بداية، يقع الحيّ الأرمني جنوب غربي البلدة القديمة على جبل صهيون، وتشغل مساحته 300 دونم، أي ما يعادل سدس مساحة البلدة القديمة وهو من أقدم احياء البلدة. وتشير الاحصائيات أن عدد سكان الأرمن قبل حرب العام 1967 وصل إلى نحو خمسة وعشرين ألف نسمة موزعين على أنحاء فلسطين، لكن معظم الأرمن هاجروا بعد احتلال مدينة القدس، واليوم يتراوح عدد سكان الحي الأرمني حوالي الألف نسمة فقط. لكن الأهم في الموضوع هو مركزية حيّ الأرمن الملاصق لما يعرف بحارة اليهود، وموقعه الاستراتيجي من ناحية امتداده من سور "القشلة" إلى حدود سور البلدة القديمة "باب النبي داوود". وعليه فأن القضية الأرمنية لم تكن في أي يوم بمعزل عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فبعض التقارير تشير بشكل واضح إلى تعرّض البطاركة الأرمن لضغوطات هائلة لبيع أملاك في الحيّ، خاصة في فترة رئيس بلدية القدس تيدي كوليك.
ولا ننسى أيضاً أن الحيّ الأرمني في القدس شكَّل واحدة من أبرز النقاط الخلافية في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 حين تشبّث الراحل ياسر عرفات بالحيّ المذكور ورفض أي تنازل عنه، حيث لعب الحيّ قضيةً خلافيةً إلى جانب قضية عودة اللاجئين التي أدت الى فشل المفاوضات. يذكر هنا أن الأمريكان في ذلك الوقت طرحوا فكرة أن الاحياء المسيحية والاسلامية ستكون تحت سيادة السلطة الفلسطينية، والأحياء اليهودية تحت سيطرة الاحتلال. مما شكل صدمة كبيرة لوفد المفاوضين الإسرائيليين بسبب حصر الحيّ اليهودي بركن صغير، بالإضافة لرغبة الرئيس الراحل عرفات ضم الحيّ الأرمني وعدم المساومة به، حين قال جملته الشهيرة: "أنا ياسر عرفاتيان!"
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحيّ الأرمني يحتوي على مساحات خضراء واسعة تفتقد اليها البلدة القديمة، وهي بمثابة كنز سياحي وديني يزيد من المطامع الإسرائيلية الشرسة للسيطرة والتوسع من باب الخليل إلى باب النبي داوود، ناهيك عن كل الحملة الاستيطانية الحالية التي يشهدها باب الجديد.
الواقع المؤسف اليوم يشير إلى اتفاقين بارزين يلوّحان بكارثة تسريب هي الأخطر في تاريخ الحيّ الأرمني، بل في نظري في تاريخ القدس ككل؛ فالحدث الأول هو توقيع بطريركية الأرمن لاتفاقية مع بلدية القدس عام 2020، بموجبها تؤجر البطريركية موقف السيارات المعروف ب "حديقة البقر" لبلدية القدس لمدة عشرة سنوات، حيث تتكلف البلدية بتجديد الموقف كاملاً وتحصل بالمقابل على مواقف ل 90 سيارة لسكان من الحيّ اليهودي، وباقي المواقف تكون لسيارات الحيّ الأرمني، مع العلم أن الموقف في ذلك الوقت كان مكتظاً بما فيه الكفاية وكان بحاجة لتوفير المزيد من المواقف لأهل الحيّ الأرمني. لكن الحدث الأبرز حصل في يوليو من عام 2021، حيث كشفت العقود المسرّبة إلى توقيع اتفاقية مع شخص يدعى داني روثمان، يخوّله ببناء فندق على أرض الموقف. وتشير الاتفاقية أن مدة التأجير هي 49 سنة قابلة للتجديد التلقائي لمدة 99 سنة. عند معاينة الاتفاقية نكتشف فعلاً حجم الكارثة! حيث إن مساحة "حديقة البقر" هي 7 ألاف و 500 متر مربع، لكن الاتفاقية تتحدث عن مساحة 11 ألف و500 متر مربع، أي انها تشمل أيضا منازل خمس عائلات أرمنية، ومدرسة اللاهوت (السيمينير)، والمتحف الأرمني، وموقف السيارات. وتشّكل هذه المساحة 25% من اجمالي مساحة دير الأرمن كاملة. كما تشير الاتفاقية الكارثية إلى وجود بند يسمح ببيع الأسهم لطرف ثالث دون موافقة البطريركية، اضافة إلى بند آخر يذكر مساحة 19 ألف متر مربع من سور "القشلة" إلى باب النبي داوود كقطعة أرض واحدة يمكن اضافتها إلى الاتفاقية إذا لم تتعارض مع مخططات البطريركية. كما تتحدث الاتفاقية عن مبلغ 300 ألف دولار ايجار سنوي تُدفع للبطريركية و 5% تعطى من أرباح الفندق - ولكن إذا لم يكون هناك أرباح للفندق تخصم الشركة ال 5% من الايجار السنوي! وهذا يعكس بشكل واضح أسلوب الاتفاقيات التي تبرم مع الجهات الاستيطانية العملاقة مثل "عاطيرت كوهانيم" اليهودية اليمينية المتطرفة وغيرها.
يشار هنا إلى أن الاتفاقية تمّ التوقيع عليها من قبل الطرف الأول بطريرك القدس الأرمني رئيس الأساقفة نورهان مانوجيان، ونائب رئيس الأساقفة المطران سيفان غريبيان، ومدير قسم العقارات في البطريركية الأب باريت يريتسيان الذي تم طرده من الحيّ، و عن الطرف الثاني صورة ختم دون توقيع أو اسم. كما ينقص الاتفاقية المسربة الصفحة رقم 4 والتي تحتوي على المبلغ المدفوع مقابل الصفقة. وقد أشار الأب بريتسيان في مقابلة صحفية أن الاتفاقية هي اتفاقية تجارية بحتة، ليس لها أي علاقة بخيانة أو تسريبات وأنها ليست كباقي اتفاقيات التسريب التي وقّعتها بطريركية الروم الأرثوذكس في السابق مع جهات استيطانية. يشار هنا أنه بعد الإعلان عن الصفقة، نفى البطريرك مانوجيان مسؤوليته وألقى اللوم على ييرتسيان – مدعيًّا أن الاتفاق حدث دون علمه الكامل. وتم عزل يريتسيان وفرّ منذ ذلك الحين إلى لوس أنجلوس الامريكية. في حين حصر مانوجيان نفسه في الدير حيث يحتج السكان أسبوعياً في الخارج مطالبين بإلغاء الصفقة، وإلى يومنا هذا، ترفض البطريركية الأرمنية التعليق على هذه القضية.
أذاً، استغرق الأمر أكثر من ثلاثين سنة ليحقق المتآمرون هدفهم في الاستيلاء على أجمل وأكبر المساحات في البلدة القديمة، وبينما يبدو أنه من المستحيل إعادة عقارب الساعة، إلا أن الجهود الأرمنية على أرض الواقع – بالرغم من شعورها أنها الجندي الوحيد على أرض المعركة- هي جهود جبارة وذريعة، وقد تمثلت من خلال الاعتصامات الأسبوعية في ساحة دير الأرمن، وبدعوة ستة محامين أرمن للحضور من أمريكا، جاءوا خصيصاً لدراسة القضية ومعاينة الاتفاقيات، حيث قاموا أيضاً بزيارة الى الديوان الملكي الهاشمي وزيارة السلطة في رام الله بالإضافة إلى لقاء العديد من البطاركة والمطارنة من الطوائف الأخرى. ومن خلال هذه الزيارات قامت كل من الأردن والسلطة الفلسطينية بتجميد اعترافهما بالبطريرك نورهان بسبب الصفقة إلى حين اعلان البطريرك موقفه منها. أما بالنسبة للتحقيق الدقيق الذي قام به المحامون خلال أسبوع تواجدهم في القدس، فقد قاموا بتسليم تقريرهم في يوم الجمعة 7 من يوليو 2023 إلى الجالية الأرمنية في القدس، حيث احتوى هذا التقرير على 184 صفحة من الأدلة والحجج التي توضح ماهية الاتفاق وآليات الإلغاء بحسب شروط العقد الجزائية.
يجدر الإشارة هنا إلى أن البطاركة والمطارنة الأرمن خارج القدس في أرمينيا والدول الأخرى كانوا أول من عارض الصفقة في بداية تسريبها قبل عام، إلا أن جميع هذه الجهات تلتزم الصمت الكامل اليوم، وبالتالي فأن الدعم منهم غير مجدي. ولكن نرى أن هناك اتحاد يجمع أغلب أطراف الرعية الأرمنية في القدس، إذ أصدرت النوادي الثلاثة (الهويتشمن، والهومنتمن، والباراسيرات) بياناً مشتركاً تطالب البطريرك بإلغاء العقد وعدم تمريره، مع العلم أن هناك بعض الرهبان والخوارنة الذين يدعمون هذا التحرك الشعبي ولو بشكل غير مباشر أو علني، بينما شهدت البطريركية بعض الترقيات السريعة المبهمة لبعض رجال الدين في الأشهر الأخيرة. وتطالب الرعية الأرمنية انضمام الشارع المقدسي إلى هذه الاحتجاجات الأسبوعية، كما تطالب مجالس الكنائس والبطاركة بإصدار بيان إدانة مشترك لدعم القضية.
في النهاية، تجدر الإشارة إلى الوعي الكبير لدى أبناء الطائفة الأرمنية الذين لا يطالبون بالإطاحة أو بعزل البطريرك الحالي نورهان حتى لا يقعوا بنفس المطب الذي حصل مع البطريرك السابق للروم الأرثوذكس إيرينيوس، الذي تم عزله في عام 2005 بسبب بيعه لثلاثة ممتلكات تابعة للكنسية لمجموعة "عاطيرت كوهانيم"، وقد أدى هذا العزل إلى طعن خليفته ثيوفيلوس الثالث في مبيعات العقارات في المحكمة، مما أدى إلى معركة قانونية طويلة انتهت العام الماضي، عندما أيدت المحكمة العليا الاسرائيلية حكماً ضد الكنيسة وبالتالي خسارة القضية.
* مستشار لشؤون الكنيسة في الشرق الأوسط
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com