أخيرا، وكما توقعنا منذ أشهر، سقط دونالد ترامب وزُج به في مخلفات التاريخ، وهو مكانه الطبيعي. هذا الشخص المريض نفسيا كان أسوأ رئيس للولايات المتحدة في التاريخ كما تجمع غالبية كبريات الصحف والمجلات وقنوات التلفزيون الأميركية. لم يفعل رئيس أميركي أبدا ما فعله ترامب لكي يدمر الديمقراطية الأميركية وأركانها الأساسية في السنوات الأربع العجاف الماضية من حكمه. وهو الآن ملقى به في منتجعه مارا لاغو بولاية فلوريدا صغيرا، قميئا، معزولا فاقدا لوزنه ومحاصرا بالعديد من القضايا القانونية فضلا عن محاكمة برلمانية ثانية يعد لها في الكونغرس الأميركي.
فإلى هجماته المنسقة والثابتة على أهم مؤسسات الديمقراطية الأميركية – الإعلام الحر، القضاء المستقل، الدور المهني للقوات المسلحة المنفصل عن السياسة، ودور مؤسسات الدولة، حرض ترامب وحض أتباعه على استخدام العنف ضد واحد من أهم حاضنات وأركان الديمقراطية الأميركية، الكونغرس الأميركي، كما حدث في 6 كانون الثاني/يناير 2021، بهدف واضح وهو تعطيل آخر عملية مصادقة تشريعية من مجلسي النواب والشيوخ على نتائج انتخابات 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، التي فاز فيها المرشح الديمقراطي جو بايدن. وقد فعل ترامب ذلك حتى ولو أدى إلى قتل كل أعضاء الكونغرس الـ 534 ونائبه مايك بنس الذي كان حاضرا تلك الجلسة بصفته رئيسا لمجلس الشيوخ بحكم أنه نائب الرئيس حسب الدستور الأميركي. وحتى ولو أدى، وهو الأهم، إلى وقف عمليات الديمقراطية الأميركية الحامية للدستور الأميركي.
ترامب، الذي لم يترب كشخص ديمقراطي في البيت الذي ترعرع فيه والمدارس التي تعلم فيها، اعتقد فعلا أنه، ولوحده قادر على إلغاء إنجازات ديمقراطية في الولايات المتحدة عمرها يقرب من 250 سنة. ضغط بكل قوته لتدمير هذه الديمقراطية والبقاء في السلطة أربع سنوات أخرى، وربما أبعد من ذلك، من يدري؟؟ ولكنه هُزم شر هزيمة واضطر إلى الخروج من البيت الأبيض صبيحة يوم الـ 20 من كانون الثاني/يناير الماضي رغم أنفه دون أن يعره أحد أي اهتمام أو احترام أو تقدير، وهو لا يستحق أيا من ذلك. حتى كبار قادة حزبه الجمهوري انفضوا من حوله وفضلوا الذهاب للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس الديمقراطي جو بايدن على المشاركة في حفل وداعه في قاعدة أندروز الجوية الذي رتبه هو شخصيا لنفسه كنوع من حفظ ماء الوجه ولإعطاء شخصه احتراما لا يستحقه ولم يحظ به من غالبية الأميركيين وبقية سكان العالم. وأتباعه الذين هاجموا الكونغرس يواجهون اليوم المحاكم الأميركية والمئات منهم زُج بهم في السجن لانتهاكات غير مسبوقة ارتكبوها في تلك الهجمة البشعة، وهم سيمضون عشرات السنين في السجن الآن. أما هو، فقد تخلى عنهم، كعادته، وذهب إلى منتجعه المشمس لتمضية ما تبقى له من العمر الذي هو في أرذله. لعل مثل هؤلاء يتعلمون!
النظام الديمقراطي هو الأفضل الذي تفتق عنه العقل البشري حتى الآن لطريقة حكم البشر. وفي حين أنه أثبت أنه النظام الأفضل للحكم حتى الآن، فإنه يثبت أنه نظام هش، ضعيف، قابل للانهيار وبسهولة مذهلة، كما حدث في الآونة الأخيرة. والسبب في ذلك هو أنه نظام قائم أساسا على التوافق بين الناس في النظام ولا يعتمد على القوة العسكرية. والمشكلة أن هذين العاملين هما أهم أركان النظام الديمقراطي. ترامب كان يعرف ذلك، ولأن الغاية بالنسبة إليه تبرر الواسطة، فهو قرر أن يهدم ذلك النظام الهش بغض النظر عما يعنيه ذلك لتاريخ أميركا وسمعتها وصورتها الدولية. كان كل همه هو أن يبقى في الحكم وبأي ثمن، فعلا بأي ثمن.
ولكن ما الذي حمى الديمقراطية من اشتطاطات وعنفية وأنانية ونزعات ترامب الديكتاتورية؟ هنالك عدة عوامل مثلت حواجز نيران أمام ترامب ونزعاته الانفرادية الديمقراطية. أهم هذه الحواجز هي التالي:
القضاء المستقل: رغم رفع ترامب أكثر من 60 قضية قانونية أمام المحاكم الأميركية، بما فيها قضيتان رفعهما محاموه أمام المحكمة العليا، التي تمكن ترامب من تعيين 3 من أعضائها التسعة خلال السنوات الأربع الماضية، إلا أنها كلها قالت له "لا" مدوية" ولم تغير صوتا واحدا في الانتخابات الرئاسية الماضية. هذا هو دور القضاء المستقل في الدولة الديمقراطية.
فصل الجيش عن السياسة: القوات المسلحة في الدولة الديمقراطية هي حامية للوطن وأمن الناس ورفاهم وحرياتهم، وليس حماية الرئيس أو النظام، كما الحال في غالبية دول العالم الثالث عبر التاريخ. حين حاول ترامب إشراك الجيش في اشتطاطاته الهمجية، تصدى لهم قادة القوات المسلحة الأميركية. فقد ذكّرت هيئة الأركان المشتركة للقوات الأميركية أفراد القوات الأميركية في مذكرة وزعتها عليهم عقب الهجمات على مبنى الكابيتول الأسبوع الماضي بأن مهمتهم الرئيسية هي الدفاع عن الدستور وليس الرئيس أو نظامه. وحذرت الهيئة من وقوف أي من أفرادها إلى جانب هؤلاء الرعاع الذين هاجموا الكونغرس. وجاء في المذكرة أن "أعمال الشغب العنيفة في واشنطن العاصمة في 6 يناير 2021 كانت هجومًا مباشرًا على الكونغرس الأميركي ومبنى الكابيتول وعمليتنا الدستورية." وأضافت المذكرة: "شهدنا أعمالا داخل مبنى الكابيتول لا تتفق مع سيادة القانون، وحقوق حرية التعبير والتجمع لا تعطي لأحد الحق في اللجوء إلى العنف والفتنة والتمرد." ونشرت هذه الهيئة أكثر من 25,000 جندي وعضو في الحرس الوطني في واشنطن لحماية تنصيب الرئيس الجديد بايدن.
استقلالية مؤسسات الدولة: حاول ترامب بكل قوته أن يحول مؤسسات الدولة إلى مؤسسات خاصة له، خصوصا وزارة العدل. وفي حين نجح قليلا في بعض محاولاته تلك، خصوصا مع وزير العدل الذي عينه في بداية العام 2019، وليام بار، فإنه فشل في غالبيتها. حتى المسؤولون الجمهوريون عن الانتخابات في ولايات يترأسها حكام جمهوريون كولاية جورجيا رفضوا بعناد مسايرته في محاولاته اليائسة لتغيير أو إلغاء نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة.
وجود أحزاب سياسية معارضة قوية: الحزب الديمقراطي الأميركي العريق وقف بقوة ضد نزعات ترامب وتصرف قادته بما يمليه عليهم الدستور ودورهم كرقيب على سلطة الحزب الآخر وأحبطوا تصرفات ترامب وأوقفوه عند حده وهم الآن يستعدون لمحاكمته برلمانيا وللمرة الثانية، وهي الواقعة الأولى في التاريخ الأميركي.
وجود ثقافة جماهيرية ديمقراطية راسخة: تطور الديمقراطية يستغرق وقتا طويلا وهو يتطلب مشاركة كل مؤسسات المجتمع، من البيت وصولا إلى المدرسة والجامعة والإعلام ومراكز البحث، ألخ. الشعب الأميركي بثقافته هذه، رغم أن هناك عشرات الملايين ممن يبدوا واضحا أنهم ليسوا ديمقراطيين، رفض محاولات ترامب وأعماله وذهب إلى صناديق الاقتراع بمئات الملايين لكي يحرمه من أربع سنوات أخرى في الحكم. الجمهور الأميركي هذا كان مستعدا للخروج إلى الشوارع لحماية ديمقراطيته.
الإعلام الحر: ربما كان الإعلام المستقل في الولايات المتحدة من أهم وأشد أعداء ترامب ونزعاته الديكتاتورية والغوغائية. يجب رفع القبعة للإعلام الأميركي الذي تصدى لترامب منذ اليوم الأول، مركزا على هفواته وأخطائه الفاضحة ومحاولاته الاعتداء على مؤسسات الحكم الديمقراطي في الولايات المتحدة وتصرفاته وتصريحاته الغريبة التي كانت تهدف إلى ترسيخ الانقسامات الحادة في المجتمع الأميركي من أجل إضعاف الديمقراطية ومساعدته على استقطاب ما يكفي من الأميركيين الذين سيمنحونه أربع سنوات أخرى في سدة البيت الأبيض.
لا شك أن الديمقراطية الأميركية تعرضت لاختبار عسير في الأشهر القليلة الماضية أظهر مواطن ضعفها وهشاشتها. لكن ديمقراطية أميركا رغم هشاشتها وتعددية مواطن ضعفها أظهرت أنها قوية وقادرة على صد تغولات لأشخاص متهورين، فاشيين، ديكتاتوريين، لا يتورعون عن القيام بأي شيء للقفز عليها وتحقيق أهدافهم الأنانية الخاصة. وأعتقد أن الأميركيين تعلموا من هذه التجربة أن عليهم أن يعيدوا مراجعة قواعد عمل نظامهم الديمقراطي وأركانه من أجل تعزيزه وتحصينه أمام مثل هؤلاء المرضى والجوعى للسلطة وبأي ثمن.
* دبلوماسي أمريكي سابق
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحيــــاة"