سد النهضة: مصر وأثيوبيا ما بين التصعيد والاحتواء

مشاركة
صورة أرشيف صورة أرشيف
* د. سنية الحسيني 10:35 م، 25 مارس 2021

عاد التوتر بين القاهرة وأديس أبابا يطفو على السطح مرة جديدة، بعد إعلان الأخيرة رفضها التراجع عن ملء خزان سد النهضة بالماء في شهر تموز القادم، للسنة الثانية على التوالي. وكان ساد توتر مشابه بين البلدين في شهر تموز من العام الماضي، عندما بدأت أثيوبيا بملء خزان السد لأول مرة. ووصلت الخلافات بين البلدين إلى هذا الحد الخطير بعد فشل مفاوضات امتدت لأكثر من سبع سنوات، نجحت خلالها أثيوبيا بالانتهاء من بناء حوالي ٧٩٪ من السد وتعبئته دون تنسيق أو اتفاق مع الدول العشر الأخرى المشاطئة لنهر النيل بما فيها دولتا المصب، مصر والسودان، الأكثر تضرراً من ذلك التطور. طوال السنوات الماضية، توسطت العديد من الجهات بين مصر وأثيوبيا، سواء كانت الولايات المتحدة أو الخرطوم أو الاتحاد الأفريقي، من أجل جسر الخلافات بينهما دون سبيل. ورغم الحديث يوم الثلاثاء الماضي عن احتمال لعب دولة الإمارات العربية لدور الوسيط في هذه الجولة الجديدة من التوتر بين البلدين، من الصعب التنبؤ بإمكانية نجاحها. وليس من المتوقع التوصل إلى حل لمشكلة سد النهضة في الوقت الحالي، والتي باتت تمثل قضية وجودية ومسألة أمن قومي لكلا البلدين. ويبقى السؤال مفتوحاً هل تبقى الحرب الباردة مشتعلة بين البلدين دون دخان أم أن هناك دخاناً في الأفق؟

سد النهضة، مشروع ضخم لتوليد الطاقة الكهرومائية، بدأت أثيوبيا في بنائه عام ٢٠١١، مستثمرة فيه مليارات الدولارات، بدعم من قبل دول عديدة منها الصين وايطاليا وإسرائيل. ويعتبر السد الأضخم أفريقياً، بعد أن تخطى السد العالي المصري، والعاشر عالمياً. ورغم أن فكرة بناء سد النهضة ليست جديدة، حيث ظهرت في مطلع ستينيات القرن الماضي رداً على بناء السد العالي، الا أن عملية التشييد الفعلي للسد قد بدأت في ظل تأجج الثورات العربية، وانشغال مصر ضمن معطياتها. ويقع السد على مجرى النيل الأزرق الذي تشكل مياهه ٨٥٪ من مياه نهر النيل الذي يجري في مصر ويشكل مصدر مياهها الرئيس. ويؤثر بناء السد على حصة مصر السنوية من المياه التي تصب في نهر النيل ما يهدد مناحي أساسية عديدة من الحياة المصرية على رأسها توليد الكهرباء من السد العالي ومستوى الري والإنتاج الزراعي، في بلد تخطى عدد سكانه المائة مليون نسمة.

يبرز الخلاف جلياً بين مصر وأثيوبيا حول الحقوق الأساسية لاستخدام مياه نهر النيل، والتي تنظمها اتفاقيتا عام ١٩٢٩ وعام ١٩٥٩، واللتان تعطيان دول المصب الحق في نقض أي إجراءات تقوم بها دول المنبع من شأنها أن تؤثر على نسبة المياه المحددة لدول المصب، بما فيها إقامة السدود. وخصصت تلك الاتفاقيات لمصر حوالي ٥٥,٥ مليار متر مكعب من المياه سنوياً بينما خصصت للسودان ١٨,٥ مليار متر مكعب منها لضمان حقوقهما المائية. ورغم أن الاتفاقيات لا تنتهي بالتقادم، وتحتاج إلى حدث طارئ لإعادة النظر فيها، ترفض أثيوبيا الاحتكام اليها، وتعتبرها تراثاً استعمارياً. وسعت دول المنابع بقيادة أثيوبيا منذ تسعينيات القرن الماضي لتجاوز تلك الأطر القانونية، وذلك بوضع إطار جديد لتقاسم المياه، ودعت بعد ذلك للتوقيع على اتفاقية عنتيبي الإطارية عام ٢٠١٠، والتي اعتبرتها مصر مضرة بأمنها القومي، واشترطت مع السودان أن تنص على حقيهما برفض إقامة أي مشروعات على النيل تضر بحصتيهما.

 

استغلت أثيوبيا سبع سنوات من المفاوضات مع مصر منذ عام ٢٠١٣، لتغير الواقع على الأرض، إذ بدأت في بناء سد النهضة قبل ذلك بعامين، ونجحت بالفعل في تشييد معظم أجزائه، ومن المتوقع أن يكتمل بناؤه خلال العامين القادمين. واليوم بات السد واقعا قائما، وباتت مصر تسعى من خلال تلك المفاوضات لمتابعة قضايا فنية تتعلق بتشغيل السد كآليات تعبئته والمدة الزمنية لحدوث ذلك. وتتطلع مصر بشكل عام إلى وضع التزامات تقيد حق أثيوبيا في بناء سدود إضافية على طول النيل الأزرق، ووضع آليات ملزمة لتسوية النزاعات المستقبلية بين البلدان الثلاثة. وطالب السودان مؤخراً بوساطة رباعية للتفاوض حول تطورات تشغيل سد النهضة فقط، تضم واشنطن والأمين العام للأمم المتحدة والاتحادين الأفريقي والأوروبي، ودعمت مصر طلب السودان. يأتي ذلك في ظل عدم التقدم في المفاوضات الثلاثية الحالية بوساطة الاتحاد الأفريقي، والتي بدأت في منتصف العام الماضي، بعد انتهاء الدور الأميركي.

وتفضل أثيوبيا استمرار وساطة الاتحاد الأفريقي بشكل منفرد، والتي لم تحقق المفاوضات في ظلها أي تقدم. وكانت أثيوبيا انخرطت مع مصر والسودان في عدد من الجولات التفاوضية برعاية الولايات المتحدة، بناء على طلب من مصر، ومشاركة من قبل البنك الدولي، ما بين شهري كانون الأول عام ٢٠١٩ وشباط عام ٢٠٢٠ ، الا أن أثيوبيا رفضت في النهاية القبول بالصيغة الاميركية للحل، مدعية تحيز الولايات المتحدة لمصر. ونتيجة لذلك، علقت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، جزءاً من مساعداتها الموجهة لأثيوبيا، الا أنها لم تتدخل بحسم لردع مخالفاتها. ولا تبدي إدارة الرئيس الجديد جو بايدن اهتماماً بحل مشكلة سد النهضة حتى الآن. وليس من المتوقع في الوقت الحالي نجاح دولة الإمارات العربية، إن تدخلت كوسيط، في تحقيق اختراق مهم في المفاوضات بين البلدان الثلاثة، تماماً كما لم تنجح جميع مساعي الوساطة التي جاءت منذ عام ٣٠١٣، أمام تعنت أثيوبيا وإصرارها على المضي قدماً لاستكمال بناء السد وتشغيله.

تدعي أثيوبيا أن من شأن سد النهضة حل العديد من مشكلاتها المستعصية، على رأسها مشكلات تتعلق بالتنمية، حيث يتخطى عدد السكان فيها المائة مليون نسمة، يعاني غالبيتهم من الفقر وانخفاض شديد في مستوى المعيشة. كما يعاني أكثر من ٦٥ بالمائة منهم عدم ارتباطهم بشبكة الكهرباء الحكومية، بالإضافة إلى مشكلات تتعلق بمياه الشرب وتدفق مياه الري وإدارة فترات الجفاف. ويعتمد أبي أحمد رئيس الوزراء الأثيوبي على تدعيم مكانته بالترويج للتطور الاقتصادي في بلاده، في ظل وجود قوى معارضة وانفصالية تتربص بنظام الحكم، وإقبال البلاد على انتخابات تأجلت من قبل بسبب جائحة كورونا. ليس من المتوقع أن تتراجع أثيوبيا في الوقت الراهن عن استكمال مخططاتها فيما يتعلق بسد النهضة، خصوصاً بعد أن جرى تحويله إلى قضية رمزية وطنية، بالإضافة إلى أن معظم التمويل المحلي للسد جاء من بيع سندات حكومية للمواطنين.

على الجانب الآخر، اختارت مصر طريقاً سياسياً ودبلوماسياً لحل أزمتها مع أثيوبيا فيما يتعلق بسد النهضة، فاستعانت بالوساطة الأميركية وبتدخل مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأفريقي من أجل التأثير على موقف أثيوبيا. ونجحت مصر في تقريب السودان الذي كان يقف متأرجحاً في موقفه من سد النهضة ما بين مصر وأثيوبيا. وتلجأ مصر لحلفائها من دول الخليج الذين استثمروا في مشاريع اقتصادية أثيوبية للضغط على أثيوبيا، كما تعمل على توطيد علاقاتها مع جيران أثيوبيا، بما في ذلك أريتريا وجنوب السودان والصومال لذات السبب.

ليس من المتوقع الوصول إلى مرحلة التصعيد العسكري بين البلدين الآن، على الرغم من امتلاك مصر لجيش قوي وقوات جوية تحتل المرتبة العاشرة في العالم، لما يحمله ذلك من مخاطر كبيرة. إن ضربة عسكرية مصرية لسد النهضة قد تحدث كارثة بيئية تصل للسودان ومصر أيضاً، خصوصاً بعد أن تم تعبئة السد. كما أن مثل ذلك التصعيد لن يغير من واقع سيطرة أثيوبيا على منبع النيل الأزرق، والذي يستدعي وجود ضوابط قانونية متفاهم عليها بين البلدين. ورغم ذلك تحتاج مصر لآلية تردع أثيوبيا وتمنعها من التمادي مع مصر. من المرجح أن تواصل مصر نشاطها الدبلوماسي والسياسي بالتعاون مع السودان، ولكن يظل احتمال اللجوء إلى القوة وارد، في ظل استمرار تصلب الموقف الأثيوبي والتضرر المصري والفشل الدبلوماسي.

 

* أكاديمية وكاتبة فلسطينية

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"