستطلعة آراؤهم أن الغزو الروسي لأوكرانيا هجوم على النظام الأمني الأوروبي نفسه، لم يتحمس هؤلاء لدفع التكاليف المالية اللازمة لردع روسيا. وفي حين اعتبر معظم المواطنين في دول أوروبا الشرقية، المشاركة في الاستطلاع، أن الولايات المتحدة الشريك الأمني الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في مثل هذه الأزمات، وضع غالبية مواطني البلدان الأوروبية الأخرى ثقتهم في «الناتو» أو الاتحاد الأوروبي، وليس في الولايات المتحدة.
وفي استطلاع آخر أجراه نفس المركز السابق أواخر العام الماضي، وضع غالبية الألمان والإيطاليين والبولنديين والرومانيين، من المستطلعة آراؤهم، ثقتهم في حلف «الناتو»، بينما يثق الفرنسيون والسويديون والفنلنديون أكثر بالاتحاد الأوروبي لحل هذه الأزمة، ومن المعروف أن السويد وفنلندا ليستا عضوتين في «الناتو». كما وصل الاستطلاع الأخير إلى أنه رغم ثقة معظم الأوروبيين بحلف «الناتو» للدفاع عن الأمن الأوروبي، إلا أن «الناتو» لم يعد يعني الولايات المتحدة، لأن الأوروبيين لم يعودوا يثقون بقدرة الولايات المتحدة على حماية مصالحهم، وبات معظمهم يثق أكثر بقدرة ألمانيا على حماية مصالح مواطني الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد نجاحها في قيادة الوضع الاقتصادي الأوروبي خلال أزمة اليورو، وتوليها بعد ذلك قضايا السياسة الخارجية للاتحاد، حيث أظهرت في كثير من الأحيان تفهمها لسياسات موسكو.
وعلى الجانب الآخر من العالم، تثبت الأزمة الروسية الأوكرانية مقاربة زوال العالم الأحادي القطبية، ليس فقط في ساحة الأنداد والشركاء التاريخيين في أوروبا، وإنما تخطتها إلى الساحة الشرق أوسطية، ومنطقة الحلفاء التقليديين وعلى رأسهم تركيا وإسرائيل ودول الخليج ومصر، والتي عملت فيها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، لخلق شبكة أمان استراتيجية سياسية واقتصادية وأمنية لها في المنطقة. جاء الموقف التركي واضحا ومنذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، والذي لم ينسجم مع توجهات واشنطن بفرض عقوبات على روسيا، مع تأكيد أنقرة أنها تفضل أن تلعب دور الوسيط بين دولتين حليفتين هما روسيا وأوكرانيا، إذ لا تريد أن تخسر أيا منهما. ومن إسرائيل جاءت المفاجأة للولايات المتحدة، حيث آثرت عدم الاصطفاف أيضاً إلى جانب الولايات المتحدة، مبررة ذلك بأن الجبهة السورية والوجود الروسي فيها ومصالح إسرائيل ترجح عدم معاداة روسيا، وفضلت اتباع النهج التركي، وفكرة التوسط في الأزمة فقط، والنأي بالنفس عن مهاجمة روسيا.
حاولت معظم دول الخليج الاحتفاظ بعلاقات متوازنة بين روسيا وأميركا، ولم تقف ضد روسيا، فشلت الجامعة العربية بإصدار بيان يدين الغزو الروسي على أوكروانيا، الذي لم يذكر روسيا بالاسم، ووصف عملية الغزو بأنها أزمة. وامتنعت دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تشغل حالياً مقعداً مؤقتاً في مجلس الأمن لمدة عامين، عن التصويت بشكل متتال على قرارين في المجلس طالبا بمحاسبة روسيا وسحب قواتها من أوكرانيا. وكانت الكويت الدولة العربية الوحيدة من بين ٨٠ دولة أخرى التي رعت قرارا لمجلس الأمن دعا لمحاسبة روسيا. وتفسر مواقف دول الخليج من الأزمة الروسية الأوكرانية علاقات بوتين الشخصية مع العديد من قيادات الدول الخليجية، بالإضافة إلى شراكة وتحالف هذه الدول مع روسيا في إطار منظمة الـ»أوبك بلس»، والتي تتشارك السعودية في قيادتها مع روسيا، حيث تعتبر السعودية علاقتها مع روسيا مهمة لخلق نوع من التوازن في علاقتها مع الولايات المتحدة. الأهم من ذلك، رفضت ثلاث دول خليجية مركزية الانصياع لطلب الولايات المتحدة، خلال الأزمة الحالية، بزيادة إنتاجها من الغاز والنفط، لتعويض إنتاج الطاقة الروسي، حيث تعد السعودية والإمارات، المنتجين الرئيسيين الوحيدين للنفط اللذين يمكنهما ضخ ملايين البراميل الإضافية بحجة التزامهما بخطة إنتاج تمت الموافقة عليها بين مجموعتهم ومنظمة البلدان المصدرة للبترول ومجموعة منتجين آخرين بقيادة روسيا. يأتي ذلك في ظل انسحاب الولايات المتحدة في المنطقة، وتوجهها لتوقيع اتفاق نووي مع إيران، وموقف الولايات المتحدة من الحرب اليمنية.
لم تنتقد دول عربية أخرى مثل مصر والجزائر والمغرب وتونس روسيا على غزوها أوكرانيا، وتفضل أن تقف محايدة في هذا الصراع، وعدم الميل باتجاه الولايات المتحدة، خصوصاً أن هذه الدول تعتمد على واردات القمح الآتي من روسيا وأوكرانيا. وتعتبر مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وبينما يأتي ٨٥% من قمحها من روسيا وأوكرانيا، وهو العنصر الغذائي المدعوم بشكل خاص، من بين عناصر غذائية أخرى، من قبل الحكومة المصرية، لضمان بقاء الأسعار ضمن متناول يد الشعب، ضمن موقف مصر المحايد حصولها على صفقة قمح روسية، تم توقيعها خلال الشهر الجاري أمنت لها وصول مخزون من القمح يكفيها حتى نهاية العام. كما أنه وفي خضم هذه الأزمة زار عمران خان رئيس وزراء باكستان موسكو مؤخراً لمناقشة إنشاء خط أنابيب الغاز الروسي الجنوبي، كمظهر من مظاهر التضامن الباكستاني الضمني مع موقف روسيا في هذه الأزمة، خصوصاً عندما نربطها مع تصريحات خان في وقت سابق عن أمله بحل الأزمة بشكل سلمي. كما أن الهند، وفي إطار علاقتها المتطورة مع روسيا، تأبى حتى الآن انتقاد الهجوم الروسي على أوكرانيا، ورغم انفتاح روسيا على باكستان، فإن نيودلهي غير مستعدة للتخلي عن علاقتها مع روسيا.
قابل فلاديمير بوتين الإعلان الأميركي بفرض حظر على صادرات الطاقة الروسية بالإعلان عن قرار يحظر تصدير واستيراد المواد الخام حتى نهاية العام الجاري، حسب جدول أو برنامج يحدد هذه المواد وكذلك للدول التي ستتعامل معها بلاده. ويعلم بوتين حاجة العالم لصادرات روسيا بشكل عام وليس في مجال الطاقة فقط، فبدأ يمارس نفوذه الاقتصادي، والذي سيشكل عبئاً على الدول التي تقف على الجانب الآخر مع الولايات المتحدة. وستبقى عملية المد والجزر وسيستمر الحظر والعقوبات المتبادلة، وعمليات استنزاف للأرواح البشرية والتخلخلات الاقتصادية المكلفة لدول العالم أجمع، إلى أن تقتنع الولايات المتحدة أن عالم القطبية الواحدة لم يعد موجوداً، والسؤال، الآن، كم ستتكلف البشرية من جراء هذا التحول في النظام السياسي الدولي؟
* أكاديمية وكاتبة فلسطينية
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــــاة"