لقد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (أنَّ عثمان بن عفان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف– رضي الله عنهما – كلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-: أَتَسُبُّني وقد شهدتُ بَدْراً ولم تَشهَد، وقد بايعتُ تحت الشجرة ولم تُبَايع، وقدْ كُنْتَ تُوَلَّى مع من تَولَّى يوم الجَمْع، يعني يوم أُحُد، فردَّ عليه عثمان، فقال: أما قولك : أنا شهدتُ بدراً ولم تشهد، فإني لم أَغِب عن شيء شهده رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - ، إلا أنَّ بنت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كانت مريضةً وكنت معها أُمَرِّضها، فضرب لي رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – سهماً في سهام المسلمين، وأما بيعة الشّجرة فإنَّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – بعثني رَبيئَةً على المشركين بمكة- الرّبيئَةُ هو الناظر- فضرب رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - يمينه على شماله، فقال: "هذه لعثمان" فيمين رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - وشماله خيرٌ لي من يميني وشمالي، وأما يوم الجَمْع فقال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } فكنتُ فيمن عفا الله عنهم ، فحجّ عثمانُ عبدَ الرحمن).
عندما نقرأ هذا الحوار الجميل بين صحابيين جليلين من العشرة المبشرين بالجنة، فإننا نجد أنّ هذا الحوار لم يُفْسِدْ لِلْوُدِّ قضية، لأنّ خلافهم ليس من أجل الدنيا ، بل إِنّه يستهدف دائماً نُصْرة الحق، فكان أدبهما معاً سبيلاً إلى الحق في موضوع النقاش، وتبقى حاجة أمتنا العربية والإسلامية عامة وشعبنا الفلسطيني خاصة في هذه الأيام مُتَجَدِّدة إلى مثل هذا الحوار المبارك، والذي تُواجِه فيه الفكرة ...الفكرة، حيث يُسْفر هذا الحوار في النهاية عن انتصار الحق، ووحدة المواقف الإسلامية والعربية والفلسطينية.
إن الاختلاف سنّة ربانية ومظهر للتنوع، وليس من ضَرَرٍ في وجوده، لكنّ الضَّرَرَ كلّه أن تتسع مساحات الخلاف بين الناس وتنعدم لغة الحوار والتفاهم، ومن هنا كانت الحاجة ماسّة إلى جمع الكلمة ووحدة الصف والتعايش الوطني وتلاقي الإرادة، والخلاف موجود في كل المجتمعات، ولكن لابُدَّ أن يُحاط بأدب الخلاف الذي التزمه جيل الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم أجمعين - ومن بعدهم من الأجيال الصالحة.
فما أجمل خُلُق الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – مع معارضيه، كما جاء في كتاب السيرة النبوية لابن هشام ما دار بين عُتبة بن ربيعة وبين رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - ، ( فهذا عتبة تُرسله قريش مفاوضاً وعارضاً على الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – المال والسيادة والمُلك والعلاج إِنْ كان به مرض أو مَسٌّ من الجِنّ، وكان – صلّى الله عليه وسلّم - يُصْغِي إليه دون مقاطعة ، حتى إذا ما انتهى من كلامه الذي يعرف الرسول - صلّى الله عليه وسلّم – أنه كلام باطل ، ولكنه أدب الاختلاف الذي التزمه، ليسمع للرأي الآخر دون مقاطعة ، قال له : "يا أبا الوليد أفرغتَ من كلامك ، فقال: نعم، قال : فاسمعْ مني، قال: أفعل، وأخذ -صلّى الله عليه وسلّم - يُرتل عليه آيات من القرآن الكريم من أوائل سورة فُصِّلَتْ، حتى ذهب إلى قومه بغير الوجه الذي جاء به").
ما أحوجنا في هذا الوقت العصيب إلى أن نرتقي إلى أدب النّبوة الذي أَصْلُ قواعدِه في هذا الدين العظيم إذا كنّا نُريد حقاً الوصول إلى الحق، فنحن في حاجة إلى فقه الخلاف والاختلاف، كيف نختلف ولا نتفرق بحيث لا يُؤَدِّي هذا إلى العداوة، نحن في حاجة إلى القاعدة الذهبية التي تقول: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".
وقد ذكر الشيخ / أحمد محمد عسَّاف في كتابه الحلال والحرام في الإسلام : {أنّ سيدنا الحسين – رضي الله عنه – قد تخاصم مع أخيه محمد بن الحنفية- رضي الله عنه-، وكان محمد أخاه من أبيه، وبعد أيام كتب محمد بن الحنفية لسيدنا الحسين رسالة جاء فيها: "السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد، أرجو إذا أتاك كتابي هذا أن تُبَادر إليّ بالسلام، لأَنّي أجدُ من الواجب عليّ أن آتي إليك، ولكن بِمَا لَكَ عليَّّ من الفضل وأَنَّ أمك أفضل من أمي ، فأمّك فاطمة بنت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- وأمي امرأة من بني حنيفة، وقد سمعتُ أبانا عليًّا – رضي الله عنه – يقول عن جَدِّكَ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- : (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ, فَيُعْرِضُ هَذَا، ويُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ)، لذلك أرجو أنْ يكون الفضل لَكَ بقدومك إِليّ "، فما أن وصل كتاب محمد بن الحنفية إلى سيدنا الحسين حتى قام لساعته ولبس رداءه ونعليه، وذهب إلى أخيه محمد بن الحنفية، فالتقى به في منتصف الطريق، فتعانقا وتصالحا وبكى الاثنان، وذهب ما بينهما من خصومة وجفوة}.
هذا هو التطبيق الحقيقي لمعنى الأُخوة والحبّ في الله، الذي زرعه رسولنا الكريم- صلّى الله عليه وسلّم- في قلوب المسلمين، وربّاهم على ذلك، فطرحوا الأحقاد التي تُفسد كلّ شئ، وتركوا الضغائن التي لا تُهلك إلا أصحابها.
إِنَّ شعبنا الفلسطيني أحوج ما يكون إلى الوحدة والمحبة ، والتكاتف والتعاضد، ورصّ الصفوف وجمع الشمل وتوحيد الكلمة، خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ بها شعبنا الفلسطيني، حيث يُواجه شعبنا الفلسطيني وقضيته العادلة تحديات جسام.
إنّ شعبنا الفلسطيني يتطلع إلى تحقيق الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، وفتح صفحة جديدة من الأخوة والمحبة، فقد آن لنا أن نتساءل :
ألم يكفنا ما يفعله بنا المحتلون صباح مساء من قتل، واعتقال، وتدمير، وغير ذلك؟!
ألم يكفنا ما تتعرض له مقدساتنا وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك من اعتداءات متكررة ؟!
ماذا نقول لشهدائنا الأبطال الذين رَوَوْا بدمائهم ثرى هذا الوطن الغالي ؟!
ماذا نقول لأسرانا البواسل الذين ضَحَّوا بحريتهم وما زالوا ينتظرون ساعة الفرج؟
لذا فإنّ الواجب علينا أن نُوحِّد كلمتنا، ونرصَّ صفوفنا؛ لنستعيد وحدتنا التي فيها سِرُّ قوتنا وعزتنا وكرامتنا.
* وزير الأوقاف الفلسطيني السابق
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "دار الحياة"