كل ما يفعله تركي آل الشيخ الآن هو تقليد نماذج أجنبية وشراؤها لصناعة "مسخ ثقافي وفني" من كل الجنسيات، وتستضيفه أراضٍ سعودية وفرض واقع جديد ومنح جوائز وألقاب و"مقامات" وفي كثير من الأحيان توزيع إهانات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يغدق رئيس “الهيئة العامة للترفيه” السعودي تركي آل الشيخ على الفنانين والإعلاميين ملايين- وربما مليارات- الريالات السعودية “، ليستخدمهم في الدعاية للسعودية “الجديدة”، وهو ما حصل في الفترة الأخيرة، وأحدث جدلاً كبيراً في القاهرة.
حين قال الممثل المصري حسن الرداد، إنه “يتمنى أن يعيش في السعودية لأنها ملتقى الفن”، وأكد محمد صبحي أن “الفن يتقدم في السعودية ويتأخر في مصر”، وخر رامز جلال ساجداً لحظة حصوله على جائزة “صناع الترفيه”، وفرح الإعلامي المصري عمرو أديب وهو يحصل على درع أثارت سخرية الجميع.
ردود الفعل المبالغ فيها على الجوائز السعودية تكشف جانباً مما يحصل، فلم تكن تلك جائزة الأوسكار، أو جائزة ذات تاريخ عريق، إنها- فقط- النسخة الأولى منها، لكن هؤلاء الفنانين والإعلاميين صاروا يعملون لدى تركي آل الشيخ، ولا بد أن يبالغوا في تقدير الأمور وتقديمها كي يحافظوا على وظائفهم.
رامز جلال يقدم برامج مقالبه عبر شاشة “أم بي سي” وعمرو أديب يقدم برنامجه عبر “أم بي سي مصر”، ومعظم الفنانين الذين يهرولون إلى المهرجانات والحفلات السعودية “المستحدثة” هم ضيوف دائمون بأجور ضخمة في البرامج الرمضانية.
ما يحدث لهم أشبه بالإذلال، فلا تزال النظرة السعودية إلى المصريين، هي النظرة القديمة، فالمصري كان ليدخل السعودية ويعمل هناك يحتاج إلى “كفيل”، ويعتبرُ تركي نفسه كفيلاً لكل هؤلاء النجوم المصريين على الأراضي السعودية، ولا بد أن ينسحقوا أمامه إلى أقصى درجة، وإلا طردهم من مملكته، وهذا جزء من استراتيجية السيادة السعودية التي تمارسها في الفترة الأخيرة، كي تتسيّد الوطن العربي وتتصدّره، بعد عقود من الصدارة المصرية ثم الهرولة الإماراتية نحو القمة.
كلما ظهر تركي آل الشيخ في أي محفل محلي أو دولي، تردد معه صوت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي- في تسريب شهير- وهو يقول: “يا عم الفلوس عندهم زي الرز يا عم”.
وهو الدور الذي تصدّى له تركي آل الشيخ، في المنطقة العربية، حين ارتضى أن يكونَ “شوال أرز” يوزّع أموال المملكة العربية السعودية يميناً ويساراً وبحساب “مفتوح”، لا ينفد ضمن خطة السعودية للانفتاح، وكان لا بد من أجل ذلك من وجه إعلامي يصبح صديقاً للفنانين والرياضيين ومقرباً منهم، حتى يحكمَ السيطرة على الوسطين الأكثر تصدّراً للترفيه في العالم،
تولّى آل الشيخ منصب “رئيس الهيئة العامة للترفيه” داخل المملكة بأمر ملكي، وبرغم أنها داخل المملكة، فأغلب ما تؤديه وتقوم به يستهدف الوصول إلى خارج المملكة، بدأ الأمر بالرياضة، حين اشترى آل الشيخ أحد أندية مصر، وغير اسمه إلى “بيراميدز”، وأنشأ له قناة تلفزيونية، وتبنّى النادي الأهلي، وموّل الكثير من أنشطتهما، وبنى مملكة رياضية من أوراق البنكنوت داخل القاهرة، ثم غادرها حين ساءت الأمور، وبدأ مسيرة أخرى في الفن.
أصبح آل الشيخ اليد العُليا لجميع المشروعات الفنية والإعلامية السعودية، وفي مقدمها شبكة قنوات “أم بي سي”، التي تستعدُ لنقل مقرها الرسمي إلى الرياض قريباً، وذلك بجميع روافدها كقناتي “العربية” و”الحدث” وغيرهما.
تركي آل الشيخ… صناعة اللا شيء وتسويقه!
قفز آل الشيخ إلى الساحة ودخل دائرة الضوء تزامناً مع اتجاه المملكة العربية السعودية إلى الانفتاح الكبير ونفض تشدّد الماضي والتحرر من فتاوى التراث والمشايخ الذين يلجمون اقتصاد المملكة وسياستها ويعيدونها إلى الوراء في عالم متغيّر، باتت السياسات والقوانين القديمة ثقلاً وعبئاً كبيراً على التقدم، إذ إن منع الفن والثقافة والقوى الناعمة من دخول السعودية وكذلك اضطهاد المرأة وتحجيم الزيارات من الخارج، كلها كانت مشكلات تحاصر المملكة وصورتها دولياً، وتفقدها أموال السياحة و”البيزنس” الكبير، فكانت الشركات الدولية تتجه إلى إقامة مكاتبها الإقليمية في دبي، بينما السعودية هي المستهلك الأكبر والسوق الأكثر ثراءً وقدرة على الشراء. أخيراً، قررت السعودية، على يد ولي العهد، محمد بن سلمان، أن تتحرَّر من ماضيها، ولكنها في الأثناء، استخدمت الأساليب ذاتها التي اعتادت استخدامها، فكان التحرر ظاهرياً وشكلياً، ولا يمسّ حرية المرأة أو السياسات ولا يصنع ديموقراطية، بل يزيد تحكُّم المال والعائلة المالكة ورجالها في كل شيء، ولكن بصورٍ أخرى.
وكانت ثنائية “الانفتاح والترفيه”، بحسب النظرة السياسية السعودية، لإغراء الدول الغربية وإقناعها بأن المملكة تتجه إلى المزيد من الحرية- في سياق احتواء كارثة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل السفارة السعودية في تركيا- وكذلك إلهاء الشباب السعودي عن التهام ثروات بلاده وإبعاده من فكرة الثورة أو التمرُّد التي اجتاحت دولاً أخرى محيطة بها. وتتحول تلك الخطوات في الواقع الذي يعيشه السعوديون إلى المزيد من السلطة والفساد وإهدار المال باسم الفن. لتتحوّل الرياض تدريجياً إلى استنساخ كامل لتجربة دبي، التي نشأت قبل أكثر من عقدين برغبة هائلة في تحطيم أرقام قياسية بأعلى ناطحة سحاب وأعلى برج وأكبر عجلة دوارة، وأطول وأضخم وأكثر… وكل أفعال التفضيل التي تبحثُ عنها دبي لتصل إلى العالمية، التي تروّج لها حملات علاقات عامة لا تنقطع، وينتهي كل ذلك بإمارة بوليسية مخابراتية تحتوي بعض الفقاعات الثقافية بلا سياق أو مستقبل حقيقي. ولتقليد ذلك السيناريو كان لا بد من شخص “فارغ” يجيد صناعة اللاشيء.. ويجيد تسويقه.
تحتاج المشروعات الترفيهية الجديدة إلى دعاية، وهل هناك دعاية أفضل من الفن والرياضة؟ يصف موقع “سعودي ليكس“، المتخصّص في الشأن السعودي، تركي آل الشيخ بـ”أداة محمد بن سلمان لاستمالة نخب فنية بأساليب مشبوهة”، ويقول إنه “يتحكم في النخب العربية الفنية بالتخويف مرة ويالترغيب مرة أخرى”.
أنا “كفيلكم” الأعلى: “إذلال المصريين” … لعبة آل الشيخ المفضلة!
لم يبدُ الإذلال في سجدة رامز جلال، أو تصريح حسن الرداد فقط، إنما كان مُتبعاً منذ وقت طويل، حين أصبح آل الشيخ رئيساً شرفياً للنادي الأهلي، أكبر نادٍ مصري، مقابل تمويله حملة رئيسه الحالي واللاعب السابق الأسطوري محمود الخطيب، وبدأ يتدخّل ويفرض شروطه ويفشي تلك الأسرار إعلامياً وكأنه يقول “اشتريتكم بفلوسي” حتى وقعت أزمة كبرى، فاشترى نادياً وموّله بمليارات الجنيهات كي يأخذ بثأره، واستمرت دراما تركي آل الشيخ في الكرة المصرية طويلاً حتى تدخّلت الدولة حنقاً من لهجته المتعالية على المصريين.
وسَرَت أنباء حول شكوى تقدمت بها المخابرات المصرية لنظيرتها السعودية من أسلوبه وذلك لتحجيمه، لكن علاقته بولي العهد بن سلمان أنقذته وأبقت عليه مع تهميش دوره ومنع أخباره من النشر- لفترة وجيزة- بالصحف المصرية حتى استعادة الكبرياء المصري الذي يتأثر “كروياً” أكثر مما يتأثر بأي شيء آخر.
حين وقّع عمرو أديب، أهم وأشهر إعلامي مصري، عقد أغلى مذيع بالشرق الأوسط لينضم لشبكة “أم بي سي” قال له تركي آل شيخ مع صفعة على كتف أديب: أهلاً بك في السعودية، بينما يجلس أديب المعروف بصوته الجهوري وهجماته الحادة ووجهه المكشوف، منحنياً خجولاً لا يملك أي قدرة على الرد.
وبعدها لم يعد عمرو مذيعاً في برنامجه الجديد، إنما أصبح متحدثاً باسم آل الشيخ، يذيع أخباره ويمدحه ويتحدث عن إنجازاته وأخلاقه وأسرار عظمته في قناة موجهة للجمهور المصري، ولا يذكر أياً من خطاياه أو الاتهامات التي تلاحقه بالاعتداء على الفنانة المصرية آمال ماهر في الشارع، أو الشروع في إنهاء مشروعها الفني مبكراً بعد الزواج منها سراً ومساومتها وابتزازها لتخضع لإمرته وحذف أغنياتها من جميع المنصات، في توجه ذكوري ذات نيات تخريبية خالصة لإنسانة كانت يوماً ما زوجته، مفاده “الخضوع أو التدمير الكامل” وسط صمت كامل من وسائل الإعلام المصرية، التي لا تقوى على الحديث في ذلك الأمر، دفاعاً عن فنانة كانت أشبه بالصوت الرسمي لمصر في عهود سابقة.
أمضى “ظل بن سلمان” فترة مخفياً عن الأنظار، قبل أن يسترد سطوته ولكن في الفن، ويمتد إلى الحياة العامة أيضاً، فيستقبله السيسي في زيارة رسمية منتصف عام 2021، رداً لكبريائه.
تسرب آل الشيخ إلى الأوساط الفنية عبر الأموال والهدايا الثمينة والكثيرة، التي تُمنح للجميع في لقاءات ودعوات واحتفالات، فدورياً، ينظّم عبر هيئة الترفيه احتفالاً أو مهرجاناً أو مؤتمراً ويدعو نجوماً أغلبهم مصريين للحضور، يحضرون ويحصلون على “النفحة السعودية” ويعودون إلى بلادهم.
أبيع نفسي… من أجل “النفحة السعودية”
الجدلية هنا، أن تركي آل الشيخ يبني مجداً فنياً ورياضياً سعودياً متخيلاً بسطوة الأموال على أنقاض المجد الفني المصري المستمر منذ عشرات السنين فقيام السعودية من إرث الانغلاق من دون حريات حقيقية ومن دون مقاربة فنية متحررة من ضغوط السياسة والسلطة لا يزال غير متاح.
كل ما يفعله تركي آل الشيخ الآن هو تقليد نماذج أجنبية وشراؤها لصناعة “مسخ ثقافي وفني” من كل الجنسيات، وتستضيفه أراضٍ سعودية وفرض واقع جديد ومنح جوائز وألقاب و”مقامات” وفي كثير من الأحيان توزيع إهانات.
ويُعد الحضور المصري الكبير موافقة ضمنية على ذلك وغطاءً شرعياً، مقابل ما يمكن اعتباره “رشاوى مقنّعة”، ففي حفل جوائز “صناع الترفيه” الذي أثار جدلاً في الفترة الأخيرة، فاز بطل الكاراتيه السعودي طارق حامدي الحائز ميدالية فضية بدورة الألعاب الأولمبية 2021 في طوكيو بجائزة “الرياضي العربي المفضل” متقدماً على محمد صلاح ورياض محرز ونجوم آخرين، وحصدت العداءة السعودية ياسمين الدباغ جائزة “الرياضية المفضلة” على حساب بطلات الأولمبياد المصريات، هداية ملاك وسمر حمزة وفريال أشرف، ليكشف الأمر انحيازاً لشخصيات سعودية، برغم أن الجائزة عربية.
ولم يعد الفنانون المصريون يحضرون الحفلات والمهرجانات المحلية بالحماسة والإقبال، كما في المناسبات السعودية، التي صارت مصدر دخل سنوي لهم، على عكس مهرجان القاهرة السينمائي، الذي باتوا يحضرونه حفظاً لماء الوجه فقط.
“أنا تركي”: طفل يتمسّح بالسلطة
البحث عن سر تركي آل الشيخ يقتضي العودة إلى أصوله وبداياته… من أين انطلقت تلك الظاهرة الفريدة والغريبة على الواقع السعودي؟
ولد عام 1981 في مدينة الرياض، أي أنه سبق محمد بن سلمان بالميلاد بـ4 سنوات، والعجيب أنه لا ينتمي لآل سعود، وهو ما منحه تأثيراً كبيراً، وسطوة على قلب ولي العهد السعودي، لكونه ليس مرشحاً للحكم أو منافساً أو قريباً لأحد منافسيه أو الطامعين في منصبه، حتى صار آل الشيخ “ظِل بن سلمان” ورجله المفضّل، إذ يلبي جميع رغباته دون تحفظات أو نقاشات، وبروحٍ محبة للانفتاح الذي يدعو إليه بن سلمان، وتعتبره شخصيات سعودية “مجوناً وفجوراً” على أرض طاهرة لا يجوز أن تستقبل الفنانين والراقصات والحفلات الصاخبة، إلا أن تركي منذ سنوات، وقبل موجة التجديد والانفتاح، كان محسوباً على فريق الباحثين عن الحرية والراغبين فيها داخل المملكة.
تزوَّج من ابنة ناصر بن عبد العزيز الداود، وكيل الملك سلمان بن عبد العزيز، منذ أن كان أميراً للرياض، فانطلقت مسيرته إلى قلب بن سلمان وأعماله، وأصبحت علاقته بالأسرة الحاكمة أكثر قوة.
لم يكن آل الشيخ أميراً أو ابناً للعائلة المالكة. لكنه تربى قريباً من أروقة السلطة فعرف خباياها وأمزجة رجالها، وأصيب بجنونها أيضاً، فقد كان والده على صلة وثيقة بالأسرة الحاكمة في السعودية منذ وقت طويل، لقربه من الأمير فيصل بن فهد وسلطان بن فهد.. ومن هنا بدأت علاقته بولي العهد، محمد بن سلمان.
صار رفيقاً له، ينفذ جميع طلباته ويساعده في كل شيء، حتى قبل أن يتولّى السلطة، فمهَّد له ولي العهد الطريق وعيّنه في وزارة الداخلية ثم مكتب وزير الدفاع وديوان ولي العهد عام 2015، وكان عمله الفعلي “سكرتيراً شخصياً” لابن سلمان، وفي حزيران/ يونيو 2017، عُيّن مستشاراً للديوان الملكي برتبة وزير. ليصبح وجوده على الموائد الفنية والشاشات التلفزيونية بـ”ختم رسمي”، تزامناً مع اتساع نفوذ ولي العهد “بن سلمان”. الأمر الذي قابله سعوديون بغضب شديد لكونه “مؤلف أغانٍ” بلا خبرة سياسية أو ثقل في المملكة. فلم يكن قبل تصعيده إلى الواجهة معروفاً للسعوديين، القليل كانوا يعرفون اسمه مقترناً بفضائيات “الرقص والغناء”.
وبرغم أنه ينتمي لأسرة دينية تنفرد بالإفتاء في السعودية. كان متمرّداً، وربما هذا ما لفت نظر بن سلمان إليه، فكان عاشقاً للأغنيات، ويدّعي أنه يكتبُها ويفضّل كتابة الأغنيات العاطفية، بينما تُرجّح آراء أخرى أنها تُكتب له مقابل المال.
تختلف الآراء حول موهبته كشاعر، وحول كونه شاعراً من الأساس، وكونه روائياً، إلا أنه حصل على لقب “أفضل شاعر” لعام 2016 وشاعر العام 2019 في استفتاء شبكة قنوات “إم بي سي” السعودية، التي تخضع لإمرته ضمن ممتلكات هيئة الترفيه السعودية.
نجح تركي آل الشيخ بقوة الأموال “الغامضة” التي ينفقُها دون رقابة في رسم الوجه الآخر للسعودية… الحافلة بالفنانين والحفلات والحياة الصاخبة، ومنحها زخماً لم تحفل به السعودية من قبل، فتستوعب جميع الظواهر الفنية. تحتفي بنجوم الطرب كأنغام وتستقبل بحفاوة شديدة مغني المهرجانات كحسن شاكوش وعمر كمال الذين يؤدون أغنياتهم وسط الراقصات الاستعراضيات، وكأنه يشارك ببناء السعودية الأخرى، التي لم تكن موجودة أبداً بدعم مباشر من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ويبدو أن ما حققه حتى الآن مرضٍ تماماً، ومتوافق مع السياسة الجديدة في المملكة، حتى إن صحيفة “سبق” الإلكترونية السعودية ذائعة الصيت، وصفته بـ”صانع الترفيه وأكثر المسؤولين السعوديين المتفق على نجاحهم على أرض الواقع”.
* صحافي مصري
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"