المشكلة ليست في قلة المعلومات المتاحة في الإعلام ووسائل الاتصال العربية، بل على النقيض من ذلك، فقد وفرت التكنولوجيا الحديثة قدراً من المعلومات يفوق قدرة المرء على الاستيعاب. المشكلة هي في مدى صحة هذه المعلومات أو دقتها أو موضوعيتها، نظراً إلى ما يشوبها في معظم الوقت من حذف وإضافة أو تحريف، بحيث يتم تشويه "الحقيقة" أو تغييبها في معظم الأحيان. ويرجع السبب الرئيسي في هذا إلى "دولجة" معظم أنظمة الحكم في العالم العربي، لكافة وسائل الإعلام المرئي والرقمي، إما فعلياً أو من خلال السيطرة والرقابة الكاملة على المحتوى الإعلامي، سواء "الخبر" أو "الرأي"، مما يؤدى إلى انكماش دور الإعلام الحر المستقل، باستثناءات قليلة جداً في الإعلام الرقمي أو الإعلام الورقي الذي ينكمش دوره بسرعة.
ولا تنحصر الأزمة فقط في سيطرة أنظمة الحكم على وسائل الإعلام، وإنما في استخدامها في المقام الأول كوسيلة فعالة لنشر رؤاها وفكرها -التي هي في غالبيتها رؤى إقصائية وأفكار قمعية- ومن هذا المنطلق أو الـmindset، يصبح التحكم في "الرواية" عن طريق تحوير المعلومات وتدوير الحقيقة جزءاً محورياً من سياسات الدولة وتصبح "الأذرع الإعلامية" جزءاً أساسياً من جسدها، بهدف تشكيل وعي شعوبها لتأييد سياسات ومواقف متناقضة ومتذبذبة يقوم الكثير منها على خلافات شخصية بين الحكام، أكثر من الاستناد إلى المصالح الوطنية أو القومية، فعدو الأمس يتحول بين ليلة وضحاها إلى حليف اليوم والعكس صحيح. وبالطبع فإن التقلب السريع في السياسات والتوجهات يتطلب ماكينةً تعمل بلا توقف بهدف مواءمة العقل الجمعي في كل وقت مع سياسات وتوجهات اللحظة.
وقد انعكس هذا المناخ الميكيافيلي على وسائل التواصل الاجتماعي التي ما زال الهدف منها، مشاركة الشعوب بدرجة أكبر في رسم حاضرها ومستقبلها عن طريق دمقرطة المعلومات والمزيد من الرقابة على أنظمة الحكم.
وإذا كانت منصات التواصل قد نجحت في هذا إلى حد لا بأس به، بحيث أصبح من الصعب على الأنظمة أن تحجب المعلومات أو الحقيقة بالكامل عن شعوبها، فما زالت المحاولات تجري على قدم وساق، عن طريق الذباب الإلكتروني وغيرها من التقنيات، لإغراق المنصات بفيضان من المعلومات الكاذبة والمضللة بهدف التجهيل العقلي والشحن العاطفي.
وللأسف، فقد أدت تلك المحاولات المستمرة من جانب أنظمة الحكم، "لتسليح" المعلومات وتغييب الحقائق على المنصات، إلى تأثير سلبي على شكل الحوار ونوعيته بين الناس بشكل عام. وكما يقال "الناس على دين ملوكهم"، فقد أصبح من النادر أن لا تجد حواراً ينزلق بسرعة كبيرة نحو الهجوم الشخصي واستخدام "ما تيسّر" من الكذب والبذاءة والعنصرية، سواء أكانت دينيةً أو طائفيةً أو جندريةً أو غيرها، كما أصبح نادراً كذلك أن نرى نقاشات عقلانيةً تهدف إلى الجمع وليس الفرقة، أو إلى التوصل إلى أرضية مشتركة؛ كلها معارك صفرية الجميع فيها خاسرون.
ما أقوله ليس جديداً في أي حال وإنما ما أخشاه أن أنظمة الحكم غير مدركة أن المجتمعات الإنسانية لا تتقدم دون توافر مساحات واسعة تتيح أكبر قدر ممكن من حرية التفكير والتعبير، وكذلك ركائز وآليات قانونية وعملية تحتوي الآخر وتضمن قبوله ومشاركته من خلال عقد اجتماعي يقوم على المساواة والتضامن وحماية الأقلية من طغيان الأغلبية.
وإذا كانت منصات التواصل قد نجحت في هذا إلى حد لا بأس به، بحيث أصبح من الصعب على الأنظمة أن تحجب المعلومات أو الحقيقة بالكامل عن شعوبها، فما زالت المحاولات تجري على قدم وساق، عن طريق الذباب الإلكتروني وغيرها من التقنيات، لإغراق المنصات بفيضان من المعلومات الكاذبة والمضللة بهدف التجهيل العقلي والشحن العاطفي.
وللأسف، فقد أدت تلك المحاولات المستمرة من جانب أنظمة الحكم، "لتسليح" المعلومات وتغييب الحقائق على المنصات، إلى تأثير سلبي على شكل الحوار ونوعيته بين الناس بشكل عام. وكما يقال "الناس على دين ملوكهم"، فقد أصبح من النادر أن لا تجد حواراً ينزلق بسرعة كبيرة نحو الهجوم الشخصي واستخدام "ما تيسّر" من الكذب والبذاءة والعنصرية، سواء أكانت دينيةً أو طائفيةً أو جندريةً أو غيرها، كما أصبح نادراً كذلك أن نرى نقاشات عقلانيةً تهدف إلى الجمع وليس الفرقة، أو إلى التوصل إلى أرضية مشتركة؛ كلها معارك صفرية الجميع فيها خاسرون.
ما أقوله ليس جديداً في أي حال وإنما ما أخشاه أن أنظمة الحكم غير مدركة أن المجتمعات الإنسانية لا تتقدم دون توافر مساحات واسعة تتيح أكبر قدر ممكن من حرية التفكير والتعبير، وكذلك ركائز وآليات قانونية وعملية تحتوي الآخر وتضمن قبوله ومشاركته من خلال عقد اجتماعي يقوم على المساواة والتضامن وحماية الأقلية من طغيان الأغلبية.
يعلّمنا التاريخ أن حرية التفكير والتعبير هي سنّة الحياة، وهي المنطلق لأي تقدّم في أي مجال إنساني، سواء في مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية أو في مجال الأدب والفنون. ولعل مركزنا المتواضع اليوم في ميادين البحث العلمي والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والحاسبات الضخمة وغيرها من ركائز التقدّم العلمي، مؤشر على ذلك… كما يعلّمنا التاريخ أن المجتمعات التي فهمت أن قوتها في تعدديتها، وفي توظيف هذه التعددية بكفاءة واقتدار، هي مجتمعات في سلام مع نفسها وأقل عرضةً للصراعات والحروب وأكثر ميلاً إلى الثبات والاستقرار..
أملي أن تعي أنظمتنا قبل فوات الوقت أن مفتاح تقدّمنا وقدرتنا على التقدم والتنافس في عالم يزداد ضراوةً، هو إتاحة حرية التفكير والتعبير لتنطلق شعوبنا من عقالها، وتحلّق مع غيرها من الشعوب التي سبقتها. التفكير الحر مكانه في الصدارة وليس في غياهب السجون. والإعلام الحر ضرورة لا غنى عنها لحرية التعبير في إطار مجتمع مدني قوي يكفل الحرية والاستقلالية للجمعيات والمؤسسات والأحزاب. وأتصور على المدى البعيد، أن وجود هيئات إعلامية "مستقلة" ممولة في معظمها تمويلاً مباشراً من الشعب لضمان "حيادها" بعيداً عن النفوذ السياسي والمالي، كما هو الحال مع BBC في المملكة المتحدة، وPBS في الولايات المتحدة الأمريكية، قد يساهم في حرية الإعلام واستقلاله إلى حد بعيد.
وارتباطاً بحرية التفكير والتعبير، لا بد أن أؤكد، مرةً أخرى، أن تقدّمنا مرتبط بفهمنا أن كلاً منّا إضافة إلى الآخر وليس بديلاً منه، وأن تعظيم ما يجمعنا، وهو كثير، وقبول الآخر، كل آخر، بروح من التسامح والتضامن، أفضل طريق. التعددية هي سنّة الحياة، وهي مصدر قوة وثراء، وليست سبباً أو مبرراً لضعف وانتكاس. ينكسر قلبي كل يوم أرى فيه حجم الاستقطاب والكراهية التي تملأ النفوس. لقد نجحنا بجهل في أن نصل إلى أن نصبح أعداء أنفسنا!
في هذه المرحلة من عمري، ما زال أملي قائماً… ولهذا أكتب ما تقدّم وعيني على الأجيال المقبلة من أجل الخروج من المأزق الذي وضعنا أنفسنا فيه، والذي بأيدينا نحن فقط نستطيع الخروج منه.
* سياسي مصري
المصدر: موقع "رصيف"
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "حياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com