وقل للشامتين صبرًا.. فإن نوائب الدنيا تدور

مشاركة
* عادل نعمان 11:58 م، 13 يناير 2022

ولكل الشامتين من كل الفصائل. أنقل لكم من كتب التاريخ أن أيوب حين سأله سائل: «ما كان أشق عليك يا أيوب من بلائك هذا؟»، ويقصد السائل «بلاء المرض»، قال: كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون.. غير شماتة الحساد، وفى رواية أخرى شماتة «الخلان» ويقصد الشماتة فى «الضُّرِّ» الذي أصابه، وقد نادى ربه «وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين».. والحكاية كما تناقلتها الكتب هذه: لما زاره أخواه جلسا بعيدا عنه، وكانا قد عافا منه رائحته الكريهة، وأعرضا عنه واشمأزا منه، وقال أحدهما للآخر: «لو كان فى أيوب خيرا ما ابتلاه ربه بهذا الضر وبهذا البلاء» فلما سمعهما أيوب، أسرها فى نفسه، وكانت أشق عليه من محنة المرض والابتلاء. اللهم عافنا من محنة المرض والبلاء والشماتة.

ولا أدرى لماذا يتناقل إخواننا في مجالسهم، وخصوصا الإسلامويين، وهم سبب رئيسي فى هذا الداء، هذه التراثيات والحكايات إن لم تكن للعبرة والعظة والامتثال والطاعة لقدر الله فى العباد، ثم يخالفون ما بها من عِبر وإرشاد، ويشمتون هم وغيرهم فى المرض أو فى الموت؟!.. ليس هذا فقط، بل ينسبون إلى الرسول حديثا «تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء وشماتة الأعداء» ثم يخالفونه أيضا.. ثم لماذا هذا التفاخر وهذا التباهي بخُلق الرسول حين مرت عليه جنازة فقام، فقيل له إنها جنازة يهودى، فقال: أليست نفْسًا؟ فلم يشمت ولم يسب.

لقد صدعتمونا بهذه القصص على المنابر وعظا وإرشادا، فما كل هذا النفاق وهذا البهتان؟، فكيف تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟ اللهم لا شماتة فى البعيد والقريب حتى لا يحسبنا صاحب المقام بالأعداء.

.. وليس الموت فى الحوادث والمَلمَّات والمرض انتقاما إلهيا، وليس الموت على الفراش الوثير رضا وثوابا من الله، وليس انتصارا لطرف وهزيمة لآخر، وليس تصفية حساب وخاتمة عقاب.. تغرق السفن، وتسقط الطائرات، وتحترق القطارات، وتجرف السيول البيوت والوديان، ويباد الملايين في الحروب والزلازل والبراكين، ويتقاسم الموتَ الصالحون والفاسدون، وكم من ظالم مات وسط أولاده وأحفاده هادئا ساكنا!، وكم من مظلوم مات فى الأحراش والأدغال دون مغيث أو وداع أو لحظة قرب من الأحباب!، ورحم الله شاعرا أنشدنا (فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون ما لقينا).

وأتساءل: ماذا دهانا؟ وما هذا الذى أصابنا جميعا؟ ولماذا هذه الشماتة وهذا التشفي فى خلق الله؟ لماذا نشمت فى مصائب الناس، أو مرضهم أو فشلهم أو خراب ديارهم؟ وقد كنا يوما نحزن لحزن الجار ونفرح لفرحه، ونُواسى الجريح ونعزّى المصاب ونَعُودُ المريض، ونفتح بيوتنا لاستقبال الوافدين لعزاء الجار أو زيارته، نطعمه مما نطعم، ونسقيه مما نسقى، وقد كنا أقل تدينا وهوسا بمظاهر التدين وشكله والتفاخر به، إلا أن الناس كانوا أكثر رحمة ومحبة وسلامًا.

من هذا المقال، أدعو خبراء الاجتماع وعلماء النفس والمراكز البحثية المتخصصة إلى القيام بدورها الذى يجب عليها القيام به، دون انتظار توجيهات أو قرارات سياسية، لدراسة هذه الظاهرة الخطيرة، التى أزعم أنها قد تمكنت من الأغلبية الساحقة فى مجتمعنا، وهى ظاهرة «التشفي» و«الشماتة» و«الغل» إلى «الفُجور فى الخصومة» فى خلق الله، بل وصلت إلى داخل البيت الواحد بين الأقارب والإخوة، حتى تجمعت ودفعت المجتمع إلى جرائم لم يكن لنا بها عهد أو َمعرفة من قبل.. وإن كنا نسمع عنها يوما كنا نحسبها من فعل الشياطين ونستبعدها عن الوحوش الكاسرة فى الغابات.

وأنا أقصد تحديدا شماتة الإخوان والسلفيين أخيرا فى وفاة الدكتور جابر عصفور والإعلامى وائل الإبراشى والمستشارة تهانى الجبالى- رحمهم الله الرحمة الواسعة- وغيرهم كثير.. فهم السبب الرئيسى فى تفشى هذا الوباء فى المجتمع، بل تخطت فى حدودها جموعا عريضة قد انضمت إلى هذه الظاهرة حين بادلتهم هذه الجموع التراشق «واحدة بواحدة» كرد فعل، شماتة بشماتة، وغل بغل، حتى طغت وغطت على سلوكيات قطاعات عريضة، فتقسيم المجتمع إلى فسطاطين: فسطاط الكفار وفسطاط المؤمنين، واستعلاء واستقواء فصيل على الآخر، وعلو دم طرف على دم الآخر، وأحقية المسلمين بالجنة دون بقية الأديان، وتقسيم المجتمع إلى فرقة واحدة ناجية من النار وغيرها خالدة فيها وبئس القرار قد أصاب المجتمع بهوس التصنيف والتفريق والعزل والتقسيم والإبعاد والفرز، وكلها مفردات تقود إلى الخصام والبُغض، ومن ثم إلى المشاحنة والعراك والغيظ والغل والتشفى، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن، وما هو قادم أخطر بكثير، إن لم ننتبه إلى هذه الظاهرة اليوم وليس غدا.

وإنّا لا نتجنى على هذا التيار، فهو يتحمل النصيب الأكبر فى انقسام هذا المجتمع، نتيجة محاولاته المتكررة لإقامة الدولة الدينية، التى تقوم أصلا على فكرة التمييز والأفضلية والتفرقة والولاء والحب لأهل الدين وبُغض غيرهم واحتقارهم وازدرائهم.. وكلها تقود المجتمع إلى الفُرقة والخلاف والشقاق والتناحر والبغض، وهذه الظواهر المفجعة نتيجة محاولاته وإفرازاته.. لا أشك فى هذا.

وعندما نقول- ومعنا كل الحق- إن الحل هو فى الدولة المدنية وتحت مظلتها، نكون قد أصبنا الحقيقة والحل.

 

* كاتب مصري وباحث فى تاريخ الجماعات الاسلامية عضو المجلس الأعلى للثقافة

المصدر: "المصري اليوم"

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــاة"