د. شهاب المكاحله
عودة دونالد ترامب المفاجئة كرئيس للولايات المتحدة، رغم أنها تمثل تحولا غير محبذ للكثيرين، تعيد أيضاً فتح باب التكهنات حول نواياه في السياسة الخارجية. هذه المرة، لم يكشف ترامب سوى القليل حول استراتيجياته الدولية، باستثناء تعهداته بإنهاء النزاعات في الشرق الأوسط وأوكرانيا مع تقديم الدعم الثابت لإسرائيل. وقد أثار فوزه بالفعل ترحيبا حارا من حلفائه مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وتفاؤلاً حذراً من روسيا، التي أكدت على ضرورة اتخاذ خطوات عملية ملموسة لإنهاء حرب أوكرانيا.
اقرأ ايضا: ملامح إدارة ترامب: خليط من غلاة اليمين المتطرف والصهيونيين
ومع ذلك، فإن أي شخص يعتقد أن موقف ترامب يعبر عن حساسية حقيقية إزاء الدماء المسفوكة في الشرق الأوسط، أو أن الحزب الجمهوري أقل ميلاً نحو العسكرة من نظيره الديمقراطي، فإنه مخطئ. في الواقع، إذ لا يزال الحزب الجمهوري مرتبطاً بشدة بمجموعة الصناعات العسكرية، ورؤية ترامب كرجل أعمال تركز على الأرباح، وخلق الوظائف، وتعزيز أصحاب المليارات وراء هذه الصناعات. فلا يسعى ترامب إلى تقليل الإنفاق الدفاعي؛ بل يريد زيادته طالما أن ذلك يولد عائدات، وليس تقديم مساعدات مجانية أو تدخلات باهظة الثمن. بالنسبة له، يجب أن تكون المشاركة العسكرية “فرصة تجارية” لا عبئاً على ميزانية الولايات المتحدة.
نموذج الأعمال في السياسة الخارجية وقوة الجيش
تعكس فلسفة ترامب العسكرية عقليته التجارية: فهو يعارض المساعدات “المجانية” ولكنه لن يتوانى عن تعزيز حلف الناتو وغيره من الشبكات الدفاعية إذا كان ذلك مجدياً مالياً. وكان واضحاً أنه لا يهتم بتوسيع الناتو في آسيا أو الشرق الأوسط إلا إذا كان ذلك يتماشى مع هذا النهج البراغماتي. أجندته المحلية – التي تتضمن تسوية حسابات مع ما يعتبره “الدولة العميقة” والتعامل مع الهجرة والسياسات التجارية الحمائية – تترك مجالاً ضئيلاً للصراعات العالمية التي تستنزف الموارد بدون عائدات.
لذا، في حين أن دعواته لـ”إنهاء الحروب” قد تبدو تصالحية، فإن نهجه في الواقع قد يكون محدودا بحيث يُقلل من تعرض الولايات المتحدة للمواجهات المكلفة. فهو يسعى لتجنب التورط في أزمات إقليمية لا تُدر مكاسب مباشرة على قطاع الدفاع الأمريكي، ويفضل رؤية الشركاء الدوليين يمولون دفاعاتهم بأنفسهم.
الرؤية تجاه أوكرانيا وسوريا والشرق الأوسط
إذا كان هناك توقع يستحق النظر، فهو أن ترامب قد يحاول عقد صفقة شاملة مع بوتين – تتضمن الحرب الأوكرانية وتوترات الشرق الأوسط. ومع إعجابه المعروف ببوتين وميوله البراغماتية، قد يقدم ترامب لروسيا تنازلات كبيرة مقابل التعاون عبر عدة محاور. وقد تبدو هذه “الصفقة الكبرى” كالتالي:
- أوكرانيا: قد يسمح ترامب لروسيا بالسيطرة على الأراضي الأوكرانية الشرقية وشبه جزيرة القرم، إلى جانب تعهد بعدم ضم أوكرانيا للناتو، وربما رفع العقوبات عن روسيا في المقابل.
- سوريا: من المرجح أنه قد يميل إلى تلبية رغبة بوتين في تمكين الحكومة السورية من استعادة السيطرة الكاملة على أراضيها، مع سحب القوات الأمريكية وترك الحلفاء الأكراد الذين كادوا يُتْرَكون في فترته الأولى. في المقابل، يمكن أن يتوقع ترامب أن يعمل بوتين على أن تلتزم سوريا بالحد من نقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان، وتقليص النفوذ الإيراني العسكري في المنطقة.
ستشمل هذه الصفقة على الأرجح إقناع الحلفاء الخليجيين بدعم عملية إعادة إعمار سوريا مالياً، في حين يسعى بوتين للسيطرة على نفوذ إيران وحوثيي اليمن ضمن خطوط متفق عليها لا تهدد أمن إسرائيل، والتجارة، والأعمال والملاحة في المنطقة، ومنع تطور المشروع النووي الإيراني نحو إنتاج الأسلحة النووية.
الملف الفلسطيني: جاهز للتنفيذ، بشرط تعاون الحلفاء العرب
فيما يتعلق بالملف الفلسطيني، لا يحمل ترامب أي جديد للتفاوض عليه. فخطة “صفقة القرن” التي طرحها في فترته الأولى ما زالت قائمة، لكن التنفيذ مُجمد. وبفضل عمليات التطبيع العربية، قد يعتمد ترامب على “النخبة العربية” للمساعدة في تنفيذ هذه الخطة. وتبدو إدارته جاهزة للاعتماد على الشراكات الإقليمية الحالية، على أمل أن يتماشى الملف الفلسطيني مع التحولات الأوسع في الشرق الأوسط.
عهد ترامب الجديد: وعود بالسلام أم استثمار استراتيجي؟
على الرغم من حديث ترامب عن “السلام” في الشرق الأوسط، من الواضح أن رؤيته للسلام هي براغماتية بحتة – مصممة لتعزيز الاقتصاد الأمريكي، والحفاظ على أرباح الصناعات العسكرية، وتقليل تورط أمريكا في الحروب المكلفة. طموحه ليس تفكيك المؤسسة العسكرية، بل تحويلها إلى قطاع مربح بدلاً من أن تكون عبئا سياسيا. فهو لا يسعى إلى “إنهاء” الحروب بقدر ما يسعى لإعادة صياغة دور الولايات المتحدة في الصراعات بحيث يتحمل الحلفاء عبء تمويل دفاعاتهم بأنفسهم.
اقرأ ايضا: هل ستؤثر إدارة ترامب على مسار حروب نتنياهو؟
بينما يبدأ ترامب فترته الثانية، يواجه تحدياً كبيراً: تحقيق التوازن بين أهدافه المحلية وإغراءات الانخراط الخارجية التي تغذي أرباح الصناعات العسكرية. وسيبقى الزمن كفيلاً بالكشف عما إذا كانت وعوده ستترجم إلى تغييرات واقعية في النظام العالمي، أو ستتحول، كما يحذر النقاد، إلى دورة أخرى من الاستثمار العسكري المربح تحت ستار “السلام.”