مصر في مواجهة إقليم مضطرب

مشاركة
اللواء محمد إبراهيم الدويري 12:08 ص، 25 مايو 2020

من الواضح أن مصر تواجه خلال المرحلة الحالية مجموعة من التحديات المؤثرة على أمنها القومي (الوضع في ليبيا، قضية السد الإثيوبي، القرار الإسرائيلي بضم منطقة غور الأردن)، ولعل أهم ما يمكن أن ننوه إليه هنا أن هذه التحديات قد تجمعت في توقيت واحد، وهو ما يُلقي بالعبء على طبيعة التعامل المصري معها وكيفية مواجهتها ارتباطًا بالسياسة العامة التي تحكم السياسة المصرية.

وبالتالي، من الضروري أن نوضح في البداية المبادئ التي تحكم السياسة المصرية في مواجهة القضايا الإقليمية والدولية المهمة، حتى يمكن الاقتراب من كيفية التعامل المصري مع هذه التحديات أو التهديدات. ويمكن تحديد أهم هذه المبادئ فيما يلي:

– رفض التدخل الخارجي في الشئون الداخلية المصرية تحت أي مسمى باعتبار أن مصر لا تتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى.

– أهمية تحقيق الاستقرار والأمن الإقليمي، وهو ما يتطلب تسوية كافة المشكلات بالطرق السلمية، خاصة أن الحلول العسكرية لا تحسم الصراعات المثارة حاليًّا في المنطقة.

– أن التدخل الخارجي في المشكلات الإقليمية أمر من شأنه أن يؤجج الصراعات ويزيد من تعقيداتها، ومن ثم يجب وقف أية تدخلات خارجية من جانب أية أطراف إقليمية أو دولية.

– أن هناك ضرورة لبذل كافة الجهود من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية، ليس فقط في المنطقة وإنما على مستوى القارة الإفريقية، وهو ما يفتح المجال أمام مزيد من تحقيق الاستقرار السياسي.

– أن محاربة الإرهاب تظل إحدى أولويات السياسة المصرية، ومن ثم يجب أن تتضافر الجهود الدولية من أجل مكافحة الإرهاب ومعاقبة كل الدول الداعمة له.

 

أولًا- تطورات الوضع الليبي:

شهد الوضع الليبي خلال الفترة الأخيرة تجاوزًا تركيًّا على الأراضي الليبية فاق كافة الخطوط الحمراء، حيث قام النظام التركي بتقديم كل أنواع الدعم لحكومة الوفاق في الغرب الليبي من أسلحة متطورة، خاصة الطائرات المسيرة ومنظومات الدفاع الجوي المتقدمة، وإمدادهم بآلاف المرتزقة والميليشيات، مما يُعد انتهاكًا صارخًا لكافة الاتفاقات التي تمت، خاصة مخرجات مؤتمر برلين الذي عُقد في يناير الماضي. وقد أدى هذا الدعم المتواصل إلى سيطرة الميليشيات المدعومة من تركيا على قاعدة الوطية الجوية التي تمثل أحد المواقع الاستراتيجية في ليبيا والتي تهدف تركيا إلى السيطرة عليها بشكل دائم.

وفي الوقت نفسه، يواصل النظام التركي تحركاته العسكرية دون أن يُعطي أي اهتمام للمطالب الدولية بوقف إطلاق النار حتى في ضوء انتشار وباء كورونا، بل ويسعى إلى مزيد من التقدم للسيطرة على مدينة ترهونة وكل منطقة طرابلس. وقد يصل الأمر إلى التوجه إلى الجنوب الليبي رغم صعوبة تحقيق ذلك، مع الأخذ في الاعتبار الأهداف التركية المعروفة للاستيلاء على منطقة الهلال النفطي الليبي والتنقيب عن الغاز والبترول في منطقة شرق المتوسط، وهو ما سوف يمثل تغييرًا استراتيجيًّا في مقدرات الأزمة الليبية ككل، ويهدد في حالة استمراره الأمن القومي المصري والعربي.

 

وفي ظل تفاقم هذه الأزمة، عقدت مجموعة الاتصال الإفريقية اجتماعًا في 19 مايو الجاري على مستوى رؤساء الدول والحكومات. وقد حرص السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” على استثمار هذا الاجتماع في إعادة التأكيد على رؤية مصر لحل الأزمة الليبية، وفق المبادئ التالية:

– أن استقرار ليبيا يعتبر من محددات الأمن القومي المصري، وأن مصر لم ولن تتهاون مع الجماعات الإرهابية ومن يدعمها.

– ضرورة التوصل إلى حل سياسي لهذه الأزمة بما يحافظ على سيادة ليبيا وأمنها ووحدة أراضيها.

– رفض التدخلات الخارجية في الشئون الليبية مع تقديم الدعم الكامل لإرادة الشعب الليبي.

 

ثانيًا- تطورات أزمة السد الإثيوبي:

بعيدًا عن الخوض في تفصيلات هذه الأزمة وتقييم نتائج مفاوضاتها التي استغرقت حوالي تسع سنوات دون التوصل إلى الحل العادل والمتوازن والمنصف الذي تنادي به مصر بما يحقق مصالح الأطراف الثلاثة (مصر، وإثيوبيا، والسودان)، فقد شهدت الأزمة خمسة تطورات جديدة يمكن الإشارة إليها فيما يلي:

التطور الأول، تقديم مصر خطابًا تفصيليًا إلى مجلس الأمن في الأول من مايو الحالي تضمن شرحًا للموقف المصري تجاه السد المتسق مع القانون الدولي ونتائج سنوات التفاوض. وقد طلب الخطاب من أعضاء مجلس الأمن دفع إثيوبيا إلى عدم اتخاذ أية إجراءات أحادية دون اتفاق، وتشجيعها على قبول الاتفاق الذي تم التوصل إليه برعاية أمريكية ومن البنك الدولي ووقعت عليه مصر بالأحرف الأولى في 28 فبراير 2020. كما أكد الخطاب أن هذا الوضع يشكل تهديدًا خطيرًا للسلم والأمن في جميع أنحاء المنطقة (طلبت مصر تعميم هذا الخطاب ومرفقاته كمستند لمجلس الأمن).

التطور الثاني، قيام إثيوبيا في المقابل بتقديم خطاب مماثل إلى مجلس الأمن في 14 مايو الحالي، ادعت فيه سلامة موقفها وأنها تعاملت بشفافية في هذا المجال. كما أشارت إلى أن بناء السد يرتكز إلى حقوقها السيادية والشرعية في استخدام المياه، بالإضافة إلى الادّعاء بأن مبادرة دول حوض النيل هي الأداة الوحيدة القابلة للتطبيق لتقاسم عادل للمياه والتوازن الصحيح لإنهاء ما أسمته نهج مصر الاحتكاري لنهر النيل.

التطور الثالث، عقد اجتماع يوم 19 الجاري (عبر تقنية الفيديو) ضم رئيسي وزراء مصر والسودان، وكذا وزراء الخارجية والري ورئيسي جهاز المخابرات في الدولتين، حيث تم بحث آخر تطورات الموقف في ضوء توقف المفاوضات. وقد أوضح رئيس الوزراء السوداني أنه سيقوم بإجراء اتصالات مع رئيس الوزراء الإثيوبي لاستكشاف موقفه إزاء العودة إلى مائدة المفاوضات على أساس مسار واشنطن.

التطور الرابع، دعوة الأمين العام للأم المتحدة في 20 الجاري إلى أهمية التوصل لاتفاق ودي بين مصر والسودان وإثيوبيا طبقًا لإعلان المبادئ الموقّع عام 2015، مؤكدًا أهمية الإعلان الموقع بين الدول الثلاث والقائم على أساس التفاهم المشترك والمنفعة المتبادلة وحسن النية وفقًا لمبادئ القانون الدولي.

التطور الخامس، إعلان الخارجية المصرية في 22 الجاري استعداد مصر للمشاركة في الاجتماع المزمع عقده بشأن السد الإثيوبي، وذلك في ضوء الاتفاق الذي تم خلال اجتماع رئيسي الوزراء السودان والإثيوبي في 21 الجاري بعودة الأطراف الثلاثة للعملية التفاوضية.

ولا شك أن موقف إثيوبيا بحدوده الحالية والمغالطات والادعاءات التي تضمنها خطابها الموجه إلى مجلس الأمن لا يمثل فقط انتهاكًا للقانون وتحديًا للمجتمع الدولي؛ بل يعكس مدى تمسكها بأن يبدأ الملء الأول خلال الأسابيع القادمة دون التوصل لاتفاق شامل مع كل من مصر والسودان. وقد لوحظ أن إثيوبيا حاولت الالتفاف على هذا الموقف من خلال عرض اقتراح بالتوصل لاتفاق جزئي خاص بالملء الأول فقط، وهو الأمر الذي لاقى رفضًا قاطعًا من جانب كل من مصر والسودان من منطلق أن هذا المقترح يتعارض تمامًا مع إعلان المبادئ الذي يطلب من الدول الثلاث التوصل لاتفاق شامل قبل البدء في عملية الملء.

ولا شك أيضًا أن مصر ما زالت حريصة على أن تتيح مزيدًا من الوقت أمام الجهود السودانية الأخيرة من أجل التوصل لاتفاق شامل حول عملية الملء وتشغيل السد على أساس نتائج المفاوضات السابقة التي تمت برعاية أمريكية. في هذا المجال علينا انتظار الاجتماع المزمع بين الأطراف الثلاثة وتقييم نتائجه حتى تحدد مصر طبيعة الخطوة القادمة، سواء في حالة التوصل إلى توافق من عدمه.

 

ثالثًا- تطورات الوضع الإسرائيلي-الفلسطيني:

 

جاء الإعلان عن تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة في الرابع عشر من مايو الحالي بمثابة الخطوة العملية الأولى نحو تنفيذ خطة السلام الأمريكية المعروفة باسم “صفقة القرن”، حيث أعلن رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” في خطاب التنصيب في الكنيست، في 17 الجاري، اعتزام إسرائيل البدء في ضم منطقة غور الأردن ابتداء من الأول من يوليو القادم، وهو ما يُعد تأكيدًا لأحد أهم مبادئ اتفاق حكومة الوحدة الوطنية الذي وقعه نتنياهو مع “بيني جانتس” في 20 إبريل الماضي.

ومما يزيد من دعم هذا الموقف الإسرائيلي، وبالتالي تعقيد الموقف ككل، ذلك الموقف الذي عبر عنه وزير الخارجية الأمريكي “بومبيو”، حيث أكد أن موضوع الضم هو قرار يعود في النهاية إلى الحكومة الإسرائيلية. وفي هذا المجال من المهم أن نشير أيضًا إلى أن مسألة ضم غور الأردن جاءت في إطار مبادئ خطة السلام الأمريكية التي نصت في قسمها الرابع على أن غور الأردن سيكون تحت السيادة الإسرائيلية، وهو ما يعني أن هناك توافقًا أمريكيًّا إسرائيليًّا حول هذه المسألة ولا يتبقى إلا أن ننتظر العد التنازلي لوضع هذا الأمر موضع التنفيذ.

ومن المؤكد أن هذا القرار ستكون له تداعيات سلبية متوقعة على الأمن والاستقرار، ليس فقط في الأراضي الفلسطينية، ولكن على مستوى المنطقة كلها. ولعل أول هذه التداعيات قد تمثل في القرارات التي اتخذها الرئيس “أبو مازن” في 19 مايو الجاري أثناء اجتماع للقيادة الفلسطينية. وقد كانت هذه القرارت عبارة عن ترجمة لقرارات ملزمة صادرة عن المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، والتي جاءت على النحو التالي:

– أن دولة فلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية في حِلٍّ من جميع الاتفاقات والتفاهمات الموقعة مع الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية، ومن جميع الالتزامات المترتبة عليها بما في ذلك الاتفاقات الأمنية.

– أن على سلطة الاحتلال الإسرائيلي تحمل جميع المسئوليات أمام المجتمع الدولي كقوة احتلال لدولة فلسطين.

– أن الحكومة الأمريكية تُعتبر شريكًا رئيسيًّا مع حكومة الاحتلال في جميع القرارات العدوانية المجحفة لحقوق الشعب الفلسطيني.

– تجديد الالتزام الفلسطيني بمحاربة الإرهاب العالمي، وأن حَل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا بد أن يقوم على أساس مبدأ حل الدولتين.

وفي ضوء ما سبق، لا شك أن هذه القضايا الثلاث التي تم التعرض لها تدخل كلها في الدائرة الأولى للأمن القومي المصري. ومن ثم، ففي رأيي أن تعامل القيادة السياسية مع هذه القضايا سوف ينطلق من أربعة مبادئ أساسية أود أن أؤكد عليها، وهي:

المبدأ الأول، أن مصر ما زالت حتى الآن تتبنى وتؤيد وتطالب بالحل السياسي لكافة المشكلات المثارة حاليًّا، وهي على استعداد للقيام بدور إيجابي وبناء وفعال في المساهمة في حل هذه المشكلات، خاصة فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط.

المبدأ الثاني، هناك قناعة لدى مصر بأن تفاقم هذه المشكلات سيؤدي إلى تفجر الوضع الأمني في المنطقة ويهدد استقرارها ومصالحها. ومن هنا، كان التوجه المصري إلى الوساطة الدولية ثم إلى مجلس الأمن في قضية السد الإثيوبي، نظرًا لعدم توصل المفاوضات إلى أية نتائج، وبالرغم من ذلك ما زالت مصر حريصة على المشاركة في المفاوضات في حال استئنافها.

المبدأ الثالث، أن تعامل مصر مع القضايا التي تمس أمنها القومي يُعد تعاملًا جادًّا للغاية، ويخضع لحسابات دقيقة ودراسة مستفيضة لكافة البدائل المتاحة مع توافر القدرة الكاملة لدى مصر على تنفيذ البديل الأنسب الذي يتم التوافق عليه.

المبدأ الرابع، أن مصر لن تقبل مطلقًا أن يتعرض أمنها القومي إلى تهديدات حقيقية، ولن تسمح لأي طرف أيًّا كان بأن يهدد استقرارها. ومخطئ من يعتقد أن مصر بقيادتها السياسية الحكيمة والحاسمة لا تمتلك القدرة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب لردع كل من تسول له نفسه أن يهدد أمنها .

 

نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"