* د. سنية الحسيني
لا يعتبر إعلان بلفور، الذي جاء قبل أكثر من قرن من الزمان، مجرد تصريح يفضح نية بريطانيا باقتراف أكبر جرائم هذ العصر، بل يعتبر دليل الإدانة على إقترافها تلك الجريمة عن سبق إصرار وترصد. فعلى الرغم من أن إعلان بلفور نفسه، والذي اعتمدته الحكومة البريطانية نهاية عام 1917، لا يترتب عليه أية إلتزامات أو تبعات قانونية، إلا أن مساعي وممارسات بريطانيا بعد ذلك لترسيخه قانونياً وتجسيده فعلياً على الارض يضع بريطانيا في دائرة الادانة.
عملت بريطانيا على ترسيخ إعلان بلفور قانونياً بفرض فحواه في قررات المؤتمرات وضمن بنود المعاهدات الدولية، كما سعت بعد ذلك لتجسيده على الارض بالقوة خلال عهد إحتلالها وإنتدابها على فلسطين. فبريطانيا تتحمل كامل المسئولية القانونية عن جريمتها بحق أرض وشعب فلسطين، بعد أن فتحت للمهاجرين الغرباء اليهود أبواب الهجرة إلى فلسطين، ومكنتهم من الاقامة والإستيطان فيها، لتغير بذلك خريطة البلاد الديمغرافية، كما ساعدتهم بعد ذلك في إحكام سيطرتهم عليها بالقوة.
جاءت جميع تلك السياسات البريطانية المبيتة خلال عهد الاحتلال والانتداب البريطاني على فلسطين، وهو الأمر الذي يخالف بشكل فاضح حدود مسئوليات بريطانيا كدولة إحتلال أو إنتداب، ويحملها كامل المسئولية القانونية عن جرائمها بحق شعب فلسطين، الذي لا يزال العالم حتى اليوم يقف شاهداً على فصول معاناته اليومية، سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، بفعل سياسات دولة الفصل العنصري، أو داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بفعل ممارسات دولة الاحتلال، إسرائيل.
لا يحمل تصريح بلفور نفسه إي إعتبار قانوني، رغم إقراره من قبل الحكومة البريطانية وبالنيابة عنها، لأنه لا يمتلك صفة التعاقد الدولي. فاعلان أو تصريح بلفور يعتبر رسالة موجهة من (آرثر جيمس بلفور) وزير خارجية بريطانيا في حينه، إلى (ليونيل وولتر دي روتشيلد) المصرفي اليهودي البريطاني وعضو حزب المحافظين وأحد قادة اليهود في بريطانيا، إلا أنه لا يعتبر شخصاً إعتبارياً. وتتطلب الوثيقة لتصبح رسمية، وفقاً لنصوص القانون الدولي، أن تكون بين أطراف ذات مكانة إعتبارية دولية، وبناء على ذلك تخرج جميع الوثائق وحيدة الطرف منها كاعلان بلفور.
عكس إعلان بلفور أربع قضايا هامة، فضحت نية بريطانيا المبيتة لاقتراف جريمتها بحق فلسطين وشعبها. فأكدت بريطانيا من خلال الاعلان أنها سوف تسعى لوضعه موضع التنفيذ، إنطلاقاً من مشاعر العطف والشفقة، وليس إنطلاقاً من تحقيق العدالة أو فرض الحق. كما إعتبرت بريطانيا أن الشعب الفلسطيني، والذي كان يمثل في حينه الاغلبية العظمى بنسبة تعدت الـ 95%، مجرد طوائف غير يهودية، وكأن الافراد اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين قادمين من أوروبا الشرقية قبل عقود معدودة هم سكان البلاد، في تجاهل صارخ للواقع والتاريخ والقانون والمعايير الاخلاقية. ولم تتعد نسبة اليهود في فلسطين من مجمل عدد السكان عام 1838 الـ 2%.
على النقيض إعتبرت بريطانيا أن اليهود المنتشرين في جميع أرجاء الأرض والذين ينتمون إلى أجناس مختلفة شعب واحد ودعت لاقامة وطن قومي لهم، متبنية الرواية الصهيونية المضللة. ورغم أن نص تصريح بلفور أشار بوضوح إلى أن تنفيذه لن ينتقص من الحقوق المدنية أو الدينية للفلسطينيين، وذلك وفق المعايير القانونية الدولية، تعمدت بريطانيا التجاهل التام لذلك الحق.
عملت بريطانيا على إدراج فحوى تصريح بلفور في قرارات مؤتمر فرساي عام 1919 وقرارات مؤتمر سان ريمو ونصوص معاهدة سيفر عام 1920 وكذلك في بنود معاهدة لوزان التي جاءت بدل منها، وجعلت تصريح بلفور جوهر مادة صك الانتداب على فلسطين، الذي أقرته عصبة الامم عام 1922، وذلك لترسيخ فحوى إعلان بلفور قانونياً. وكانت الدولة العثمانية وصاحبة الولاية على فلسطين قد رفضت إستجداءات اليهود المتكررة بالسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين، كما عارضت بعد ذلك إدراج إعلان بلفور في معاهدة سيفر أو معاهدة لوزان.
ولم تدخر بريطانيا جهداً لتضع إعلان بلفور موضع التنفيذ، ففتحت باب الهجرة إلى فلسطين على مصرعيه. فارتفعت نسبة عدد اليهود في فلسطين بشكل ملفت في ظل حكم الادارة البريطانية الاحتلالية والانتدابية، وما بين عامي 1918 و1922 ارتفعت نسبة اليهود من 5% إلى 10%، بينما وصلت إلى 35% نهاية عهد الانتداب عام 1948.
وسمحت الادارة العسكرية البريطانية لليهود خلال عهد الاحتلال (عام 1918_1922)، بالتعاون مع لجنة صهيونية تم إرسالها من لندن، بانشاء حراسة خاصة لمستوطناتهم، بينما أخضعت جميع الاراضي الفلسطينية أمنياً تحت سيطرة الجيش البريطاني. واحتل فقط الانجليز واليهود المناصب العليا في حكومة فلسطين. وأنشأت لجنة للأراضي لتسهيل عمليات بيع العقارات لليهود. وفي حين سمحت حكومة الاحتلال لليهود بتطوير منطقة القدس الغربية، قيدت البناء على العرب في منطقة القدس الشرقية، ومنعته تماماً في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة. ومن المعروف أن تقسيم مدينة القدس إلى أربع مناطق، جاء خلال عهد الاحتلال البريطاني.
وأدارت حكومة الانتداب البريطاني بالتعاون مع الوكالة اليهودية شؤون فلسطين (1922_1948)، فعدلت قوانين الملكية والهجرة والاقامة والجنسية والعمل، لتمكين اللاجئين اليهود الجدد. كما عملت تلك الادارة على تدعيم عمل ونشاط المؤسسات اليهودية العسكرية منها والاقتصادية على حساب الشعب الفلسطيني.
لا تتنكر أو تخجل بريطانيا الرسمية اليوم من الدور الذي لعبته لخلق كيان إسرائيل. إلا أن جميع ما ترتب على إعلان بلفور والاجراءات التي قامت بها بريطانيا كدولة إحتلال أو إنتداب لتطبيقه باطلة، وتستوجب الإقتصاص. وعلى بريطانيا اليوم أن تقف أمام مسئولياتها القانونية وأن تتحمل تبعات جرائمها بحق الفلسطينيين، خصوصاً وأن جميع الأسس التي إعتمدت عليها في حينه لتنفيذ جرائمها تحمل علامات تساؤل كبيرة.
ويبدو الدور المركزي لعصبة الأمم في تنفيذ بريطانيا لجرائمها، باقرارها صك الانتداب البريطاني على فلسطين. فنقلت عصبة الامم بذلك إعلان بلفور من مجرد رسالة أحادية الطرف ولا تحمل أية مكانة إعتبارية دولية إلى وثيقة دولية رسمية، كما أقرت العصبة إجراءت تنفيذ ذلك الاعلان.
وكانت عصبة الأمم قد أنشأت في الأساس بناء على قرارات مؤتمر الصلح في باريس (فرساي) عام 1919، الذي إنعقد في أعقاب الحرب العالمية الاولى، بمبادرة وعضوية من الدول الأربع المنتصرة لتحقيق مصالحها، ودون مشاركة من معظم دول العالم. وعلى ذلك يعتبر ميثاق عصبة الأمم صيغة تعاقدية بين الدول الموقعة عليه فقط، كما تعتبر قراراتها ملزمة لأعضائها فقط. ولم تكن المانيا وروسيا والنمسا والمجر وبلغاريا وتركيا أعضاء في العصبة كما رفضت الولايات المتحدة الانضمام اليها، وإنسحبت منها في وقت لاحق إيطاليا واليابان. إن ذلك الامر يستوجب إعادة البحث في مدى قانونية قرارات العصبة ومدى شرعية صك الانتداب البريطاني على فلسطين من الأساس، خصوصاً وأن معاهدتي فيينا لقانون المعاهدات تشترط رضى الأطراف ذات العلاقة، كما أن الأمم المتحدة لم ترث إلتزامات عصبة الامم.
وإذا إفترضنا جدلاً أن عصبة الامم وقراراتها قانونية وملزمة لجميع دول العالم بما فيها تلك التي لم تكن عضواً فيها، فإن إقرار العصبة لصك الانتداب البريطاني في فلسطين جاء متناقضاً مع نصوص ميثاق العصبة نفسه. فحمل صك الانتداب بالاضافة إلى نص إعلان بلفور نفسه في مقدمة الصك، ثمانية بنود من أصل ثمانية وعشرين لتحديد آليات تنفيذه لتآسيس وطن لليهود في فلسطين. ويتناقض ذلك بشكل صارخ مع نصوص الميثاق التي تؤكد على ضرورة الحفاظ على وحدة الأقاليم التي تقع تحت الانتداب وتمنع تجزأتها أو تأجيرها. كما ينتهك صك الانتداب جميع بنود ميثاق العصبة التي تشدد على حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ويؤكد ميثاق العصبة على عدم جواز ضم الأقاليم التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وحق تلك الدول بالاستقلال، إلا أنها كانت تشترط أن تسترشد تلك الدول بدولة إنتداب لفترة موقتة. ويعتبر ميثاق العصبة أن الانتداب يضع الأوطان وديعة لحين عودتها إلى شعوبها. واشترط الميثاق موافقة الشعوب على دولة الانتداب. في حالة فلسطين، لم يتم الرجوع إلى الشعب الفلسطيني لأخذ موافقته على بريطانيا كدولة الانتداب، كما لم يتم الرجوع لأي من الشعوب الاخرى التي خضعت تحت حكم الانتداب. كما أن بريطانيا لم ترجع الوديعة التي إئتمنت عليها للشعب الفلسطيني وخانت الامانة.
إن مؤامرة إختلاق اسرائيل منذ بداياتها حتى نهايتها جاء بالتتدليس والمؤامرات، واستغلال ضعف شعوب المنطقة وانعدام إرادتها في نهاية عهد الامبراطورية العثمانية ووقوع معظم بلدان الشرق الأوسط تحت أسر الاستعمار. فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم 181 عام 1947، خلال عهد الانتداب البريطاني على فلسطين. وأعلن اليهود دولتهم في العام التالي بموجب قرار التقسيم، وفي نفس اليوم الذي أنهت فيه بريطانيا إنتدابها على فلسطين. واعترفت الجمعية العامة أيضاً باسرائيل عام 1949 بموافقة نفس عدد الدول تقريباً التي أقرت قرار التقسيم، في ظل مؤسسة لم يتجاوز عدد أعضائها السبع وخمسين دولة، يمثل معظمهم دول الإستعمار، حيث لم تكن أي من دول العالم الثالث قد استقلت بعد.
وتعتمد إسرائيل لإثبات بنوتها وإرتباطها الواقعي والقانوني بفلسطين على إعلان بلفور وتبعاته، وهي جميعها وثائق مضللة وليس من الصعب إثبات عدم قانونيتها، وعلى قراري التقسيم والاعتراف بها واللذان صدرا عن الجمعية العامة في الأمم المتحدة في عهد شكل معظم أعضائها دول أوروبا الاستعمارية، وكانت معظم باقي دول العالم تخضع تحت نير الاستعمار، كما أن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، فلم ينفذ قرار واحد صدر عنها من بين مئات القرارات التي اعتمدت تأييداً للحق الفلسطيني على سبيل المثال. وعلى الرغم من أن القرارات التي تصدر عن الجمعية العامة في عهدنا الحالي تأتي في ظل مشاركة جميع دول العالم الحر.
واليوم وبعد أكثر من قرن من الزمان وفِي ظل عالم حر تحرر جميع شعوبه إلا الشعب الفلسطيني، ألم يأتِ الاوان لاسترجاع الحق، ألم يحن الوقت لتساهم دول العالم الحر، خصوصاً تلك التي ساهمت في ولادة هذا الخلل وعلى رأسها بريطانيا، في حل القضية الفلسطينية العالقة، خصوصاً وأن الحق لا يموت، والشعب الفلسطيني سيبقى حياً شاهداً على هذا الحق ومحارباً من أجله.
* كاتبة وأكاديمية فلسطينية