لم تكن المقابر في مصر مكانا لدفن الموتى بقدر ما هي تعبير عن الرغبة في حياة أبدية سعيدة في العالم الآخر، لذا صار للموت قدسية وحرمة في مخيلة المصريين، بل صار للموت فلسفة في حياة المصريين، وحين تقوم بإزالة مقابرهم فأنت بذلك تجرح هذه المخيلة وتتعرض للسخط بالدعاء عليك منهم.
القضية هنا أيضا ترتبط بأن المشاهير والأعلام من المصريين دفنوا في القرافة القاهرية منذ الفتح العربي إلى الآن، فورش وهو صاحب القراءة القرآنية الشهيرة في العالم مدفون في القرافة، ومن المدهش أن العديد من مقابر مشاهير المصريين صارت تطلب زيارتها منذ عصور قديمة، حتى ألفت مؤلفات في الإرشاد السياحي لزيارة المشاهير من الأولياء والمشاهير فالكندي والقضاعي وغيرهم ألفوا كتبا في الزيارة وإرشاد الزائرين لمقابر هؤلاء.
ولنذهب معا إلى السيدة نفيسة التي دفن إلى جوارها أمير الشعراء أحمد شوقي ومدفنه تحفة فنية ازدان بخطوط اثنين من مشاهير الخطاطين في العالم الإسلامي هما يوسف أحمد وسيد إبراهيم، وبالقرب منه قبر حافظ إبراهيم الذي شيد بطريقة معمارية فريدة حيث تعلوه قبة ترتكز على أربع دعامات دون جدران وهو ذات تصميم قبر حافظ شيرازي الشاعر الإيراني الشهير المدفون في شيراز، وقد حولت إيران قبره إلى مزار سياحي، وعلى بعد خطوات منهما قبر الشيخ محمد رفعت أشهر من قرأ القرأن الكريم في القرن العشرين، والي القرب منه مدفن تراثي مذهل دفن به محمود سامي البارودي الذي كان وزيرا لدفاع مصر ورئيسا للوزراء وشخصية محبوبه من المصريين وعلي بعد خطوات مدفن المعماري مصطفي باشا فهمي وغيرهم ، بل القضية التراثية هنا أعمق من ذلك، فقد تبارى المعماريون المصريون في تصميم المدافن وقبابها حتى رأينا استعادة وإحياء للعمارة الإسلامية بروح جديدة، بل الدهشة من تصميم معماري لمدفن في السيدة نفيسة على طراز المعابد الفرعونية.
السؤال المحير هنا أمام كل مصري: هل تتحول المقابر إلى عائق أمام أي جهود عمرانية أو تنموية؟ ليطرح عليك سؤال آخر: هل إزالة المقابر حرام في حين أن الرسول صلي الله عليه وسلم حين نزل المدينة المنورة أزال مقابر كانت في موقع مسجده؟
بل ان العديد من القباب الضريحية ينطبق عليها قانون حماية الاثار ولم تسجل الي الان في عداد الاثار ، بل ان محافظة القاهرة بها ادارة معنية بالقاهرة وتراثها لم نسمع لها صوتا في هذا الموضوع بل حتي وزارة الاسكان والتعمير بها جهاز للقاهرة التاريخية لم يحرك ساكنا .
ليطرح عليك سؤال: هل نحن نزيل المقابر التي هي جزء مهم يؤرخ لمصر ونفقد للأبد تراثا مصريا؟ ليطرح عليك سؤال: هل نحن عاجزون عن توظيف مقابر العظماء في ترسيخ الهوية الوطنية وفي جذب المزيد من السياحة لمصر؟
الحقيقة أن مثل هذه القرارات المتعلقة بالموتى تحتاج إلى وضوح وإلى إظهار الغاية من ذلك لأن القرار إذا لم يكن له مبرر أو بديل قوي فسيكون محل سخط عام، فمن الصعوبة على مصري أن يعيد دفن أحبائه، الابن حين يعيد دفن أبيه أو أمه أمر صعب للغاية على النفس، الأب من الصعوبة عليه إعادة دفن ابنه أو بنته المتوفاه في ريعان شبابها، أعرف أن هذا طرح صعب على من يقرأ هذا المقال لكنها الحقيقة المرة التي لا يعيها سوى من مر بهذه التجرية المريرة، فلذا حين لا نشرح للناس ونقنعهم بأنه لا يوجد بديل آخر، فإن هذا التجاهل في الإيضاح يترك في نفوس الناس جروحا نافذة من الصعب علاجها.
الأمر الآخر سيسجل التاريخ لمن اتخذ هذا القرار بإزالة مدافن هي جزء من سيرة الوطن وتريخه وتراثه الفني والمعماري، أنه دمر تراث وتاريخ الوطن، هذا في حد ذاته يتطلب مراجعة هذا بعمق وبتفكير ودراسات اجتماعية وأنثربولوجية واقتصادية حتى يكون الأمر في إطار يمكن تقبله الآن وتقبله من الأجيال القادمة التي ستذكر أن من سبقوهم دمروا تاريخ الوطن.
إن الطرح الإيجابي يتطلب تأجيل قرارات الإزالة وتشكيل لجنة تتخذ قرارات في هذا الشأن يكون أعضاؤها من خبراء وطنيين في التراث والتخطيط العمراني لمراجعة كل هذا الملف، واقتراحي أن تنشئ مصر متحفا للموت في ذات المنطقة، يتم جمع التراث الذي يمكن نقله لهذا المتحف الفريد من نوعه على مستوى العالم، ثم تجنب إزالة مدافن لها قيمة معمارية وفنية فريدة وتحويل المناطق حولها لحدائق وهو ما كانت عليه قديما حيث كانت تضم متنزهات كانت جاذبة للمصريين، وأنا هنا أتحدث مثلا عن مدفن أمير الشعراء أحمد شوقي وضريح الشاعر حافظ إبراهيم على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما انتقل لأوروبا من تراثنا، فلندن المدافن بها حدائق تجذب مئات الزائرين، بل إن الكثيرين لا يعرفون أن قبة الإمام السيوطي المجاروة لميدان السيدة عائشة يوزرها مئات الزوار من خارج مصر ولقرون هي مزار سياحي لكل من يأتي إلى مصر.
فما المانع أن نرممها وأن نقيم إلى جوراها متحفا لمخطوطات وحياة السيوطي أليس هذا متحفا جاذبا للآلاف من أبناء الدول الإسلامية لزيارة ضريح السيوطي أشهر علماء الاسلام.. إن ما لا يعرفه الكثيرون أن مناطق القرافة في مصر من مصر القديمة إلى العباسية إلى جوار سفح المقطم لو في بلد آخر لصارت منطقة حفائر أثرية ستقدم لنا الكثير من المعلومات المفقودة من تاريخنا وتكشف عن تراث مفقود، فمثلا مدينة العسكر التي كانت عاصمة مصر في العصر العباسي تقع أسفل مقابر السيدة نفيسة، بل إن مسجد السيدة نفيسة بني فوق المسجد الجامع لمدينة العسكر، وبالتالي ستجد حول هذه المنطقة تلالا أثرية أقربها التلال التي بنيت عليها منطقة زينهم، إن هذا المقال هو دعوة للمراجعة والتفكير بل ودعوة لأن نفكر سويا لمصلحة مصر وتراثها ومستقبلها.
* كاتب وبروفيسور مصري
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com