تحقيق _ علاء الهجين
خاص _ حياة واشنطن
اقرأ ايضا: "العم زكي شاهين".. "دواء" لجراح غزة من آلام الحرب
ما أن جاءها المخاض في أول أيام الحرب، قطعت إسلام الزعنون التي تعمل مراسلة لتلفزيون "فلسطين" تغطيتها الصحفية لتنطلق في الرحلة الأصعب للبحث عن مستشفى في غزة كي تضع مولودتها؛ لأن مهمة العثور على مرفق طبي يعمل أشبه بالمستحيل في ظل توقفها عن العمل إثر قصفها من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وضعت يداها على بطنها، يعتصرها الألم وتتلوى من شدته لكنها تكتمه وهي تنتقل من شارع إلى آخر لكنها لم تجد ضالتها، إذ بدأ يتسلل إلى قلبها اليأس والإحباط ويتملكه من عدم العثور على مستشفى؛ لكن في أحد شوارع وسط مدينة غزة وجدت مستشفى خاص يعمل، ليكون بزوغ فجر جديد لها، على أمل أن ينتهي الألم الذي يُلازمها.
دخلت الصحفية إسلام إلى المستشفى حتى تضع مولودتها، لكن مهمة وقرار إجراء العملية من الأطباء لم يكن سهلاً؛ إذ كان عليهم اتخاذ قرار بإجرائها أو تركها؛ لكونهم أُخبِروا للتو بتهديد جيش الاحتلال الإسرائيلي لمبنى مجاور للمستشفى بالقصف، فاقتنصوا مهمة إنقاذ حياة أم وطفلتها من بين أنياب الموت.
صعدت إسلام بمساعدة أحد أفراد عائلتها إلى سرير الولادة، وبعد تخديرها نصفيًا لإجراء عملية الولادة القيصرية، وضعت مولودتها على أضواء كشافات الجوالات؛ لعدم توفر مصادر كهرباء، إذ شاهدت الزعنون دماءها وهي تتدفق من بطنها، انتابها الخوف والفزع، تقول: "إنه المشهد الأصعب على الإطلاق".
أخيراً، وضعت إسلام مولودتها، ظناً منها أنّ المهمة الطويلة قد انتهت، لكنها لم تتخيل أن تكون بداية لرحلة أصعب وأقسى، عاشت خلالها كل صنوف الخوف والفزع.
ممر الموت
تقول الصحفية إسلام: " بعد أن وضعت مولودتي بأيام قليلة، استأنفت عملي الصحفي، وتغطية حرب الإبادة، لكنّ شدة القصف والخوف والرعب، أجبراني على النزوح من مدينة غزة إلى أقصى رفح، عبر ممر تسميه إسرائيل آمنًا وهو أبعد كل البعد عن الأمان".
اتخذت الصحفية إسلام وأسرتها أصعب قرار لها، وهو النزوح إلى المجهول عبر ممر الموت، إذا كان أن يتوقف قلبها أثناء مرورها، بجانب الجثث الملقاة على الأرصفة، وآليات الاحتلال المُكثفة، وقد كانت خضعت قبل أيام من هذا المرور إلى عملية قيصرية ولا تزال الندب موجودة في بطنها، كما تحمل رضيعتها التي لا يتجاوز وزنها الكيلوان ونصف.
خاضت الصحفية إسلام، رحلة نزوح قاهرة وقاسية بين خيام ومنازل غير مؤهلة، تضيف: "نزحت عند بعض أقاربي وتشاركت غرفة صغيرة رفقة نحو 10 أشخاص، إذ لا راحة أو خصوصية، كما نزحت في الخيام وتحملت حرها وبرودتها، إلى أن تعايشت وعدت إلى التغطية الصحفية، إذ تكون عيناي أمام الكاميرا، وقلبي عند صغيرتي التي تركتها في المنزل".
تتابع: "أثناء تغطيتي الصحفية، تعرضت لاعتداءات واستهدافات مباشرة من الطائرات الحربية، إذ كنت بجانب من استهدفوا، وارتقوا في أكثر من مرة، لاسيما في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، كما تم استهداف الصحفيين وأنا بجانبهم، وتم استهداف مقاهي وأنا أعمل من داخلها، وتختم حديثها بالقول: "الموت يحفنا حتى اللحظة من كل الاتجاهات".
الزعنون واحدة من مئات الصحفيات الغزاويات اللاتي أُجبرن على معاينة أشكال الألم كافة، واختبار شتى صنوف الفزع، إذ إن آلاف الكيلو مرات فصلتهن عن أبنائهن وأسرهن، كنّ قريبات من موت محتمل في أي لحظة، عشن القهر والخوف بكل أشكاله، فقدن أفراداً من أسرهن، وقفن أمام الميكرفون وعدسة الكاميرا على نقاط التماس وخطوط النار، تحملن أزيز الرصاص، ودوي المدافع، وصفير الصواريخ المدمرة، فقط ليصلن أنين غزة إلى العالم، في ظل إبادة إسرائيلية تعرضت لها هي الأقسى على مر العصور.
عائلة مُشتتة
أما الصحفية نور سويركي التي تعمل مراسلة لقناة "الشرق"، فهي تعيش رفقة زوجها في قطاع غزة، بعيدة عن طفليها لأكثر من عام ونصف، إذ أجلتهما إلى القاهرة قبل عملية رفح العسكرية، خشية فقدانهم في حرب الإبادة الوحشية، لكنه قلب الأم، الذي لا يحتمل الغياب، إذ باتت تعيش معاناة مضاعفة من أهوال الحرب والحرمان.
تقول الصحفية السويركي: "لم أكن أدرك أن الحرب ستطول هكذا وأن المعابر ستُغلق، إذ بتنا عائلة مُشتتة، وندفع ثمناً باهظاً في حالتنا العائلية".
في كل لحظة من نقل صور الإبادة إلى العالم، تشعر الصحفية السويركي، أنها على على مقربة من الموت، كونها تعمل في منطقة حرب وعلى خطوط التماس، إذ الغارات والقصف لا يتوقفان، منذ بدء العدوان في السابع من أكتوبر 2023.
تتابع: "أحياناً أفقد السيطرة على مشاعري، أنهار، وأخرى نبكي أمام الشاشات، الأمر ليس بسيطاً أبداً، لاسيما في حالات الفقد والمجازر، هناك حالات إنسانية لا يمكن تجاوزها".
بثت خبر استشهاد شقيقها
بينما كانت مراسلة قناة "الكوفية"، الصحفية ناهد أبو هربيد، تتجهز للخروج برسالة إعلامية، وردها خبر استشهاد شقيقها محمد في مخيم جباليا شمال قطاع غزة إذ نقلته على الهواء مباشرة فحينها شعرت بصدمة شديدة وكادت أن توقف عملها الصحفي، وفي موقف آخر ومغاير، جاءها أيضاً خبر اعتقال شقيقها الآخر "رافع" وهو مقعد ومبتور القدمين، إذ تم تعذبيه وسحله من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وخلع قدميه الاصطناعيتين، وجعله غير قادر على الحركة، وحتى هذه اللحظة مصيره مجهول تماماً.
تقول الصحفية ناهد: "الحرب كانت مؤلمة جداً، خاصة وأني أعلنت استشهاد أحد أفراد عائلتي على الهواء مباشرة، وحينها، تساءلت هل أوقف رسالتي الإعلامي أم أستمر، الخياران كانا صعبان جداً".
نزحت الصحفية أبو هربيد أكثر من 12 مرة، إذ عدّتها أنها التجربة الأسوأ ومليئة بالألم والمرار، إذ كانت تهرب رفقة عائلتها من مكان إلى آخر، فعند الاستقرار أو التعايش في مكانها الجديد، يأتي تهديد إسرائيلي جديد إلى المنطقة يُنذرها بالإخلاء فوراً، إذ تقوم بالنزوح مُجدداً إلى مكان يسميه الاحتلال آمناً، وهو غير ذلك.
تضيف: "تواجدت في العديد من خطوط التماس، إذ كان جيش الاحتلال يُطلق النيران مباشرة، وقنابل صوتية، ودخانية، ورصاص حي، أذكر ذات مرة كنت في تغطية شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة، فأطلق الجيش النيران بشكل مباشر وموجهة، حتى أصيب بعض من زملائي الصحفيين.. مع العلم كنا نرتدي درع وخوذة الصحافة المتعارف عليها محلياً ودولياً".
وتتابع: "في كل وقت أشعر أن خطر الموت قريب مني، لاسيما مع قرب الاستهدافات، لاسيما خلال استهداف الصحفيين وخيامهم وأماكن عملهم".
مطلوبون لإسرائيل
أما الصحفية صافيناز اللوح، مراسلة تلفزيونية لقناة "أصيل"، فقد تعرضت للكثير من المخاطر أثناء تغطيتيها الإعلامية لحرب الإبادة، إذ ذات مرة، لاحقتها طائرة كواد كابتر "حربية إسرائيلية"، خلال عملها الميداني، وهي تتواجد بالقرب من منطقة محور نتساريم القتالي.
تقول الصحفية اللوح: "عندما رصد جيش الاحتلال اسمي ضمن أسماء عدة من الصحفيين على أننا مطلوبون له، كان هذا الأمر ليس بالهين أبداً، كما تعرضت لاستهداف مباشر مرتين من جيش الاحتلال، الأولى في منزلنا تم استهدافي أنا وشقيقي الصحفي أحمد قبل أن يستهد لاحقاً، إذ أطلقت طائرة (الكواد كابتر) النار علينا بشكل مباشر، إذ قمنا بالاختباء تحت أحد أعمدة المنزل، أصبت آن ذاك، وأصيب شقيقي أحمد أيضاً، كما تم استهدافنا بقنبلة أطلقتها طائرة كواد كابتر في مجزرة مخيم النصيرات، في شهر مارس الماضي، إذ أصبت بشظية بقدمي اليسرى، وبعد شفائها، استأنفت عملي الصحفي مباشرة".
وتُكمل حديثها: "دائما أشعر أنني معرضة للخطر وقريبة من الموت من جيش الاحتلال، خاصة أنني ملاحقة من طائراته في العديد من المواقف".
الصحفيون محميون
رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد" د. صلاح عبد العاطي، أكّد أن الصحفيين محميين بموجب جميع الأعراف والمواثيق الدولية، وعلى رأسها قواعد القانون الإنساني، ومجلس الأمن في حماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة، لذلك ما تقوم به "إسرائيل"، هو جريمة حرب وإبادة للصحفيين، إذ قتلت نحو 227 صحفياً وصحفية، ودمرت مقارهم، ما يستوجب من المحاكم الدولية ومجلس الأمن ملاحقتها قانونياً على ذلك.
وأشار د. عبد العاطي، إلى أن الهدف من استهداف الصحفيين هو ترويعهم ومنع التغطية الإعلامية ومنع توثيق جرائم الإبادة الجماعية، ومنع إيصالها إلى المجتمعات الدولية.
وشدد على أن ما يتعرض له الصحفيون في غزة ليس مجرد اعتداءات فردية أو أخطاء ميدانية، بل هو نمط ممنهج ومتكرر من الانتهاكات التي ترتقي إلى جريمة إبادة صحفية منظمة، تهدف إلى إسكات الصوت الفلسطيني، وتغييب الحقيقة، وتعزيز الرواية الإسرائيلية عبر سياسة التعتيم.
وقال: "إن هذه الجرائم تم متابعتها، وقمنا بمراسلة المحكمة الجنائية الدولية، وحثها على فتح تحقيق بحق الصحفيين والصحفيات في قطاع غزة، إضافة إلى استخدام مبدأ الولاية القضائية الدولية والتحرك الجاد من جل مقاطعة وفرض العقوبات عقاباً لها على فرض عقوبات بحق الصحفيين والصحفيات".
اقرأ ايضا: "حرب غزة" في عيون "الذكاء الاصطناعي".. بماذا يصفها؟ وكيف يتوقع نهايتها؟
ووفق المكتب الإعلامي الحكومي، فقد ارتفع عدد الشهداء من الصحفيين إلى (227 شهيداً صحفياً وصحفية) منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com