قبل أسبوع -ربما أكثر، ربما اقل-، توفي الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة. مر الخبر بلا أي أثر يذكر. توقفت عند منشور للروائي الجزائري واسيني الاعرج كتب فيه: بالرئيس الذي لم يمت، ولكنه تلاشى. بالفعل هذا كان حال بوتفليقة الذي أصر على خوض الانتخابات في بلاده للدورة الخامسة وهو فعليا على فراش الموت قبل سنوات قليلة. لأعطي الرجل حقه، منذ ترشح لأول مرة سنة ١٩٩٩، وتأثيره الحقيقي بإخراج الجزائر من حرب أهلية دموية مرعبة، كان هناك على الأقل انتخابات يخوضها الرجل ويفوز لمدة خمس مرات.
الوضع الفلسطيني يختلف طبعا جذريا، فمنذ صار أبو مازن رئيسا للسلطة الفلسطينية اندلع الانقسام الذي تتناثر قطعه على رؤوسنا كانفجار حتى هذه اللحظة. اما الانتخابات التي تربع من خلالها أبو مازن على رأس كل السلطات الفلسطينية تباعا – باستثناء رئاسة الوزراء- مؤقتا ربما- حيث انه وسط الخلافات الفتحاوية على البقاء على كل كرسي شاغر وغير شاغر في مؤسسات السلطة وفشل الحكومة أخيرا حتى بإجراء عملية تبديل لبعض الوزراء، صار حل فتح هو بحل الرئيس رئيسا للحكومة-، الانتخابات حلما جعلوه كابوسا مستحيل المنال.
ربما لم يتبق امامنا الا التهكم في ظل هذا الوضع المأساوي بجدارة. منذ يومين وتتناقل الاخبار بين تخمينات من مصادر إسرائيلية وتسريبات فلسطينية بأن الوضع الصحي للرئيس الفلسطيني الكهل قد تدهور. ولتبديد هذه الاخبار سارعت الرئاسة بتصريح غير ذات علاقة بتحديث لنا ان الرئيس اجتمع صباح ذلك اليوم برئيس هيئة التقاعد.
الرئيس دخل عزلة قوض فيها نفسه وحصنها لدرجة بدأت تحبس عليه أنفاسه، بين عمر اقترب بفعل الزمن وسنة الحياة على الانتهاء، وبين تمسك اعمى بالسلطة جعلت منه في اخر أيامه او سنواته- الامر سواء- منبوذا من قبل نظرائه من حكام العالم.
ربما في العالم الدبلوماسي يبقى لبروتوكولات التعامل ما تجعل المواجهة اقل شراسة ومباشرة، خصوصا ان وجوده يعني ضمانات لأمن يتحقق بلا عناء لإسرائيل. ولكن الرئيس الذي تعود على قضاء اوقاته مسافرا مثل سندباد بين اقطار العالم لا يجد بالفعل من يستقبله. قراره بعدم الذهاب الى الأمم المتحدة، استقبال وزير الثقافة المصري له بدل السيسي في زيارته الأخيرة لمصر. مؤتمر السيسي وبينيت الأخير الذي لم يكن الشأن الفلسطيني فيه حتى بالحديث، حيث “استأثر” بينيت بعدم الخوض بالشأن الفلسطيني الذي لا يسمح بالخوض فيه بسبب الخلافات الفلسطينية الداخلية.
اتخيل عندما يفكر الرئيس بالسفر، ما الذي سيقوله للدولة المضيفة؟ سيكلمهم عن تنسيقه المقدس مع الاحتلال وضمانه امن رعاياه؟ اتخيل كيف يخشى رؤساء العالم من الوقوف الى جانبه، من سؤال او ايماءة من أحد عن الأوضاع المتردية في سلطته؟ ماذا سيقول ان سأله أحدهم عن الفساد؟ عن جريمة قتل نزار؟ عن التزامه بتشكيل حكومة وحدة وعن -لا قدر الله- موعد الانتخابات؟ كيف سيتعامل من يقف او يجلس مقابله مع الجواب؟
بانتظار خطاب سيفجر فيه الرئيس الفلسطيني قنابل كثيرة على حسب تصريح عزام الأحمد الأخير. سيفجر الرئيس هذه القنابل في حديثه المسجل للأمم المتحدة الذي أعلن عنه وزير خارجيته الابدي المالكي، والذي سيتم نشره على اليوتيوب ليحضره رؤساء الدول.
قبل أيام نشر استطلاع رأي للمركز الفلسطيني للبحوث تبين فيه ان المطالبة برحيل- استقالة- الرئيس الفلسطيني وصلت رقما قياسيا (٨٠٪). في نفس السياق في سؤال عن أداء الحكومة الحالية ادلى ٧٠٪ من المستطلعين تشاؤمهم وعدم تمكن هذه الحكومة من تحقيق وحدة وطنية، مقابل ٢٢٪ توقعوا نجاحا.
اما نسبة الفساد التي يقتنع الانسان الفلسطيني تفشيه في مؤسسات السلطة فكانت ٨٣٪. (الاستطلاع الكامل) [1]
لا مفاجأة في هذا الاستطلاع بالتأكيد، ولا اظن حتى ان هناك حاجة للاستطلاع لتأكيد ما هو واضح. ولكننا هكذا نحب الأرقام. عندما نرى الأمور بأم اعيننا نقطع الشك باليقين ربما.
هل ينتظر الرئيس وزمرة قيادته ان تصبح نتيجة الاستطلاع ١٠٠٪ حتى يفهم ان ما يجري يؤكد فقط على انه انتهى؟
اعترف انني لا زلت اشعر ببعض الأسى عند التفكير بالنهاية المأساوية التي تنتظر الرئيس. ربما ينتظرنا استمرار بالعيش بمأساة طبعا، لأن رحيل رجل لن يحل ازمة ما يجري. فالمشكلة هي بالنظام نفسه. فلن يتغير شيء باستبدال شخص بآخر لطالما المنظومة هي نفسها: منظومة شمولية استبدادية فاسدة.
والحقيقة أني لم اعد اعرف ان كان هناك لا يزال أي فرصة للرئيس بنهاية نقول بها ” الله يرحمه”. فلقد عزل نفسه عن الشعب منذ ان عرفناه رئيسا- بصراحة انا لم اعرفه قبل ان يصير رئيسا-. مؤسف كيف يختار البشر- في هذه المواقع- أحيانا نهاياتهم التي لا تترك اثرا. حالة من التلاشي تهيمن على المشهد القادم بالتأكيد.
تلاشي رئيس وتلاشي سلطة وتلاشي قضية عزلها هؤلاء واستفردوا بها وانتزعوا منها كل احقيتها لتصبح املاكا خاصة لهم ولسلالاتهم البائسة.
ليبقى شعب يخرج منه ابطالا أحيانا ليمنحونا بعض الامل. ونعيش بانتظار وتمنّي: محاسبة قاتل وقتلة هدروا حياة مواطن اسمه نزار بنات. تحرر أسرى بصفقة تبادل او بشق نفق. انتخابات ربما تحرك ركود المستنقع الحانق الذي يخنقنا تدريجيا بينما يفنى أولئك ويتلاشون مع الزمن.
* كاتبة فلسطينية
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــاة"