الحادث المؤلم الذى راح ضحيته 4 طبيبات في عمر الزهور ليس مجرد حادث مأساوي ضمن عشرات الحوادث التي تشهدها مصر يوميا، إنما هو جريمة جنائية تتحملها طريقة فى التفكير هلّت بشائرها حين أعلنت الوزيرة فى يوم تعيينها أنها تنوى عزف السلام الوطني في المستشفيات لبث الروح الوطنية لدى الأطباء، بدلاً من الاهتمام بإصلاح منظومة الصحة بعيدًا عن اللقطة والشعارات.
طبيبات المنيا ضحايا التعنت والصلف وحاملي المباخر، وهن ضحايا طريقة تفكير ترى أن الهدف هو الشعار البراق الذى يحرص على ملء الدفاتر وإثبات أن الأطباء ينفذون أمر التكليف بصرف النظر عما إذا كانت هناك وسيلة مواصلات آدمية وآمنة أم لا، وبصرف النظر ما إذا كان المكان الذى يذهبون إليه مجهزًا أم لا؟ إنما المهم أن يذهبوا وينفذوا المطلوب حتى لو كان العائد صفرًا والثمن حياتهم.
والحقيقة أن البيان الذى أصدره زملاء الضحايا من الدفعة 29 طب المنيا كان ممتازًا ومؤثرًا وأظهر الجراح التى فتحها هذا الحادث وحجم الخلل في نظامنا الإداري وطريقة تفكير بعضنا المعادية للعلم والإنجاز والمنفصلة تمامًا عن الواقع، فقد أشار إلى إجبار الطبيبات الشبات على الذهاب إلى القاهرة لحضور تدريب لصحة المرأة وتم إبلاغهن قبلها بأقل من 48 ساعة وبشكل غير رسمي عن طريق الواتس آب، مع عدم توفير وسيلة مواصلات آمنة إلى جانب التهديدات المباشرة بالنقل والجزاءات لمن يتخلف عن الحضور مع العلم أن منهن الحامل والمرضعة، فلم يقابلن من مديرية المنيا إلا التعسف والقهر.
ورغم أن هناك ظروفًا تنص عليها قوانين العمل تحول دون سفر بعض الطبيبات إلى القاهرة (مثل المصابة التي فقدت جنينها واستؤصل رحمها عقب الحادث وغيرها) كما يجرى فى بلاد العالم، وكما كان يجرى فى بلادنا قبل صعود الهتيفة وحملة الشعارات إلى بعض مواقع المسؤولية.
إن الإصرار على تنفيذ المظهر الشكلي بصرف النظر عن أى مضمون جعل هذا الحادث ليس مجرد أزمة إهمال أو سوء طرق، إنما نتيجة طريقة تفكير فاشلة مكتملة الأركان.
مدرسة الشكل على حساب الجوهر، واللقطة على حساب المضمون، اعتبرها البعض نمط حياة، واختارها البعض الآخر لكى يخفى عورات المضمون، فمشاكل الصحة والقطاع الطبي تتعلق بتدهور الخدمات الطبية وفقر الإمكانات وعدم الاهتمام بالبحث العلمي، وضعف رواتب الأطباء وطواقم التمريض، وعدم قدرة غالبية المصريين على تحمل نفقات العلاج حين لا يغطيهم التأمين الصحي (وهم بالملايين)، وليس عدم عزف السلام الوطني فى المستشفيات، ولا إجبار طبيبات فى عمر الزهور على تنفيذ أمر تكليف فى الوحدات الصحية وتجاهل كل الظروف المهنية والإنسانية التى تجعل هذا التكليف فعالاً ويمثل إضافة حقيقية للمرضى بضمان وسائل نقل آمنة وإنسانية لمن يقومون به.
رحم الله طبيبات المنيا وصبر أهلهن وذويهن.
* كاتب ومفكر سياسي مصري
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الحياة