من منّا لا يذكر معركة الكرامة في 21 مارس/ آذار 1968، التي جاءت بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967 التي تمكّن فيها العدو الصهيوني من احتلال ما تبقى من فلسطين، إضافة إلى سيناء وهضبة الجولان، في ستة أيام. يومها قيل للمقاومة الفلسطينية التي كانت قد أسّست قواعدها في غور الأردن إنّ عليها الانسحاب من مواقعها، بعد توارد أنباء عن حشود وتهديدات إسرائيلية. حينها، برز خطّان داخل حركة المقاومة ذاتها؛ يستند الأول إلى نظريات حرب العصابات التي تقول إنّ على المقاتلين العمل بقاعدة "اضرب واهرب" وأن تنسحب حين يتقدّم العدو الذي يفوقها قوة، والثاني يقول إنّ على المقاومة أن تصمد وتخوض المعركة، لتعزّز إرادة القتال عند العرب، وتنتشلهم من واقع الهزيمة. يومها، رفضت حركة "فتح" نصيحة قائد القوات العراقية المرابطة في الأردن، اللواء حسن النقيب، ورئيس أركان الجيش الأردني، الفريق عامر خماش، بالانسحاب من "الكرامة" كما رفضت نصائح القائدين العسكريين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين آنذاك، أحمد جبريل وأحمد زعرور، وقاتلت بقيادة ياسر عرفات وصلاح خلف، مع قوات التحرير الشعبية. وخاضت مع رفاق السلاح في الجيش الأردني معركة بطولية، كان لها ما بعدها، في حين انسحبت فصائل أخرى. ومن يومها تعزّزت قيادة حركة فتح المقاومة الفلسطينية وتولّت قيادة منظمة التحرير.
ثمّة ظرف مشابه لمعركة الكرامة هذه الأيام ينبئنا بأنّنا على أعتاب تغيير كبير يمسّ جوانب القضية الفلسطينية كلّها، فما جرى خلال الأسابيع الماضية أعاد توحيد الشعب الفلسطيني كلّه؛ في الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين المحتلة منذ عام 1948، والفلسطينيين الذين يعيشون خارج بلدهم. وثمّة تباين واضح بين خطين لم يعد بالإمكان التوفيق بينهما؛ الأول يمنع إعادة بناء منظمة التحرير، والانخراط في مقاومة شعبية جدّية ومتواصلة، بينما يدعو إلى الاستمرار في نهج المفاوضات، ويستمر في التنسيق الأمني مع العدو ويعتبره مقدّساً، ويقف عاجزاً أمام تغوّل الاستيطان الذي تضاعف مرات عدة في ظلّ اتفاق أوسلو، ويتراجع عن إجراء الانتخابات بعدما أدرك أنّها لن تكون في صالحه، ولم يرتدع عن تجريب المجرّب مراراً وتكراراً، إذ عقد العزم، بعدما ضخّت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعض الدم في شرايينه الجافة على الاستمرار في النهج ذاته الذي يتلخص في العودة إلى المفاوضات، ودعوة الرباعية الدولية إلى الانعقاد، وتشكيل حكومة وصفها بأنّها حكومة وفاق، مشترطاً لتشكيلها حصولها على موافقة ما وصفه بالمجتمع الدولي عليها، ليعيد تذكيرنا بشروط الرباعية الدولية على تشكيل الحكومات الفلسطينية السابقة، الأمر الذي تسبّب في إدامة الانقسام ومنع المصالحة، متنازلاً بذلك عن أبسط مقوّمات السيادة والاستقلال.
في مقابل ذلك، ثمة خط آخر وجد تعبيراته عبر مقاومة الاستيطان والتهجير في حيّ الشيخ جرّاح، والتصدّي لمحاولات اقتحام المسجد الأقصى الذي توافد عليه الفلسطينيون من المناطق المحتلة منذ عام 1948، في قوافل منتظمة، ضمّت آلاف الرجال والنساء لنصرة أهلهم في القدس ومسجدها وأحيائها، وفي الحراك الجماهيري الواسع في مدن الضفة الغربية وقراها وطرقاتها، والذي كان لشبيبة حركة "فتح" والقوى السياسية الأخرى دور بارز فيه، خصوصاً بعدما خرجت المقاومة الفلسطينية في غزّة من إطار الحصار المفروض عليها إلى الوطن الفلسطيني كلّه، عبر تغيير قواعد الاشتباك من القصف مقابل القصف، والمطالبة بفكّ الحصار عن القطاع، إلى القتال دفاعاً عن الأقصى وضد الاستيطان والتهجير، ودعماً للمقاومة الشعبية في الأرض الفلسطينية المحتلة كلها. وحمل هذه الراية شبابٌ لم يشهدوا النكبة، أو اتفاق أوسلو، في فلسطين المحتلة منذ 1948، إذ تمرّدوا على الأسرلة ونظام الأبارتهايد الصهيوني، وانتفضوا ضد سياسات الاحتلال، وتضامناً مع القدس وغزّة، مؤكدين وحدة الشعب والأرض ومسار التحرير. ليصبح الوطن بأسره موحداً تحت راية المقاومة بجميع أشكالها وأساليبها وقواها.
تزامنت معركة الكرامة مع ظروفٍ مواتيةٍ سهّلت عملية التغيير في الساحة الفلسطينية. وفي معركة القدس، شهدنا تحولاتٍ يجب متابعتها على صعيد النظام العربي الرسمي الذي تحرّر أو يكاد من سطوة ترامب - كوشنر، ومن آثار صفقة ترامب - نتنياهو، كما شهدنا تضامناً شعبياً عربياً وعالمياً تمثل في تظاهراتٍ بعشرات آلاف من المواطنين في العالم العربي والإسلامي، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية ذاتها، بما يوحي ببداية تغييرٍ كبير في التعامل مع القضية الفلسطينية وإدانة الاحتلال، واعتباره نظام أبارتهايد يشمل فلسطين كلّها، وتجلى ذلك في تغير في لهجة التصريحات الرسمية، وتغطية وسائل الإعلام ومقالات الصحف الكبرى، وتقارير مراكز الأبحاث والدراسات، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"كارنيغي"، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الصراع.
لا يستقيم التغيير باستمرار وجود السلطة الفلسطينية بسياساتها الحالية، وهي التي تحاول جهدها إعادتنا إلى ما قبل معركة القدس، من خلال المراوحة في الدوائر السابقة ذاتها، مستغلة إعادة حديث المجتمع الدولي، تحت وطأة المواجهات الأخيرة، عن حلّ الدولتين، ومتجاهلةً حقيقة أنّ هذا الكلام، وعلى مدى عقود، لم يتجاوز قيمة الحبر الذي كُتب به، وتم استغلاله لإدامة الاحتلال وزيادة الاستيطان وقضم أرض فلسطين شبراً شبراً، ولم تتخذ هذه المنظومة يوماً أيّ إجراءاتٍ عمليةٍ تردع الاحتلال وتوقف سياساته، فقد تعودنا أنّها لا تتحرك إلّا عندما يهبّ الشعب الفلسطيني، فتخاف على مصالحها في المنطقة، وتصبّ جلّ اهتمامها على إعادة الهدوء وإبقاء الأمور كما هي، ملقية لنا ببعض المساعدات الاقتصادية، وكثير من الوعود التي تبقى رهينة لحظتها.
السلطة الفلسطينية التي اضطرّت إلى التراجع مؤقتاً، عليها أن تتحوّل إلى سلطة خدمات، وتوقف تنسيقها الأمني مع العدو الصهيوني، وتعيد الولاية إلى منظمة التحرير بعد إعادة بنائها، وإلى حين تحقيق ذلك، يتولّى إطار قيادي موحد زمام القيادة الفلسطينية، تكون مهمته الأولى تفعيل المقاومة الشعبية في فلسطين كلّها، والحفاظ على تراكم الإنجاز العسكري المقاوم في غزّة، وإعادة إعمارها، وبناء منظمة التحرير قيادة موحدة للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة. أما الرئيس محمود عباس، فعليه أن يتنحّى فوراً عن مناصبه كافة في السلطة و"فتح" ومنظمة التحرير، بعدما تبيّن فشل سياسته كلها، منذ أعاد إنتاج "أوسلو" لعلّه بذلك يحافظ على ما تبقى له من تاريخ قديم ومجيد كان قد ساهم به في بدايات حركة "فتح" رائدة النضال الفلسطيني، والتي عليها أن تستعيد ريادتها، وتستأنف رصاصها وحجارتها، وتنخرط بقواها كلّها في المقاومة الشعبية، كما فعلت شبيبتها خلال معركة القدس وما زالت.
أما حركتَا "حماس" والجهاد الإسلامي، ومعهما فصائل المقاومة في قطاع غزة، والتي راكمت بصمت جهداً لا ينكره إلّا جاحد، وفاجأت العالم كلّه بما أنجزت على الصعيد العسكري المقاوم، فإنّ عليها ألّا تنخدع ببعض ما تسرّبه الأنباء عن بدء اتصالاتٍ دوليةٍ بها، وتتوهم أنّه حان الوقت لقطف ثمار الفعل المقاوم، فثمّة سمّ في الدسم، وهو مسارٌ سارت عليه القيادة الفلسطينية الحالية قبلها، وانتهت إلى ما انتهت إليه الآن، فالمسألة لا تتعلق بمن يفاوض، وإنّما في أساس المفاوضات ذاتها. لا أحد يفاوض على أرضه وعلى حقوقه، وعندما يأتي وقت المفاوضات، وفي ظلّ موازين قوى مختلفة، لن تكون إلّا لوضع ترتيبات دحر الاحتلال وإلغاء نظام الأبارتهايد الصهيوني، وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني من دون قيد أو شرط. وعليها أن تدرك أنّ التغيير المطلوب لا يتمثل بإحلال فصيلٍ مكان آخر، وإنّما يتم بتشكيل جبهةٍ وطنيةٍ متحدة، تضم جميع القوى الفلسطينية المنخرطة في معركة التحرير.
آفاق التغيير متاحة، فثمّة إرادة الشعب الفلسطيني كله التي عبّر عنها في معركة القدس. وهناك الجماهير العربية التي أكّدت من جديد أنّ فلسطين هي قضيتها المركزية، ووجهت صفعة كبيرة للتطبيع مع الكيان الصهيوني. وهناك النظام العربي الذي إن لم يوافق على التغيير فإنه لن يستطيع إعاقته. ومن المهم بمكان أن تتعزّز حملة التضامن الواسعة مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. وإذا أضفنا إلى ذلك كلّه ما يعتري الكيان الصهيوني من ضعف، وأزمات سياسية، وتراجع في أدائه العسكري، على الرغم من قوة النار والتكنولوجيا التي يمتلكها، فإنّ ذلك كلّه يقودنا ليس إلى حتمية التغيير فحسب، بل اقترابنا من لحظة تحقيق إنجازاتٍ كبرى تقودنا إلى درب النصر النهائي.
* كاتب وباحث فلسطيني
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"