لن نستطيع أن ننعزل عن الحضارة الإنسانية، أو نمنع الأبناء من التواصل او السير برفقتها، أو نُقصى أو نفصل بينهم وبين الفضاء الخارجي، أو نوصد الأبواب ونراقب ما تحمله الرياح ونسمح بعبور ما يوافق هوانا ومرادنا، ونصد غيرها.. تاريخ المنع والإقصاء والرقابة قد مضى إلى حال سبيله واندثر وانقضى، الكل أصبح يعيش فى صالة ضيقة، نسمع ما يدور فى الغرف المغلقة، وتخترق عيوننا الأحداث والوقائع البعيدة قبل القريبة وكأنها على أطرافنا تجرى، وتمر الرياح حرة بما تحمله فوق رؤوسنا، تمطر أينما شاءت ما نحب منها أو نكره، ونرضى عنها أو نرفض.. كل الأبواب والنوافذ أصبحت مفتوحة على البحري، ولن يصدها مانع أو قانون أو جدران أو أديان أو سجان أو أسلاك شائكة.. أصبحنا جميعا أسرى هذه الحضارة وخلف أسوارها نحيا ونموت.
الحضارة الإنسانية أصبحت كتلة واحدة، قوامها سكان الكرة الأرضية كلهم، تتحرك فى اتجاه واحد، وتتجاوز فى سرعتها الأيديولوجيات والأعراق والحدود والأديان. الناس يتجولون فى بيت واحد بلا جدران أو أبواب، يتسابقون ويعبرون الزمان والمكان والمجال والمناطق والقبائل والجماعات، ويتجاوزون فرشة الأديان حتى لو غطت الكرة الأرضية كلها، وتتخطى غير عابئة كل الحدود والفواصل والقواطع والمفارق، وأصبح الإنسان رقمًا محسوبًا ومعدودًا فى طابور طويل يبدأ من بلد وينتهي عند غيره، لن يخرج أحد إلا إذا خرج من التاريخ، ولن يعيش فيها منعزلا وحيدا داخل قفص حديدي فى دولته وإلا خرج الاثنان من طابورها الطويل وجلسا معا على باب المتنطعين والكسالى وأرباب السوابق.
هل نعترف نحن المسلمين أننا فى محنة؟.. نعم، نحن فى محن وأزمات.. «العزلة» وفقدان الشعور والإحساس الإنساني العام، قصور التقييم العقلاني، وإهمال الدراسة العلمية، وضيق الفهم الصحيح الواعي لمستجدات الحياة وما تحمله الرياح من تغيير حتمى، وعدم القدرة على التعامل الذكي مع المختلفين معهم فكريا وعقائديا دون رفض أو استعلاء أو استقواء، غربة الزمان والمكان والهروب من الواقع إلى الماضي وكأنه الملجأ والملاذ، ولن يعود الماضي ولن يجدى هذا الاستدعاء، فليس هو الأفضل وليس هو الحل، ها نحن نتوق إلى هجرة بلادنا إلى بلاد الحرية والمساواة والعدل، فإذا عبرناها ندعو عليهم بتشتيت شملهم وتدمير أوطانهم. ونقرر على الناس منهج الحرية «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!»، ثم نربى أولادنا على مبادئ الهجر والكره والتمييز والعنصرية والإقصاء. ونشجع المرأة على اللحاق بركب الحضارة والعلم والعمل، ثم نطمس معالمها وأفكارها خلف قضبان من الجهل والتخلف والنقاب، ونختمها بمباركة التحرش الشرعي ونكاح طفولتها البريئة. ونحفز الناس على التكافل والتآخي كالبنيان المرصوص، ونغلق الحدود عن المهاجرين والنازحين وتستقبلهم دول الغرب الكافر وتفتح لهم الأبواب وتشبعهم بعد جوع وتؤمّنهم من خوف. وندعو الناس إلى ستر بعضهم بعضا حتى يسترنا الله يوم القيامة ونفضح خلق الله على عين كل التجار والوشاة والنمامين والفجرة والشامتين، وساء أولئك رفيقا، وغير هذا الكثير.. أليست هذه بضاعتنا وآثارنا شامخة باثقة؟!.
لن نقدر على الانفصال أو التوحد أو الانشطار أو الخروج من هذا الطابور، العالم واحد والعلم واحد والكون واحد، غُلفوا جميعا برباط مغلق وموصد ومطبق، هذا هو موعدنا مع الإنسان العالمي الشامل، والعقل الجمعي والفكر الحر، هذا هو «الانصهار العام»، لا سلطان لفكر على فكر، ولا استقواء لدين على دين، ولا حيز كامل لرأى على حساب الرأي الآخر، ولا حقيقة واحدة فريدة فى نوعها متميزة على غيرها، ولا حد ولا حاجز لرياح التغيير العالمية.. لقد آن الأوان أن يخرج عقل المسلم من حيزه المحلى المحدود إلى حيز العقل الإنساني الحر، وأن يتحرر من سجنه الذى فرض عليه، يتفاعل ويتجاوب ويتبادل المعارف دون انعزالية أو استعلاء، يتقصى الحقيقة ويبحث عن فرص النجاح دون تصيد الأخطاء، ويساير المنهج العلمى، ويتنازل عن الخرافات والأباطيل والبدع والحكايات، ويرفض هذه الصحوة الإسلامية المزيفة وهذا التجديد السطحي الذى خرب البلاد والعباد، ويستنهض الهمم والجهود للعمل والإبداع، ولا يستتبع هذا الاستنهاض الخوف من مظاهر الانحلال كما يراها، فمنها ما هو مسموح فى بلاد كمنهج حياة ونمط إجتماعى مقبول، ومنها ما هو مستهجن فى بلاد أخرى.. لكن كيف نحمى أولادنا من تبعات هذا الهاجس سواء المسموح منه أو المستهجن؟.. هذا موضوع آخر، يبدأ من التعليم الجيد والثقافة الواعية، والدراسة العلمية لهذه الظواهر، والحوار العقلاني المحايد، وتنتهى عند مواثيق الشرف والبناء السياسي والقانوني الجاد تحت عنوان تربية النشء تربية سليمة واعية قادرة على الحكم والفرز والاختيار، لن نستطيع أن نوقف عجلة التاريخ، ماضون إلى مجتمع واحد فى غرفة واحدة، العزلة فيها والغربة ضياع وفشل ووحدة.. افتحوا الأبواب واعتمدوا على وعى وتربية الشعب إن كنتم صادقين فى توعيته وتربيته وتعليمه كما يجب.
(الدولة المدنية هى الحل)
* كاتب مصري وباحث فى تاريخ الجماعات الاسلامية عضو المجلس الأعلى للثقافة
المصدر: "المصري اليوم"
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــاة"