تتجاوز مخاوف الفلسطينيين من الاحتفال بما يعرف بـ «عيد الحب» أو «فالنتاين داي» تلك المخاوف التقليدية التي تتعاطى مع العيد وفق ثنائية التحليل أو التحريم، أو حتى مسألة تكريس نمط استهلاكي غربي، فهذا الحديث على أهميته يسقط مع سؤال: من أين يأتي الورد الأحمر إلى المناطق الفلسطينية؟
جرت العادة أن يكون الاحتفال بعيد الحب عبر إهداء الورد الأحمر (غالبا) لمن نحب، لكن الحال في فلسطين إشكالي للغاية في ظل أن أغلب المصادر التي يأتي منها الورد يكون من المستوطنات الإسرائيلية.
اقرأ ايضا: كيف ستدار الفترة المتبقية من إدارة بايدن؟
مع ساعات الصباح الباكر افترش أحد الباعة الأرض بالورد مقابل بوابات الجامعة العربية الأمريكية في جنين، شمال الضفة الغربية أملا في أن يشتري طلبة باقات الورد لحبيباتهم، وهو حال عشرات المواقع على امتداد مساحة الضفة الغربية. وعندما سألت «القدس العربي» البائع عن مصدر الورد أخبرنا أنها من المزارع القريبة، دققنا في السؤال أكثر فعجز البائع البسيط عن تحديد الجهة. أخبرناه أن الاحتمال الأكبر هو أنها من مستوطنات إسرائيلية تنتشر في عموم الضفة الغربية وتزرع في أراض مسروقة من فلسطينيين، فما كان منه إلا الصمت والحيرة. لكنه قال كمن يريد تبرئة نفسه: «أنا ببيع الورد مرتين ثلاثا بالسنة، ليس لي علاقة بالقصص».
ويبدو حال البائع البسيط هو نفسه حال المشتري الذي يحاول أيضا أن يتظاهر بالبساطة، متغافلا الجهة التي جاء منها هذا الورد في ظل غياب أي معلومات توثق هذا القطاع الزراعي الرمزي والحيوي.
قنبلة اسمها الورد
تفجر الباحثة الفلسطينية في جامعة بيرزيت إباء زيتاوي قنبلة عندما تقول: «تخيل هناك مئات المستوطنين فاتحين «كروشهم» و«جزادينهم» حاليا وهم يواصلون الليل بالنهار كي يأمنوا لكم «ورد الڤالنتاين»».
وتتابع: «واضح جدا إن السواد الأعظم من الورد التجاري المتداول في فلسطين هو ورد مستوطنات».
وتحضر الباحثة زيتاوي رسالة ماجستير في الاقتصاد السياسي في إسرائيل، وتحمل أطروحتها عنوان «أثر بروتوكول باريس الاقتصادي على قطاع الورد الفلسطيني».
ويصادف اليوم الإثنين 14 فبراير/ شباط من كل عام احتفال العالم بعيد الحب أو «الفالنتاين» وفيه ينتظر المحبون هذه المناسبة للتعبير عن حبهم لبعضهم البعض.
وحسب الباحثة زيتاوي فإن هذا الملف يفتح في فترة عيد الحب حيث هناك كثافة في استهلاك الورد، لكنه ملف متفجر إذا ما علمنا أن هناك مفارقة خطيرة ومثيرة للتأمل ترتبط بسلوكنا مع الورد في حياتنا اليومية.
وتضيف: «تخيل أن هناك شابا تعرّف على حبيبته في مظاهرة ضد الاستيطان أو محفل وطني فيما يقوم بإهداء حبيبته باقة ورد قادمة من مستوطنة قريبة للغاية، وقد يكون هناك صديق استشهد قريبا منها».
وتضيف بحسرة: «في الحقيقة إنها باقة ورد شربت من دمنا، وأغلب الناس لا يدركون ذلك».
وتذكر الباحثة مواقف «يستخدم فيها الفلسطينيون الورد مثل تقديم باقة الزنبق الأبيض للجرحى في المستشفيات فيما يكون ثمن الباقة ثمن حفنة من الرصاص المصوب نحو أجساد شبابنا المقاوم».
وتضيف: «تخيل معي هذا المشهد الرمزي، هناك من يودع بغضب ودموع ابنه الشهيد فيما باقات الورد التي توضع على صدر القبر مصدرها المستوطنات».
بداية الحكاية
وبدأت حكاية الباحثة زيتاوي مع الورد قبل عام تقريبا عندما رغبت أن تهدي صديقتها المريضة بالسرطان باقة من ورد التيوليب الأحمر الفلسطيني شريطة ألا يكون مصدرها جهة إسرائيلية أو من ورد المستوطنات، ولأنها خافت أن تفقد صديقتها دون أن تقدم لها هديتها قامت بالبحث كثيرا عن توليب فلسطيني من دون أن تجده.
وتتابع سرد قصتها بعاطفية: «لقد أطال الله في عمر صديقتي (التي توفيت قبل فترة) إلى أن نبت التيوليب الفلسطيني الأحمر، عندها قدمت لها الوردة الفلسطينية الفاتنة، وحققت لها حلمها من دون أن أكسر إيمانها بمقاطعة الاحتلال ومنتجاته».
وتؤكد أن هذه الحادثة كانت سببا في خلق إيمان جديد لديها، دفعها لطرح سؤال الورد في السياق الفلسطيني، وهي الآن في ختام أعمال أطروحتها في الجامعة التي يشرف عليها الدكتور مطانيس شحادة.
وتؤكد زيتاوي أن اتفاق باريس الاقتصادي عام 1995 أعاق تطور قطاع الورد الفلسطيني كليا، «صحيح أن الاتفاقية لا تقول إنه يمنع الفلسطينيون من زراعة الورد، لكن تفاصيلها تضمنت ثلاث نقاط تكرس المنع وتدلل عليه، فالنقطة الأولى أنه يمنع إدخال البذور بكل مكوناتها، أما ما سمح بإدخاله فقد وضعت عراقيل عليه، فهناك أكثر من 53 نوعا من البذور تمنع من الدخول إلى فلسطين، وثانيا، يمنع الاحتلال دخول بذور إلى الأراضي الفلسطينية إلا إذا كانت منزوعة الجنين، وهذا يعني ان الهوية الزراعية في فلسطين مستهدفة.
كما أن النقطة الثالثة فهي ترتبط بالتضييق على نقل الأشتال الفلسطينية، حيث هناك الكثير من القيود على نقلها عبر الحواجز الإسرائيلية والجهات الرسمية، وهو ما يقود إلى موتها عند عملية النقل في ظل إجراءات الفحص والتأخير المتعمد.
وترافق ذلك حسب زيتاوي مع عملية منع الفلسطينيين من تصدير ورد القطف (التجاري).
وتضيف: «لقد كان في فلسطين خلال الأعوام الماضية مزرعتان لكن الأولى أغلقها بعد 5 سنوات من انطلاقها والثانية بعد 10 سنوات. وأسباب ذلك تعود في مجملها إلى أن الورد الذي يستهلك الكثير من الماء والسماد يمنع من التصدير للخارج.
وتشدد على أن هذا الواقع الصعب فرض ألا تكون في كل الضفة الغربية إلا مزرعة واحدة تقدم الورد الجوري فقط، وهي موجودة في بلدة بلعا قضاء طولكرم، فيما لا تتجاوز مساحتها دونمين، حيث يخوض الورد الفلسطيني القليل منافسة غير عادلة مع الورد الإسرائيلي الذي يحصل على كل شيء بأسعار تفضيلية بعكس المزارع الفلسطيني.
وتؤكد زيتاوي أن بحثها قام على افتراض مفاده طالما أنه لا تستورد إسرائيل الورد من الخارج، فهذا يعني ان الفلسطينيين ممنوعون من ذلك، وبالتالي يكون السؤال: من أين يأتي الورد الموجود في المحلات التجارية في المدن الفلسطينية؟
ورفض أصحاب العشرات من محلات بيع الورد في رام الله ونابلس الحديث مع الباحثة حول الجهات التي تزودهم بالورد، ويبدو أن لديهم مخاوفهم في ظل حملات المقاطعة التي لا تلتفت إليهم غالبا.
وحسب المعلومات التي توفرت للباحثة، فإن السوق الإسرائيلي صدر ما يقارب من 10 ملايين وردة في ثلاثة أيام خلال احتفالات أعياد الكريسماس في العام المضي، مؤكدة أن المزارعين الإسرائيليين لم يكونوا راضين عن حجم التصدير، فقد خططوا لتصدير 12 مليون وردة.
ولا توفر وزارة الزراعة الفلسطينية ولا مركز الإحصاء المركزي الفلسطيني معلومات مفصلة عن قطاع الورد الفلسطيني أو ذلك الخاص بالمستوطنات قبل وبعد أوسلو.
وأمام صعوبات استيراد الورد وتحديات زراعته في الضفة تفرض إسرائيل صعوبات كبيرة على استيراده من غزة.
وتقول زيتاوي: «ورد البلد حساس، خلال ساعات إذا لم يصلنا سيتعرض للتلف حيث تتأخر الأذونات الإسرائيلية الخاصة بعملية الادخال عمدا».
الذهاب لورد الجبل
وأخبرتنا الباحثة عما يفعل المواطن الذي يريد أن يكون جزءا من حالة الاحتفال بعيد الحب والعشق ولا يريد أن يشتري من منتجات المستوطنات؟ فردت مبتهجة: «نحن في أول الربيع، لماذا لا نذهب إلى السهول والجبال ونجلب الورد من هناك، من يريد ان يقدم فعلا رمزيا لشخص بحبه ستكون رمزيته ودلالته مضاعفة في حال ذهب للجبل وتعب أثناء عملية البحث وقطف الورد».
وتؤكد أن الورد البري الفلسطيني مميز، ويمكن أن نهدي من نحب شتلة تدوم، أو يمكن أن نهدي بدائل عن الورد من خلال النباتات العطرية الكثيرة التي يعتبر هذا موسمها.
وترى زيتاوي ان احتفالية عيد الحب ذات القرار الغربي مبكرة عن موسم الربيع الفلسطيني الغني بالورد، لكنها تتوافق مع موسم النرجس الفلسطيني أيضا.
وتقول: «ولو سألتني هل أهدي نرجسا أو جوريا أحمر سأقول النرجس أجمل وفلسطيني أيضا».
وترى زيتاوي ان الورد الجوري الأحمر الذي يعتبر مكونا أساسيا في عيد الحب هو بمثابة مجاز مستورد، والورد هو استعارة ودلالة لشيء ما، وتسهب: «للأسف نحن جزء من ثقافة الاستهلاك وغالبا ما لا نقاومها عبر ثقافة أصيلة قادمة من داخلنا، ليس علينا ان نحتفل وفق مزاج أوروبا التي قالت إن الورد الأحمر هو رمز الحب. علينا أن نخلق مجازنا ومن بيئتنا نحن وفي وقتنا الذي نريده». وتشعر أنها مدينة لصديقتها التي توفيت بالسرطان، وهي تعتبر أطروحة الماجستير الخاصة بها رسالة لها خصيصا، «أنا مدينة لرسالتها في المقاطعة وتفضيل المنتج الفلسطيني في أصعب الظروف، أنا أعمل على بحثي اليوم من وحي صديقتي».
وقبل أن ننهى الحديث معها تقول إنه من المحتمل جدا أن تكون باقات الورد التي توضع على قبر الرئيس الراحل ياسر عرفات آتية من ورد المستوطنات، إنها مفارقة مؤلمة لشعب يناضل ضد هذه المستوطنات ويخسر خيرة أبنائه في سبيل ذلك.
وتقول: «صحيح أن اغلب الناس تفعل ذلك عن جهل ومن دون قصد، والسبب هو غياب المعلومات التي تجعلنا قادرين على اتخاذ القرار والوعي بكل ما نفعله».
وتختم إباء زيتاوي: «كثير حلو نكون رومنسيين بالڤالنتاين، بس كيف يمكن لورد الاحتلال أن يكون رومنسيا؟»
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــاة"