لا يمكن لأى متابع محايد لتطورات أزمة السد الإثيوبي إلا أن يقف كثيرا أمام الموقف المصري الذى ضرب أروع الأمثال في الحفاظ على فرص الحل السلمى لهذه الأزمة، ومازال يتمسك بالمسار التفاوضي رغم كل العقبات التي تثيرها إثيوبيا ضاربة بعرض الحائط الجهود الإفريقية والإقليمية والدولية التي تسعى إلى إيجاد حلول مقبولة من كافة الأطراف .
لم تتوان مصر طوال عقدٍ من التفاوض أن تبدى كل أنواع المرونة الممكنة والبحث عن البدائل وطرح عشرات المقترحات التي من شأنها تحريك الأمور إلى الأمام ارتباطاً بالقناعة التي أعلنتها القيادة السياسية مراراً بأننا لسنا ضد بناء السد أو ضد الجهود الإثيوبية لتنمية اقتصادها، ولكن بشرط ألا يؤثر ذلك على أمن مصر المائي الذى من المؤكد أنه سوف يتأثر في حالة استمرار إثيوبيا في نهجها الحالي، خاصة التوجه نحو الملء الثاني دون اتفاق مثلما فعلت فى الملء الأول .
لم تطرح مصر طوال العملية التفاوضية أية مطالب تعجيزية وتمثل جوهر الموقف المصري فى ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني شامل وملزم بشأن ملء وتشغيل السد ، وهذا هو نفس الموقف الذى تلتزم به أيضا دولة السودان الشقيق باعتبار أن كلا من مصر والسودان هما دولتا المصب والمتضررتان من مسار بناء السد على النحو القائم حالياً ، ولاشك أن ما حدث في السودان عقب الملء الأول يؤكد هذا الأمر .
سعت مصر إلى إشراك المجتمع الدولي فى هذه الأزمة بعد أن تأكد فشل المفاوضات الثلاثية المطولة مع كل من السودان وإثيوبيا ، ومن ثم حرصت على أن تمنح القوى الأخرى دورا في حل الأزمة ابتداء من نوفمبر 2019 وذلك من خلال وساطات من ممثلين على أعلى مستوى سياسي وفنى من الولايات المتحدة والبنك الدولي، وتم التوصل إلى اتفاق في نهاية فبراير 2020 بعد مفاوضات مكثفة، وللأسف رفض المسئولون الإثيوبيون توقيع الاتفاق، وبالتالي تم وأد هذا الجهد الدولي الذى كان يمكن أن يحقق اختراقاً في هذه الأزمة .
واتساقاً مع موقفنا السياسي قدمت مصر أكثر من خطاب إلى مجلس الأمن الدولي بشأن خطورة الوضع بهدف إشراكه في تحمل المسئولية، باعتباره المؤسسة الدولية المنوط بها الحفاظ على الأمن والسلم العالمي ، ثم وافقت مصر على التفاوض فى إطار رئاسة الاتحاد الإفريقي من أجل أن تبعث رسالة إلى المجتمع الدولي بأن مصر حريصة أيضاً على حل هذه المشكلة في إطار القارة الإفريقية، مع الترحيب بوجود وسطاء آخرين فى المفاوضات من الاتحاد الأوروبي وأية أطراف أخرى .
وفى الوقت نفسه تحركت مصر على المستويين الإقليمي والدولي لشرح كافة الجهود التي قامت بها على مدى السنوات الماضية وكيف كانت حريصة على إنجاح المسار التفاوضي في مقابل تشدد إثيوبي غير مبرر تماماً ، كما اتجهت مصر إلى وعائها العربي المتمثل في الجامعة العربية ليس فقط لتكون شاهدة على إيجابية الموقف المصري، ولكن من أجل أن يكون الموقف العربي داعما لنا بقوة في أزمة متفاقمة تتعرض لها دولتان عربيتان .
إذن فإن الواقع يؤكد أن مصر طرقت كافة الأبواب للتوصل إلى حل سياسي للأزمة ابتداءً من توقيع اتفاق إعلان المبادئ في مارس 2015 ومروراً بالخطاب التاريخي الذى ألقاه الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام البرلمان الإثيوبي وانتهاءً باللجوء إلى كل من مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ، ولم ترفض مصر في أي وقت كافة مراحل التفاوض الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي حتى تثبت تمسكها بالحلول السياسية حتى آخر مدى ممكن .
وفى مقابل هذا الموقف المصري شديد التحضر نجد الموقف الإثيوبي الذى انتهج كل أساليب المناورة والتشدد ورفض كل الحلول السياسية وعارض أي دور فعال للوسطاء ، ثم بدأ فى طرح مقترحات لا يمكن قبولها مثل الاستعداد لتبادل البيانات مع مصر والسودان وإمكانية التوصل لإتفاق جزئي حول الملء الثاني فقط دون القبول بأية التزامات، بل والتأكيد على مواصلة بناء عشرات السدود .
وأيا كانت مبررات الموقف الإثيوبي، سواء التذرع بأوضاعه الداخلية المتردية، أو اعتبار أن السد يعد أهم مشروعاته القومية، ولابد من استكماله ، فإن مصر سوف تظل رافضة لكافة الذرائع التي تسوقها أديس أبابا والتي تحاول أن تجعلها الغطاء الشرعي لمواصلة بناء السد دون أن تضع فى اعتبارها المصالح والحقوق المائية المصرية والسودانية .
وبالرغم من تعثر كافة جهود الحل واستمرار التعنت الإثيوبي فإن مصر حريصة على أن توجه للعالم رسالة شديدة الوضوح لها هدفان رئيسيان الأول أننا لانزال نتبنى خيار حل سياسي نقبله مع رفض سياسة الأمر الواقع، أما الهدف الثاني فيتمثل في أن المياه هي قضية وجود ولن تسمح مصر لأحدٍ أيا كان بالإضرار بحقوقها المائية التاريخية .
إننا أمام أزمة واضحة المعالم، سواء في مواقف أطرافها أوفى إمكانيات حلها، أوفى تداعياتها السلبية على الاستقرار في المنطقة في حالة عدم الحل، وهنا أود أن أشير إلى نقطتين مهمتين الأولى أن الشارع المصري الواعي يؤيد موقف قيادته السياسية في هذه الأزمة ويتساءل من يحمى إثيوبيا ؟ والنقطة الثانية أتساءل فيها عن أسباب عدم التحرك الدولي الفاعل قبل أن تنزلق الأزمة إلى مرحلة اللاعودة ؟ وكلمة أخيرة أقولها إن على العالم أن يكون على قناعة بأن القيادة السياسية المصرية عندما تعلن أن كافة الخيارات مفتوحة فإنها بإذن الله قادرة على الحفاظ على حياة ومستقبل الأجيال الحالية والقادمة.
* نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الحيــــاة .