لماذا يزور بايدن المملكة العربية السعودية؟

11:21 ص ,14 يوليو 2022

ليس من عادة رؤساء الدول أن يبادروا إلى نشر مقالات صحافية تستهدف شرح الأسباب التي تدفعهم إلى زيارة الدول الأجنبية أو تقديم التبريرات لها، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بزيارة دول ترتبط مع بلادهم بعلاقات قديمة وراسخة.

ولكن هذا هو ما فعله الرئيس الأميركي جو بايدن قبيل قيامه بجولته الشرق أوسطية التي ستكون قد بدأت بالفعل حين يصبح هذا المقال متاحاً أمام القارئ؛ ففي 9 تموز/يوليو الحالي، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالاً بتوقيع بايدن، حمل عنوان "لماذا أنا ذاهب إلى السعودية؟" (Why I’m going to Saudi Arabia?).

اقرأ ايضا: هل تتحول القمم العربية والإسلامية إلى سرادقات للعزاء؟

ولأن جولته الحالية في المنطقة لن تقتصر على زيارة السعودية، وستشمل دولاً وكيانات أخرى، منها "إسرائيل" والأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد لفت أنظار المراقبين أنه يخصها وحدها بعنوان مقاله، وهو أمر ذو دلالة بالغة.

وحين يجد رئيس دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية نفسه مضطراً إلى شرح الأسباب التي تدفعه إلى زيارة السعودية على وجه التحديد، فمن الطبيعي أن تثور تساؤلات عدة عن حقيقة هذه الأسباب، فلماذا يجد الرجل أنه أصبح في موقف لا يحسد عليه بفعل الزيارة، وصار ينطبق عليه المثل القائل: "يكاد المريب أن يقول خذوني"!

 

لقد أشار بايدن صراحةً في مقاله إلى أنه يدرك اعتراض الكثيرين على زيارته السعودية، ويُفهَم من هذا المقال أنّه موجّه للرد على هؤلاء، كأنه يخاطبهم قائلاً: "أعرف أنكم كنتم تتوقعون مني عدم زيارة السعودية بالذات لأسباب معلومة للقاصي والداني، وأعرف أيضاً أنني تعهدت سابقاً عدم وضع يدي في يد الأمير محمد بن سلمان، المتهم بالضلوع شخصياً في قتل الكاتب الصحافي جمال خاشقجي، وخصوصاً أنّه يحمل الجنسية الأميركية إلى جانب جنسيته السعودية، لكنْ للضّرورة أحكام!".

ما هي يا ترى طبيعة هذه الضرورة التي يرى بايدن أنّ من واجبه شرحها في هذا المقال؟ وهل الأسباب التي قدمها في تبريره هذه الزيارة ستبدو مقنعة فعلاً، سواء للمواطن الأميركي الذي سيتوجه إلى صناديق الاقتراع خلال أشهر قليلة لاختيار نصف أعضاء الكونغرس، أو لغيره خارج البلاد ممن لا يزال يثق بجدارة الولايات المتحدة في قيادة النظام العالمي؟

حرص بايدن على استهلال مقاله بحديث عن الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، سواء بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو العالم، وأسهب في شرح ضخامة الجهد الَّذي بذلته إدارته خلال الأشهر الثمانية عشرة المنصرمة لتخفيف حدة التوتر الذي تعانيه، مقارنة بما كانت عليه الأحوال أيام سلفه ترامب، ولم تفته الإشارة إلى حاجة المنطقة إلى مبادرات جديدة تساعدها على تحقيق المزيد من الترابط والتشبيك وصولاً إلى التكامل.

ولكنّنا سنركّز هنا على ما ورد في مقال بايدن عن السعودية فقط، باعتبارها الهدف الحقيقي والمحطة الرئيسية في جولته، وما إذا كان قد قصدها ساعياً وراجياً أم ضاغطاً ومتوعداً، وهل بمقدورها أن تستجيب لطلباته أو بوسعها تجاهلها كلياً أو جزئياً؟ وما الثمن الذي سيدفعه كلّ طرف في الحالتين؟

لقد خصَّ بايدن السعودية بفقرات مطوّلة في مقاله، حرص فيها على تسجيل مدى اختلاف سياسته الحالية تجاه السعودية عن سياسة سلفه دونالد ترامب (وصفها بسياسة تقديم "شيكات على بياض").

ولتأكيد أوجه الاختلاف بينهما، أكَّد أنّه أمر شخصياً بنشر تقرير مجموعة الاستخبارات الأميركيّة عن حادث اغتيال جمال خاشقجي، وأعطى تعليمات عامة برفض منح أيّ شخصية متهمة بتعقب المعارضين خارج البلاد تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، والتي رُفض على أساسها منح 76 شخصية سعودية تأشيرات دخول.

 

وما إن فرغ بايدن من هذه المقدمة الَّتي أراد أن يثبت من خلالها أنه لم يتهاون في موضوع اغتيال خاشقجي أو في الموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي لا تزال مدرجة في جدول أعمال سياساته وزياراته الخارجية، بما فيها الزيارة الحالية لمنطقة الشرق الأوسط، حتى عاد ليؤكّد أنّ هدفه من تلك الإجراءات لم يكن إحداث قطيعة مع الدولة السعودية، إنما إعادة توجيه دفة سياسته تجاه بلد ظلَّ شريكاً استراتيجياً لبلاده على مدى 80 عاماً.

وبعد إشادته بتعاون السعودية مع المساعي التي بُذلت لاستعادة الوحدة داخل صفوف مجلس التعاون الخليجي، والتوصل إلى هدنة في الحرب المحتدمة في الساحة اليمنية، والتي يأمل أن تتحول إلى تسوية دائمة للصراع، أكَّد أن الخبراء السعوديين يواصلون حالياً البحث مع نظرائهم الأميركيين لدراسة أفضل الطرق وأقصرها لتحقيق الاستقرار في أسعار الطاقة، بالتعاون مع الدول الأعضاء في منظمة "أوبك".

وقد بدا بايدن في قمة السّعادة وهو يهلّل في مقاله قائلاً: "سأكون أول رئيس أميركي يطير من تلّ أبيب إلى جدة مباشرة، في خطوةٍ رمزيةٍ بالغة الدلالة نحو تعبيد الطريق أمام التطبيع التام للعلاقات العربية الإسرائيلية".

وللردّ مباشرة على منتقدي زيارته إلى السعودية، حاول بايدن تذكير هؤلاء بأنَّ مهمته كرئيس تنحصر في المحافظة على الولايات المتحدة قوية وآمنة، وأنَّ سعيه لتحقيق هذه الغاية السامية تفرض عليه أن يعمل مع الجميع لمواجهة تحدّي الحرب الروسية في أوكرانيا، ووضع الأميركيين في موقع يؤهلهم للتنافس بفاعلية مع الصينيين.

ولأنَّ السّعودية تعد من الحلفاء الَّذين يمكنهم المساعدة في تحقيق هذين الهدفين الاستراتيجيين بطريقة ملموسة فعالة، فمن الطبيعي أن يظل التحاور المباشر مع القادة السعوديين قائماً ومستمراً، مع التمسك بالقيم الأميركية في الوقت نفسه، وهو ما يعدّ أحد أهم أهداف زيارته الحالية للسعودية.

قد يرى البعض أنَّ مقال بايدن في صحيفة "واشنطن بوست" لم يقدّم جديداً يُذكر، وقد يكون ذلك صحيحاً، غير أنَّ لهجته الاعتذارية توحي بأنّه جاء إلى السعودية هذه المرّة راجياً ومستجدياً، وليس آمراً أو مكابراً، كما اعتاد الرؤساء الأميركيون من قبل.

ولأنه قدّم بالفعل تنازلاً مسبقاً كبيراً لولي العهد، بمجرد قبوله فكرة زيارة السعودية والموافقة على لقاء محمد بن سلمان ومصافحته خلالها، رغم نشره تقريراً يدين ضلوعه في اغتيال خاشقجي، يتوقع بايدن أن تكون هناك استجابة سعودية سريعة لكلِّ طلباته التي تتمحور حول مسألتين رئيسيتين:

المسألة الأولى: ضمان انخراط السعودية بشكل تام وفعال في الجهود الأميركية الرامية إلى تمكين الولايات المتحدة من الاحتفاظ بهيمنتها المنفردة على النظام الدولي لأطول فترة ممكنة، وبالتالي سيطلب بايدن بإلحاح مشاركة السعودية في الجهود الرامية إلى محاصرة روسيا وعقابها من ناحية، وتضييق الخناق على الصين من ناحية أخرى.

وفي هذا السياق، يعدّ المطلب الخاص بزيادة الإنتاج السعودي من النفط إلى أقصى ما تتيحه الإمكانيات الفنية الحالية هو الهدف الأهم على هذا الصعيد، وخصوصاً أنه يساعد في الوقت نفسه على تخفيف حدة الاحتقان الداخلي الناجم عن ارتفاع أسعار المحروقات في الولايات المتحدة نفسها.

المسألة الثانية: ضمان انخراط السعودية بشكل تام وفعال في الجهود الأميركية الرامية إلى دمج "إسرائيل" في المنطقة. وفي هذا السياق، سيحاول بايدن الحصول على موافقة السعودية على فتح مجالها الجوي للطيران الإسرائيلي المتجه إلى جنوب شرق آسيا من ناحية، وعلى تسيير رحلات إسرائيلية مباشرة إلى الأراضي السعودية لنقل الحجاج الفلسطينيين من ناحية أخرى، من منطلق أن هذين المطلبين يشكّلان الحد الأدنى المطلوب في المرحلة الحالية لكسر عناد الموقف السعودي تجاه التطبيع مع "إسرائيل"، وللبناء على ما سوف يتحقّق في هذه الزيارة لفتح الطريق نحو التطبيع التام للعلاقات العربية الإسرائيلية. وسيحاول بايدن ضمان مشاركة السعودية، جنباً إلى جنب مع "إسرائيل"، في الترتيبات الإقليمية الرامية إلى إقامة نظم دفاع مشتركة.

هنا، من الطّبيعي أن يثور السؤال التالي: هل ستستجيب السعودية لكلِّ هذه المطالب كي يعود بايدن من زيارته مجبور الخاطر؟ أظنّ أن السعودية ليست مجبرة على ذلك، وتبدو حالياً في موقف أقوى من موقف الإدارة الأميركية، وذلك لسببين رئيسين:

السبب الأول: أنّ تحولات النظام الدولي بدأت تميل بالفعل إلى غير مصلحة الولايات المتحدة، وأي إجراءات قد تتّخذ لإضعاف علاقة السعودية بكلّ من روسيا والصين لن تكون في مصلحتها على الصعيد الاستراتيجي، حتى لو أثمرت بعض الفوائد التكتيكية العاجلة، وقد تلحِق بها أضراراً فادحة على الأمدين المتوسط والبعيد. لذا، ليس من مصلحة السعودية الانحياز الأعمى إلى الولايات المتحدة ومعاداة روسيا والصين في المرحلة الحالية.

 

السبب الثاني: أنّ أيّ تنازلات قد تقدّمها السعودية في مجال تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، سواء على الصعيد الثنائي أو الإقليمي، لن تصبّ إلا في مصلحة الأخيرة، وسوف تخلق للسعودية صعوبات وتعقيدات هي بغنى عنها، وخصوصاً أنها لن تحقق منها شيئاً ملموساً.

إنّ تطبيع العلاقات الثنائية مع "إسرائيل" سيضعف حتماً مكانة السعودية؛ بلد الحرمين الشريفين، في العالمين العربي والإسلامي، ويضاعف حنق الشعوب العربية والإسلامية، وخصوصاً الشعب الفلسطيني، كما أن الدخول في أيِّ ترتيبات إقليمية في مواجهة إيران سوف يستعديها، ويحوّل السعودية إلى ساحة للحرب المحتملة والمتوقعة بين إيران و"إسرائيل".

هل ما قدَّمه بايدن من دعم رمزي لفتح الطريق أمام محمد بن سلمان إلى العرش السعودي يستحقّ دفع كل هذه الأثمان السياسية الباهظة التي قد تهدّد وجود العرش السعودي نفسه في المستقبل غير البعيد؟ هذا سؤال ينبغي لولي العهد السعودي أن يفكّر فيه بعمق.

 

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

اقرأ ايضا: لماذا تمنع إسرائيل إجراء اختبارات الحمض النووي؟

** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"

جميع الحقوق محفوظة لـ الحياة واشنطن © 2024

هاتف: 00961-81771671

البريد الإلكتروني: info@darhaya.com