النكتة قديمة فأقدم نكتة في التاريخ تعود إلي 3900 سنة عندما استخدم السومريون النكتة للتعبير عما يعانونه مع الزوجة النكدية ، واستخدمها قدماء المصريون في حياتهم اليومية للسخرية من كل شيء ، حتي تأصلت روح المرح والفكاهة في الشخصية المصرية حتي صرنا نري أن من يطلق النكات أنه ( ابن نكتة ) وهو شخص لديه القدرة علي التلاعب بالألفاظ ليثير ذهول من حوله، سخر المصريون القدماء من الغزاة المحتلين مثل الفرس واليونانيين والرومان ، فم يتركوا فرصة تمر بهم دون أن يصيبوهم بسهام تهكماتهم فأطلقوا علي بطليموس الحادي عشر لقب الزمار لكثرة ولعه بالمزمار .
ما هي النكتة ؟
النكتة هي نقد موجه نحو شخصية أو مجتمع أو عادات أو تقاليد أو سياسات ، تصاغ بأسلوب ساخر أو هجاء صريح أو رسالة مشفرة يتناقلها الناس همسا أو يتداولونها في المقاهي أو التجمعات أو علي خشبة المسرح . النكتة قد تكون قصة قصيرة جدا ، فهي قد تتألف من جملة واحدة ، وتتضمن أحيانا : بداية وحبكة ونهاية .
هي هنا موقف صاغة عقل جمعي مجهول بمفردات بسيطة قوامها المفارقات المكثفة التي تقع في اطار الوقائع الحياة اليومية ، بسخرية لاذعة تنفذ إلي الأعماق ، فهل أصبح العقل الجمعي المصري مشلولا لكي لا ينتج نكات تبلور الحياة اليومية وتسخر منها ، هذا ما يتطلب البحث عن المعطيات التي أدت لذلك ، هناك بعد غائب عنا وهو أن النكتة أيضا ناتجة من موروث شفهي عبر العصور تتناقله الأجيال جيل بعد جيل ، لكننا تجاهلنا الثقافة الشفهية الموروثة علي أهميتها ، فصارت الذاكرة الوطنية الشفهية لا تخزن موروثاتها بأشكال مختلفة ، هذا ما أدركه الشيخ عبد العزيز البشري حين قدم وصفا لمن يستطيع صناعة النكتة علي النحو التالي : ( من لديه القدرة علي ابداع النكتة يجب أن يكون لديه خلال منها : الذكاء اللماح ، سرعة الخاطر ، وقوة اللسان ، والتي تقوم علي دقة التصوير والتخييل باللسان ، والعلم بأحوال الزمان والبيئة والأشخاص ، وشيء من الجراءة ، وشيء من قلة الحياء ، وأخيرا لابد خفة الروح ) في مصر النكتة لها قوالب متعددة منها : الالغاز ، والدعابات ، وتحمل رموزا وتمويها وروحا فيها تهكم .
فلسفة الضحك هي أبرز ما يعكس ما وراء النكتة، وقد تحمل سخرية من شخص ما بسبب عمله مثل : واحد كهربائي اتجوز أربعة جابلهم مشترك ، أو تعكس النكتة انحدار القيم مثل : ندل بني مسجد لقي ناس كثير يروحوا يصلوا فيه قلبه مطعم .
النكتة لا تطلقها المجتمعات فقط ، بل الحكام العرب استخدموا النكتة فروجوا نكاتا سياسية تستهدف الهاء الناس عن التفكير بوضعهم المعيشي المتردي وبؤسهم الحياتي وللتنفيس عن المكبوت ، والنكتة السياسة تلعب أحيانا دور المهديء للناس وأحيانا دورا دعائيا لصالح السلطة وأحيانا تكون أداة من أدوات المعارضة ، وهو ما شهدته مصر بصورة مكثفة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر حتي أنه كان حريصا هو والرئيس أنور السادات علي تتبع النكات حتي التي كانت تسخر منهما، وهذا أيضا كان ذات الوضع مع العراق في عهد صدام حسين حتي أنه في عام 2003 كلف كل من الدكتور قاسم حسين صالح والدكتور موفق الحمداني من جامعة بغداد بدراسة النكت في العراق خاصة السياسية وتحليها والتي وصلت لحد لم يكن يتخيله أحد في العراق حتي أن أحد المسجونين في سجن أبو غريب حلم بموت الرئيس صدام حسين ، فوصل الخبر إلي إلي مدير السجن وتم استجوابه وتعذيبه وقال له ( اشلون تحلم بالسيد الرئيس ميت ! ) ولم ينفعه تبريره ( أن الذي يموت في الحلم يعني عمره طويل ) صارت هذه الحادثة مثار عدد من النكات في العراق ، لكن تحت القمع تبلد الأحساس في العراق فاختفت النكتة ، ويري عالم النفس العراقي الدكتور قاسم حسين أن هذا يعود إلي أن حكام العراق ما عادوا يهتمون بالنكت السايسية التي تقال ضدهم لسببين : سياسي كونهم ما عادوا يخافون الشعب ، وأخلاقي : كونهم اعتادوا عليها وما عادوا يخجلون ...
هل في حاجة لاستعادة النكتة ، نعم حتي ولو كانت لاذعة ، لأنها تعطي مجالا ومساحة لاستيعاب الناس وتكشف عن المشكلات ، هذا ما حدث مع الرئيس جمال عبد الناصر حين سمع النكتة التالية : سمع رجلا من القاهرة أن الأرز وهو سلعة صعب الحصول عليها ، أن الأرز متوفر في الإسكندرية ، فسافر في القطار كي يحصل علي قوت عائلته ، فسأله محصل التذاكر إلي أين تسافر ؟ ، فأجابه إلي الإسكندرية لأشتري الأرز ، ولما وصل القطار إلي طنطا وتبعد عن الإسكندرية مائة كيلو متر ، قال له الكومسري : إنزل هنا ! ، فسأله لماذا ولم نصل بعد الإسكندرية ؟ فأجابه : مش إنت رايح عشان تشتري الأرز ؟ ، انزل الأن هنا لأن الطابور يبدأ من هنا . سمع الرئيس جمال عبد الناصر هذه النكتة فسارع باتخاذ اجراءات لحل أزمة الأرز .
كانت النكتة محل العديد من الكتب فكتب عادل حمودة كتاب (كيف يسخر المصريون من حكامهم ) ركز فيه علي حقبة كل من الرئيس عبد الناصر والرئيس السادات ولم يتناول فيه حقبة الرئيس مبارك الذي صدر الكتاب في عهده ربما تفاديا للاشتباك السياسي ، لكن النكتة كان لها أساطينها ومنهم بيرم التونسي وكامل الشناوي الشاعر المرموق ، لكن أيضا دخلت مع فن المونولج علي المسرح، وهو ما يستدعي مقالا أخر عن الفنون المندثرة من مصر والتي صاغت المرح في حياة المصريين .
* كاتب وبروفيسور مصري
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com