بقلم: حسن نافعة
لم يُخفِ بنيامين نتنياهو عداءه الشديد لإيران منذ اللحظة التي جلس فيها على مقعد رئيس الوزراء للمرّة الأولى عام 1996، وراح هذا العداء يتصاعد تدريجياً إلى أن وصل إلى قناعة مفادها أن تغيير النظام الإيراني بات الحلّ الوحيد الذي يمكن أن يضمن لإسرائيل أماناً دائماً. لذا يمكن القول إنّه بات يؤمن إيماناً لا يتزعزع بأن إيران تشكّل تهديداً وجودياً، ليس بالنسبة للكيان فحسب، وإنّما بالنسبة للمشروع الصهيوني ككل، وذلك لأسباب عدّة أهمّها:
أولاً، أنها تملك برنامجاً نووياً طموحاً يتيح لها استيعاب المعرفة العلمية والخبرة التكنولوجية اللازمتين لإنتاج سلاح نووي، وهو ما لا ينبغي لإسرائيل أن تسمح به مطلقاً، خصوصاً أن سياستها في هذا المجال تعكس إصرارها على أن تظلّ محتكرةً صناعة السلاح النووي في المنطقة، وألا تسمح لأيّ دولة أخرى فيها، خصوصاً إذا كانت تمارس سياسةً مستقلّةً أو معاديةً للولايات المتحدة، لا بالحصول على السلاح النووي، ولا بامتلاك الموارد الذاتية التي تسمح لها بصناعته.
ثانيا، أنها تمتلك أيضاً برنامجاً ضخماً لتصنيع الصواريخ والمُسيَّرات بأنواعها، بما في ذلك الصواريخ الباليستية فرط الصوتية، والمُسيَّرات المتطوّرة. ومن شأن برنامج على هذه الشاكلة أن يحيل إيران دولةَ مواجهةٍ مع إسرائيل، رغم بعد المسافة بين البلدين.
اقرأ ايضا: العدالة الدولية الغائبة: اعتقال نتنياهو هو الاختبار
ثالثا، لدى إيران حلفاءَ في المنطقة، بعضهم في الجوار الجغرافي المباشر لإسرائيل، مثل حزب الله في لبنان وحركات المقاومة الفلسطينية المسلّحة في قطاع غزّة، وتربطها بهم روابطٌ أيديولوجيةٌ ومصلحيةٌ متينةٌ تبعث على الثقة، خصوصاً أن بمقدورها أن تحيلهم شركاءَ أقوياءَ إذا فتحت لهم خزائنها من السلاح. ولأنهم فاعلون من غير الدول، فبمقدور هؤلاء الحلفاء التمتّع بهامش من الحركة قد لا يكون متاحاً للدول نفسها، وهو ما قد يشكّل ميزةً إضافيةً يمكن لإيران أن تستفيد منها عند الضرورة.
لمواجهة ما تشكّله إيران من تهديد وجودي بالنسبة لإسرائيل، اعتمد نتنياهو سياسةً ثلاثيةَ الأبعاد، استهدف بُعدها الأول الحدَّ من قدرات إيران الذاتية، والعملَ لعرقلة برنامجيها النووي والصاروخي. واستهدف بُعدها الثاني محاصرةَ نفوذها في المنطقة، سواء من خلال البحث عن حلفاء جدد أو بالعمل على زيادة التكلفة المترتّبة من توسّع هذا النفوذ. واستهدف بُعدها الثالث جرّ الولايات المتحدة إلى مواجهة عسكرية مع إيران، سواء من خلال المشاركة مع إسرائيل في توجيه ضربة قاصمة لمؤسّساتها النووية والصاروخية، أو التصريح لها بالعمل المنفرد ضدّ إيران ومدّها بالوسائل التي تضمن فعالية الضربة التي تنوي القيام بها، ونجاحها في تحقيق الأهداف المرجوة منها.
للحدّ من قدرات إيران، نفّذت إسرائيل مئات العمليات السرّية التي استهدفت اغتيال علماء يُشغلون مواقعَ حسّاسةٍ في المؤسّسات النووية والدفاعية الإيرانية، أو شنّ هجمات سيبرانية لتعطيل أجهزة الكمبيوتر التي تشغّل أجهزة الطرد المركزية أو أيَّ منشآت حيوية أخرى لها صلة بالبرنامجين النووي والصاروخي، أو الاستيلاء على وثائقَ تكشف خططَ إيران السرّية في هذين المجالين... إلخ. كان من أبرز العمليات التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة عملية اغتيال محسن فخري زادة، رئيس برنامج الأسلحة النووية، في طهران (27 /11/ 2020)، وعملية غرس فيروس في جهاز كمبيوتر يتحكّم في عمل أجهزة الطرد المركزي في محطة نطنز النووية، ترتّب عنها تعطيل ألف من هذه الأجهزة عام 2010، وقيام الموساد بتدبير عملية سطو باهرة عام 2018، تمكّن خلالها من سرقة كمّ هائل من الوثائق التي تخصّ البرنامج النووي الإيراني من مستودع سرّي في طهران، قيل إنّها تقع في 50 ألف صفحة وتشمل 163 قرصاً مضغوطاً من المذكّرات ومقاطع الفيديو. وقد حاولت إسرائيل استخدام هذه الوثائق لإثبات أنّ لدى إيران برنامجاً سرّياً لصنع الأسلحة النووية لا تعلم عنه وكالة الطاقة النووية شيئاً. غير أن نجاح إسرائيل في هذا الصعيد كان محدوداً.
وللحدّ من تمدّد النفوذ الايراني في المنطقة، شنّت إسرائيل مئات الهجمات على سفن إيرانية تحمل إمدادات نفطٍ لسورية أو يشتبه في حملها أسلحةً موجَّهةً لفصائل المقاومة الفلسطينية أو لحزب الله، كما شنّت غارات مباشرة على عناصر من الحرس الثوري الإيراني داخل كلٍّ من العراق وسورية، بل ولم تتردّد في شنّ حروب كبرى على من تعتبرهم حلفاء إيران في المنطقة، كالحرب التي شنّتها على حزب الله عام 2006، وسلسلة الحروب التي شنّتها على فصائل المقاومة الفلسطينية في 2008/ 2009، و2012، و2014، و2021... إلخ. وتمكّنت في الوقت نفسه، بمساعدة وضغوط أميركية، من حمل عدّة دول عربية على تطييع علاقاتها معها رسمياً، بدعوى أن إيران تشكّل خطراً مشتركاً على المنطقة بأسرها يستدعي توثيق التعاون بين إسرائيل والدول العربية. غير أن نجاحها على هذا الصعيد كان محدوداً أيضاً، بدليل فشلها في إلحاق الهزيمة بحزب الله في حرب 2006، أو حتى في إضعافه، وتمكّن "حماس" من تخطيط وتنفيذ "طوفان الأقصى" ملحقةً بإسرائيل هزيمةً استراتيجيةً كُبرى، رغم سلسلة الحروب التي شنّتها عليها خلال الفترة من 2008 حتى عام 2022، وصمود فصائل المقاومة الفلسطينية أمام آلة الحرب الإسرائيلية أكثر من عام كامل، وذلك في أطول مواجهة عرفها تاريخ الصراع المسلّح مع إسرائيل.
وبالنسبة لمحاولات إسرائيل الرامية إلى جرّ الولايات المتحدة للدخول في صدام مسلّح مع إيران، فيلاحظ أن نتنياهو فشل فشلاً ذريعاً في إقناع أوباما بعدم التوقيع على الاتفاقية الخاصّة بالبرنامج النووي الإيراني عام 2015. صحيح أنه نجح مع ترامب الذي تمكّن من إقناعه، ليس بالانسحاب من هذه الاتفاقية فحسب، وإنّما بفرض عقوبات شاملة على إيران في الوقت نفسه. وربّما يكون قد لعب دوراً مهمّاً في إفشال خطط بايدن في بداية ولايته للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، لكنّه لم يكفَّ بعد عن محاولاته الرامية إلى جرّ الولايات المتحدة للدخول في صدام عسكري مباشر مع إيران، خصوصاً في ظلّ ما نجم عن "طوفان الأقصى" من تفاعلات أدّت إلى تكثيف الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وما زال يأمل أن يتمكّن من تحقيق هذا الهدف، سواء خلال الفترة المتبقّية من ولاية بايدن أو في بداية ولاية ترامب الذي يراهن على فوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة، بل ويسعى لمساعدته بالوسائل المتاحة كلّها.
فقد بذل نتنياهو جهوداً كبيرةً لاستفزاز إيران للدخول في صدام عسكري مباشر مع إسرائيل، ورغم حرص إيران الواضح على تجنّب الدخول في مثل هذه المواجهة واضحة الأهداف، إلّا أنّه نجح مرّتين متتاليتين في تحقيق هذا الهدف. الأولى حين أمر جيشه بالإغارة على القنصلية الإيرانية في دمشق (1 /4/ 2024)، ما أدّى إلى تدميرها وقتل 16 شخصاً معظمهم من الضبّاط الكبار في الحرس الثوري الإيراني. والثانية حين أمر بتنفيذ عملية اغتيال إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في قلب العاصمة الإيرانية (31 /7/ 2024)، أثناء وجوده هناك بدعوة رسمية من إيران للمشاركة في حفل تنصيب رئيسها المنتخب حديثاً مسعود بزشكيان. ورغم أن إيران ردّت على الهجومين، إلا أن ردّها في الحالتين جاء مختلفاً تماماً، سواء من ناحية الشكل أو المضمون، فقد جاء ردّها على حادث القنصلية بعد أسبوعين فقط استعراضياً، اقتصر على محاولة إثبات القدرة على الوصول إلى إسرائيل من دون تعمّد إيقاع الأذى بها، أمّا ردّها على اغتيال هنيّة، الذي تأخّر ما يقرب من شهرين، فقد جاء مؤلماً، وربّما ما كان له أن يحصل إلا بهذا القدر من الجدّية لولا اغتيال كلٍّ من الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله والجنرال الإيراني عبّاس نيلفروشان، بل وربّما ما كان ليحصل أصلاً لو كانت الجهود الدبلوماسية الأميركية التي قيل إنها تستهدف التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة قد أثمرت، ما يؤكّد بالدليل القاطع أن إيران كانت تتمنّى لو أمكنها تجنّب هذا الردّ رغم إحساسها العميق بأن اغتيال هنيّة في طهران شكّل خدشاً لكرامتها أيضاً، وليس انتهاكاً لسيادتها فحسب. ورغم أن الضربة المؤلمة التي وجّهتها إيران جاءت أصلاً ردّاً على عدوان إسرائيلي يستحيل تجاهله، إلا أن نتنياهو أكّد أنه سيردّ عليها، في إصرار واضح من جانبه على جرّ إدارة بايدن للدخول معه في مواجهة مسلّحة ضدّ إيران، خصوصاً أنه ليس من المُستبعَد أن يقوم بهذه الضربة قبل يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، موعد الانتخابات الرئاسية الأخطر في تاريخ الولايات المتحدة والعالم.
يعتقد نتنياهو أن اللحظة الراهنة هي فرصته الحقيقية، وربّما الوحيدة، لتدمير برنامج إيران النووي، الذي يستحيل التعايش معه من وجهة نظره، لكنّه يدرك في الوقت نفسه أنه لن يكون بمقدوره إنجاز هذه المهمّة من دون مشاركة أميركية، وهو ما تحاول إدارة بايدن تجنّبه والعمل على إقناع نتنياهو باختيار أهداف أخرى غير المؤسّسات النووية والنفطية. غير أن نتنياهو يعتقد أن إيران ستظلّ شوكةً كبيرةً في حلقه ما لم يستطع أن يوجّه لها ضربةً كبيرةً تهزّ نظامها من أساسه، ما يفسّر عمق المأزق الذي يواجهه. لذا، ليس من المُستبعَد أبداً أن يقامر بضربة قد تكون هي بداية النهاية لكيان توحشّ لدرجة بات يشكّل خطراً حقيقياً على شعوب المنطقة، ويهدّد السلام العالمي ككل.