عادل نعمان
ولا أرى دليلًا على مطاوعة ومواكبة النص القرآنى للواقع المتحرك، وموافقته لمصالح الناس التى لا تنفك عن مصلحة الدين، كهذا الذى حدث فى عمر الرسالة المحمدية وزمن الوحى الإلهى، حين رفعت ونسخت آيات، وأبطلت أحكام لتساير ظروف الناس وقدراتهم وطاقاتهم وواقعهم الحى، وإلا فما السبب من النسخ ومن الرفع إلا إذا كان كما جاء فى القرآن «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير»؟ ولا يفوتنى هنا أن أذكّر القارئ العزيز ألا يكون النسخ مطلقًا وبشرط أن يكون لخير الناس أجمعين، ولا ينسحب بأى حال على آيات القتال «آيات السيف» فكان حكمًا لزمن لا يتعداه، ومخصصًا لأهل زمان لا يتجاوزهم «نعود إلى موضوعنا»- فماذا بعد وفاة النبى وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، هل توقفت حركة الحياة وتشبث الواقع بأهداب الماضى وتسمّر على أبواب النص دون اجتهاد أو تغيير؟
فماذا فعل الصحابة بعد توقف الوحى وانقطاع اتصال السماء بالأرض؟ هل نسخوا وبدلوا واجتهدوا؟ نعم.. حتى فى النصوص القطعية الدلالة والثبوت، وهناك أمثلة كثيرة خصوصًا فى العهد العمرى لا داعى لتكرار ما كرره المجتهدون سابقًا، وتستطيع عزيزى القارئ المرور عليها حالًا، ولم يكن هذا صدامًا مع النص أو مخاصمة له، وهم أى الصحابة الذين عاصروا الرسالة آية آية، ولازموا النبى فى كل أحكامه وأوامره ونواهيه، فكيف يخالفون النص ويخرجون عليه، ويعدلون منه ما كان واجبًا تعديله، ويجتهدون فى فهمه ما أصابوا وأدركوا؟ إلا إذا كان القصد والغاية هو صالح العباد أو مصالحهم جميعًا! وليس بظاهر النص، ناهيك أن الصحابة حين قرروا هذا لم يكن معلومًا لديهم مبدأ «لا اجتهاد مع النص» فهو فقه ورأى لأئمة لاحق لفترة الصحابة، فضلًا عن أنه إن كان أمرًا واجبًا، فقد كان صاحب الحق فى ذلك هو النبى نفسه ولم يذكره أو يعرج إليه، وقد كان الأولى به من بعده الصحابة واحدًا وراء الآخر، فهل غابت عنهم جميعًا حتى جاءنا من أفتى وأقر لنا بهذا المبدأ المشروط الذى جمد العقول والقلوب، وأحال بين العقل والنص، وبين الأحكام وما طرأ على الواقع من تعديل، فتجاوزها الناس وتحايلوا عليها وعطلوها!!.
هل عطلوها؟ نعم عطلها الفقهاء أنفسهم وأبدعوا فى تعطيل «نصوص الأحكام والحدود» وأصبحت عصية على التنفيذ حين أقروا «شروطًا شرعية لارتكاب الجرم، حتى يتسنى لهم تنفيذ الحد المنصوص عليه فى القرآن» فلا جاءنا القرآن بهذه الشروط، ولا قرأنا عنها حين البعثة.
وتعال إلى الشروط الشرعية لقطع يد السارق كمثال عن الآية «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ومعروف أن هذا الحد كان معمولًا به قبل الإسلام، وقطع اليد محكوم بسرقة ربع دينار فصاعدًا «حديث» والشروط الشرعية لارتكاب جريمة السرقة لتنفيذ الحد على سبيل المثال هى (البلوغ والعقل، ألا يكون السارق شريكًا فى المال» وريث كالأب والأم والأخوات والعمات وغيرهم، وألا يكون مضطرًا أو مكرهًا، وأن يكون عالمًا بالتحريم، أن يكون نصاب المسروق «القيمة» ربع دينار وأكثر، فإذا اشترك أكثر من فرد فى سرقة فلكل واحد منهم نصابه، فإن قل لا يقام عليهم الحد، فإن سرق خمسة أفراد أقل من دينار وربع لا يقام عليهم الحد، أن يكون المسروق فى حرز «محرز» أى فى مكان محفوظ حسب نوعه ولا يترك عامًا أو مشاعًا، لا يقام الحد فى سرقة المال العام لشبهة الملكية فيه والظلم فى جمعه، أن يكون المسروق محترمًا وليس تافهًا «الآلات الموسيقية والترفيهية واللوح والرسومات والخمور مسروق تافه لا يقام الحد فى سرقتها» ألا يكون المسروق سريع الفساد، ألا يكون المسروق من سارق أو لص، أن تتم السرقة خفية دون ترويع فمثلًا السطو بالسلاح والتهديد والاستيلاء على المال عنوة فى الشارع لا يقام فيه حد القطع) أليس هذا اجتهادًا مع النص؟ وإن لم يكن هذا التعطيل وهذا الإمهال والإرجاء باجتهاد؟ وهذا الاستبعاد والإسقاط بخروج عن النص؟ حتى أصبح تنفيذ الحد أمرًا مستحيلًا بل يضمن به السارق العفو إذا تكلف فقط عناء الإنكار، فما هى بشائر ودلالات «لا اجتهاد مع النص» هذه؟ ولولا هذا الاجتهاد مع النص لقطعت ملايين وملايين الأيادى فى ربع دينار فقط دون قيد أو شرط .
«الدولة المدنية هى الحل»
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com