سعى كثير من الباحثين لمقاربة الحالة الاستعمارية في فلسطين عبر الاستعانة بمرجعيات معرفية ذات طابع عالمي، وعقد مقارنات أو استنبات مفاهيم معينة، لتوائم تأطير وتحليل المشروع الصهيوني. فمن منظور دراسات الاستعمار الاستيطاني، حيث تتداخل ممارسات “إسرائيل”، وفقاً لهذا المنظور، السياسية ونظام الحكم والسيطرة مع بنيتها الاستعمارية، القائمة على ركيزتَي إزالة أو محو الأصلاني من الحيز الجغرافي، ومن ثم إنشاء مجتمع المستعمِرين مكانه. ومع تطور حقل دراسة الاستعمار الاستيطاني بفعل بعض الإسهامات المهمة لبعض الباحثين، من أبرزهم باتريك وولف Patrick Wolfe ولورينزو فيراسيني Lorenzo Veracini، تحول إلى منظور بحثي بارز في العديد من الدراسات التي تهتم بتحليل ومعالجة الحالة الاستعمارية المستمرة في فلسطين.
لكن هذا لم يمنع من ظهور مداخل أخرى، إذ برز نموذج بحثي آخر دعا إلى نقد نموذج الاستعمار الاستيطاني لدراسة فلسطين بهدف التشديد على أن الأصلانية ليست “مفعولاً به” على صفحات المشروع الاستعمار الاستيطاني، وإنما هي ذات اجتماعية فاعلة وقادرة على الاستمرار (في مقابل حتمية إزالة الأصلانية). ودعت دراسات الأصلانيين إلى تعزيز جهود التضامن المشترك مع السكان الأصليين حول العالم. إن النهج التحليلي للأصلانية نظر إلى الاستعمار الاستيطاني كحدث محدود، وليس كنظام بنيوي مستمر. كما اهتم هذا المنظور بالحياة قبل تشكل بنية الاستعمار ذاته، وبالمقاومة خلالها، ويتحدث عن الرؤى المستقبلية لتفكيك منظومة الاستعمار. بالإضافة إلى أنه، وفي ظلّ تسارع المشروع الاستيطاني الاستعماري، تزايدت أهمية مدخل الفصل العنصري (الأبارتهايد Apartheid) كإطار لتحليل وفهم نظام الحكم الإسرائيلي في فلسطين التاريخية وتحديه.
ستذهب الدراسة إلى عقد مقارنة بين حقليّ دراسات الاستعمار الاستيطاني، ودراسات الأصلانية، وذلك من أجل التعرف على أوجه الاتفاق والاختلاف، ومن ثم استيضاح دواعي وأسباب النقد والسجال النظري المُثار بينهما.
وفي هذا السبيل، ستستعين الدراسة بالأدبيات الفلسطينية والأجنبية المتاحة في هذا الحقل، للإجابة عن التساؤلات المثارة آنفاً، مع الأخذ بعين الاعتبار حالة الارتباط والتشابك بين التأطير النظري وصياغة الحلول العملية المناسبة للصراع المستمر منذ أكثر من قرن على أرض الواقع، التي لا فكاك منها في حالة فلسطين/ “إسرائيل”.
لذلك، سيتم مناقشة القضية التي تتناولها الدراسة في قسمين إثنين، أولهما: يشمل استعراض طروحات وفرضيات إطارين نظريين، من أبرز أُطر تحليل الواقع الاستعماري في فلسطين، من أجل التعرف على أفكارهما، ثم التطرق إلى بعض أوجه النقد والسجال النظري الذي أثارته بعض إشكالات التوظيف والتطبيق الفعلي لهذين الإطارين.
أما في القسم الثاني، فسيتم التطرق لمدى أهمية الخروج من حالة تعدد واختلاف الأطر النظرية في سياق دراسة حالة فلسطين/ “إسرائيل”، عبر اعتماد إطار نظري مشترك، يمثل استراتيجية أكاديمية مشتركة، مما قد يساعد في صياغة استراتيجية وبرنامج وطني موحد، يعمل على ترميم الحالة الكفاحية الفلسطينية بمختلف مستوياتها وتوجهاتها. وذلك، على افتراض ترابط وتداخل دوافع وغايات العمل النظري والعلمي الأكاديمي بالسياسي والوطني الفلسطيني.
وتنبع أهمية الدراسة من كونها تمثّل محاولة لتقديم معالجة لإشكالية تعدد واختلاف الأطر النظرية الموظفة في سياق دراسة وتحليل الحالة الاستعمارية في فلسطين، الأمر الذي قد يترتب عليه تشتت الاستراتيجية الوطنية. وذلك، من خلال الدعوة إلى اعتماد إطار نظري استراتيجي مشترك، يشمل كافة الطروحات والنماذج النظرية والتحليلية الأخرى.
القسم الأول:
1. مفهوم الاستعمار الاستيطاني كإطار للتحليل:
لقد تزايد الانشغال الأكاديمي الفعلي بهذا المفهوم باعتباره مقولة تحليلية بعد ظهور أعمال تأسيسية مهمة في حقلَي الأنثروبولوجيا Anthropology (علم الإنسان) والسوسيولوجيا Sociology (علم الاجتماع)، إذ تعدّ أعمال كل من باتريك وولف وآني كومبز Annie Combes وكارولين إلكنز Caroline Elkins ولورينزو فيراسيني، الذي ستناقش الدراسة كتاباتهم لاحقاً، وغيرهم، من أهم الأعمال التي قُدِّمت في هذا السياق. وقد تمّ تكوين مجلة علمية متخصصة بدراسات الاستعمار الاستيطاني في سنة 2010، أسهمت بدورها في بلورة وتطوير هذا المفهوم كحقل دراسي معرفي.
ويمكن شرح مفهوم الاستعمار الاستيطاني كإطار نظري تحليلي بالرجوع إلى أعمال وولف وبعض الباحثين الآخرين في المجال، من أبرزهم لورينزو فيراسيني، من خلال رصد بعض الخصائص التي تميز الاستعمار الاستيطاني، وفقاً لهما، حيث يمتاز بـ:
أ. علاقة إقصائية (إزالة أو محو) للسكان الأصلانيين.
ب. علاقة مؤقتة مع المركز الإمبريالي.
ج. علاقة دائمة مع الأرض المستعمَرة.
د. توظيف خطاب أيديولوجي إقصائي بكثافة.
هـ. بناء نظام رأسمالي خاص غير تابع.
و. هندسة اجتماعية دقيقة.
وفي مقدمة عمله التأسيسي لدراسة الاستعمار الاستيطاني من منطلق أنثروبولوجي يقوم باتريك وولف بالمقارنة التالية: “على العكس من التشكيلات الاستعمارية الاستغلالية، فإن المستعمرات الاستيطانية لم تُؤسس بدرجة أولى من أجل استخلاص القيمة الزائدة من عمل السكان الأصلانيين، وإنما يقوم على فرضية محو أو إزالة هؤلاء السكان عن أرضهم”.
ويشير وولف كذلك، إلى أن المستعمِرين في الاستعمار الاستيطاني يأتون بنية البقاء، ويجادل بأنه مرتبط بالمحو والإلغاء Elimination، ولكنه ليس مرتبطاً بالإبادة الجماعية بالضرورة، مع إصراره بأن الإبادة الجماعية في سياق الاستعمار الاستيطاني لا تمارس لمرة واحدة، إنما هي ممارسة تدميرية مستمرة، كما يرى بأن الاستعمار الاستيطاني في الإجمال يتمحور حول عنصر الأرض.
لقد توسع استخدام الاستعمار الاستيطاني كإطار للتحليل على المستوى الأكاديمي والسجال النظري منذ منتصف التسعينيات، وبرز في هذا الحقل الدراسي عدد من الباحثين في مقدمتهم باتريك وولف، كما أسلفنا، الذي ينظِّر لنموذج الاستعمار الاستيطاني على أساس أنه بُنية، حيث انتشرت في الأوساط الأكاديمية مقولته: “الاستعمار الاستيطاني بنية وليس حدثاً”، وميَّز وولف هيكلياً بين التكوينات الاستعمارية والاستعمار الاستيطاني، لأن الاستعمار الاستيطاني لا يمثل علاقة السيد والعبد، ولا يقوم على علاقة عدم الاستغناء عن الشعب المستعمَر، بل على العكس، يتم الاستغناء عن الأصلاني، لأن الغاية النهائية الأرض وليس الحصول على الفائض.
وفي السياق ذاته، رأى الدكتور إيلان بابيه Ilan Pappé أن العدسة المناسبة لفحص حالة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني هي التطهير العرقي، وعدَّ أن الهدف الرئيسي للحركة الصهيونية هو تطهير فلسطين بأسرها تطهيراً عرقياً شاملاً، وهو ما يصنف في المعاهدات الدولية جريمة ضدّ الإنسانية.
وبالمقابل، ذهب الدكتور لورينزو فيراسيني في توصيفه الحالة الاستعمارية في فلسطين إلى استخدام مصطلح الترحيل Transfer، بدلاً من المحو والإزالة، وادّعى بأن هناك انقطاعاً في الاستعمار الاستيطاني في الفترة 1948–1967، مؤكداً أن المناطق التي استُعمرت في سنة 1948 هي حالة استعمار استيطاني، في حين يُنظر إلى الأراضي التي احتُلّت سنة 1967 باعتبارها تمثل فشلاً للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، إذ تحوّل الاستعمار الاستيطاني فيها إلى نظام علاقات مختلف عن سنة 1948، حيث جرى الانتقال من سياسة القضاء على جميع السكان الأصلانيين، إلى سياسة السيطرة على من بقي منهم، ومن ثم ادّعى بأن النموذج الكلاسيكي للاستعمار الاستيطاني لا ينطبق على أراضي سنة 1967. وبذلك، يرى فيراسيني حصول تحول من شكل الاستعمار الاستيطاني إلى شكل الاستعمار الاستغلالي، بالاستناد إلى التمييز بين السيطرة الدائمة على المستعمَرين من المتروبول metropole (بريطانيا في حالة الهند) ومحو السكان الأصليين لأجل استبدالهم (حالة كندا، وأستراليا، والولايات المتحدة)، مُدعياً نجاح الاستعمار في الفصل بين المستعمِر والمستعمَر في أراضي سنة 1967، ونجاح الاستعمار الاستيطاني في مناطق سنة 1948 في “أصلنة” المستعمِر عبر التوقف عن النظر إليه بصفته مستوطناً. ومن ثم فإن احتلال الأراضي الفلسطينية في سنة 1967 ينطوي على انتقال من نظام علاقات يمكن فهمه على أنه استعمار استيطاني، إلى نظام علاقات آخر يتميز بشكل حاسم بأشكال استعمارية أخرى.
كما يميز فيراسيني بين نمطَي الاستعمار الاستيطاني والاستغلالي من خلال تحليل كيفية تعامل الاستعمار مع السكان الأصلانيين، بغرض الفصل أم التطبيع؟، فمن الناحية النظرية، يسعى الاستعمار الاستغلالي إلى إدامة نفسه، بينما يهدف الاستعمار الاستيطاني إلى حلّ نفسه أو تذويبها، إذ لا ينجح الاستعمار الاستيطاني إلا حينما يتوقف المستوطنون عن التعريف بأنفسهم عن كونهم “مستوطنين”، ويصبحون “مواطنين” ويصبح وضعهم طبيعياً. ولأجل تحقيق هذا النجاح، على مشروع المستوطنين أن يحرر نفسه من الرقابة والسيطرة الخارجية (المتروبول)، بحيث ينشئ أشكالاً سياسية وثقافية ذات سيادة محلية، وبالتوازي مع ذلك، ينهي الاستقلالية الذاتية للشعب الأصلي، حيث يجري تطبيع الحالة التي كان يُنظر إليها على أساس أنها غريبة تماماً ومرفوضة، ومن ثم ترويض الأصلاني.
لقد أَوْلى الباحثين في العلوم الاجتماعية والسوسيولوجيا الاستعمار اهتماماً عالمياً ومحلياً بحقل دراسات الاستعمار الاستيطاني، إذ تعاظم الاهتمام بهذا الحقل الدراسي في السنوات الأخيرة مع تنامي عقد المقارنات بحالات استعمارية استيطانية مشابهة. محلياً، ازداد الاهتمام خصوصاً بعد إفراغ مشروع حلّ الدولتين من محتواه، وغياب مشروع وطني جامع للمكونات الفلسطينية المختلفة، فبحسب الباحثة أريج صباغ – خوري تمّ إطلاق أول مجموعة بحثية حول الاستعمار الاستيطاني داخل “إسرائيل” في سنة 2015 برعاية مدى الكرمل، المركز العربي للبحوث الاجتماعية التطبيقية في مدينة حيفا، مكونة من طلاب الدراسات العليا الفلسطينيين من داخل “إسرائيل” والضفة الغربية، إضافة إلى شخصيات بارزة من الباحثين في هذا المجال.
وذهب عدد من الباحثين الفلسطينيين في العقد الأخير إلى توظيف مفهوم الاستعمار الاستيطاني كأداة تحليلية، إذ كثُرت الدراسات والمقالات التي تؤطر هذا المفهوم، منها على سبيل المثال، مقالة عبد الرحيم الشيخ التي تتناول ما أسماه “متلازمة كولومبوس” في السياق الاستعماري الصهيوني الذي يعمد إلى محو الأسماء الأصلية في الحيز الجغرافي الفلسطيني، ووضع أسماء يهودية مكانها على غرار ما قام بفعله كولومبوس عند غزوه قارة أمريكا.كما استخدمت الدكتورة هنيدة غانم الاستعمار الاستيطاني عبر ربطه بالسياسة الحيوية، ومحاولة تهويد الحيز الفلسطيني من خلال المحو والإنشاء. وتجادل غانم بأن احتلال مناطق 1967 قد أعاد تشكيل النظام الإسرائيلي باعتباره نظاماً هجيناً متعدد الأدوات، يدمج بين الاستعمار الاستيطاني والاحتلال العسكري والأبارتهايد. أما الدكتور إيليا زريق، فقد استخدم مصطلح “الاستعمار الهجين” الذي يجمع بين الاحتلال العسكري والاستيطان لتوصيف الحالة الاستعمارية في فلسطين. كما نشر الدكتور نديم ورحانا دراسات عدة تتناول مفهوم الاستعمار الاستيطاني، سواء بشكل مستقل أم بمشاركة أريج صباغ خوري، من أبرزها تلك التي تناولت “المواطنة الكولونيالية” حسب تسميتهما وفي السياق ذاته، يجادل الدكتور علي الجرباوي وطارق دعنا بأن النجاح الجزئي للحركة الصهيونية المتمثل في إقامة “دولة إسرائيل” واستعمار ما تبقى من فلسطين الانتدابية في سنة 1967، لم يُمكِّن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني من الوصول إلى نقطة الحصرية اليهودية في الأرض الفلسطينية، ففشل المستعمِر الصهيوني في محو الفلسطينيين بشكل كامل، جراء صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، ما يدل على أن المشروع الصهيوني سيبقى معطلاً وغير مكتمل، الأمر الذي قد يفتح المجال إلى إمكانية زواله في المستقبل.
لكن، من جهة أخرى، ومع توقيع اتفاقية أوسلو Oslo Accords في أوائل التسعينيات، تمّ تأطير الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وكأن الأمر بين حركتَين وطنيَّتَين متعارضتَين من شأنهما تحقيق “السلام” ضمن نموذج حلّ الدولتين. وفي الوقت ذاته، نما المجتمع المدني الفلسطيني بشكل واضح وأصبحت المنظمات غير الحكومية تركّز بعملها على الحصول على الحرية ضمن إطار القانون الدولي، ومن خلال المناصرة القائمة على مطالب حقوق الإنسان، غير أن محدودية هذا النموذج باتت واضحة، فلم يقتصر الأمر على تجاهل النموذج لمفاهيم مثل التحرر الفلسطيني من الاستعمار وتأسيس والسيادة، بل جعل النقاش مقتصراً حول فلسطين والفلسطينيين ضمن مناطق 1967.
وجادل الدكتور أحمد أمارة والدكتورة يارا هواري بأن عودة ظهور الاستعمار الاستيطاني كأداة أكاديمية وتحليلية لدراسة “إسرائيل” والصهيونية وممارساتهما، وإنشاء مجلة الدراسات الاستعمارية الاستيطانية وإصدارتها المختلفة، والزيادة في عدد اللقاءات الأكاديمية والإصدارات الأدبية التي تركز على هذا الموضوع، أسهم في مأسسة الاستعمار الاستيطاني كحقل أكاديمي. ومع ذلك، هناك فرق واضح بين إعادة التركيز على الاستعمار الاستيطاني وطريقة استخداماته السابقة كجزء من الممارسة الثورية، وبين التعامل معه كإطار تحليلي نظري، ففي حين تمّ ربط الأعمال السابقة بالمشروع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي كان هدفها في ذلك الوقت التحرير الكامل لفلسطين التاريخية من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، فقد ظهرت مؤخراً أعمال أدبية من أكاديميات غربية، والتي لا تعدّ ليبرالية جديدة فحسب، بل تميل أيضاً لتفضيل “عدم تسييس” الأعمال البحثية. وتجدر الإشارة إلى أن الأعمال التي تتحدى هذا الاتجاه من خلال السعي لتسييس وتفكيك التسلسل الهرمي للمعرفة تواجه تحديات صعبة.
كما أن هذا الإطار النظري المناهض للاستعمار إشكالي بالنسبة للفلسطينيين الذين يواصلون النضال ضدّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في القرن الحادي والعشرين، فهو يخاطر بإيجاد تناقضات بين الحقوق الأساسية وبين الأهداف التي يتم السعي إلى تحقيقها، وترويج حلول سياسية تحرم فلسطينيين كثيرين الحقوق هذه كلها. فالإجماع القانوني والسياسي الدولي يقضي بأن حقّ الفلسطينيين في تحرير الأرض وإقامة دولة ذات سيادة يقتصر على الأرض الفلسطينية المحتلة في سنة 1967.[19] إذ إن النظام العالمي الناشئ بعد الحرب العالمية الثانية، يرى الاستعمار قضية من قضايا الماضي، وبناء عليه، تتعامل منظمة الأمم المتحدة مع مسألة إنهاء الاستعمار على أنها قد أُنجزت إلى حدٍّ كبير. والأهم من ذلك، أن القانون الدولي نفسه يحدّ أيضاً من القيمة الاستراتيجية لهذا الإطار التحليلي، إذ لا توجد مسؤولية جنائية لأن الاستعمار ذاته لم يُجرم.
لقد أوضح خبراء مجتمعون في مؤتمر القانون الدولي المنعقد في جامعة بيرزيت في سنة 2013، أن قضية حظر الاستعمار، والالتزامات القانونية الملزمة لجميع الدول والأمم المتحدة المرتبطة بها، لا تنطبق إلا على المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، حيث بينوا أن الاستعمار لم يكن محظوراً صراحة بموجب القانون الدولي في الوقت الذي أقيمت فيه “دولة إسرائيل”، وأن تحول المعايير لم يبدأ إلا في عقد الخمسينيات نتيجة جهود حركات مقاومة الاستعمار،
حيث أصبح الاستعمار محظوراً صراحة في سنة 1960، عندما أقرت الأمم المتحدة إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة. وهكذا فإن الحركات الاستعمارية الاستيطانية الأولى، بما فيها الحركة الصهيونية، التي كانت بحلول ذلك الوقت قد أنشأت نفسها كدول قومية، غدت محصنة بحكم الأمر الواقع في إطار عملية إنهاء الاستعمار التي تقودها الأمم المتحدة. وبحسب الرأي القانوني السائد فإن الاستعمار لا ينطبق قانوناً ضمن حدود الدول القائمة.
هذا بالإضافة إلى أنه عادة ما يستخدم مصطلح الاستعمار colonialism ليصف ما قامت به أوروبا لبسط نفوذها السياسي ومستوطناتها في بقية أنحاء العالم، بما فيها الأمريكيتين وأستراليا وأجزاءً من إفريقيا وآسيا. لكن، وبالنسبة للفظة “استعمار” ذاتها، واستخداماتها في اللغة العربية فهو مرتبط بمعناها المعجمي lexical أو بالمعنى الاشتقاقي Etymological، فيصير ردها إلى الأفعال “عمَر، استعمَر، استعمَاراَ، فهو مستعمِر، والمفعول مستعمَر، ويُعنى به استعمَر الأرض وعمرَها، أي أمدها بما تحتاج إليه لتصلح وتعمَر”، على سبيل المثال، استعمَر الصحراء. ووفقاً لهذا التصور الدلالي الإيجابي للكلمة، يذهب بعض الباحثين إلى الاستعاضة عنها عبر التعبير عن لفظ نقيض لها مثل “استخراب أو استدمار” من خربَ أو دمرَ، لذلك، وبناء على هذه المقاربة اللغوية المعجمية، يشكك البعض في جدوى استخدام لفظة “استعمار” من الأساس ويستعيض عنه بألفاظ أخرى مثل “احتلال، أو كولونيالية”.
2. مفهوم الأصلانية:
صعد مفهوم الأصلانية من جديد إلى صدارة الحقل الأكاديمي في العلوم الاجتماعية، خصوصاً في الدراسات الأنجلوسكسونية Anglo-Saxon، بتأثير من تيارات مدارس ما بعد الاستعمار، وعلى نحو أكثر وضوحاً في الولايات المتحدة الأمريكية. والأصلاني والأصلانيونIndigenism ، هم السكان أو الأمم التي كان لها تاريخ متصل قبل الغزو الاستعماري، وتعد استخدامات المفهوم عبر هذه التسمية متعددة، فبعضها، على سبيل المثال لا الحصر، يعني التعبير عن هوية عابرة للأجيال متناقلة ضدّ هوية الغازي والمهيمن، ويجري عادة إعادة تملك لهذا الاستخدام بعكس التسمية السابقة التي كان يطلقها المستعمِرين على سكان المستعمرات، التي كانت تعني السكان الأصلانيين مقارنة بالسكان المنتمين للعالم الاستعماري، وقد تكون مقابل البيض.
وبالنظر إلى تنوع الشعوب الأصلية حول العالم، لم يتم اعتماد تعريف رسمي أو محدد لمصطلح “الأصلاني”، بل يُستخدم المصطلح بشكل مختلف من قبل العديد من العلماء والباحثين، إذ يمكن استخدامه بشكل وصفي بحت، أو قد يحمل دلالات اجتماعية وسياسية، حيث تشير النزعة الأصلانية إلى العديد من الأيديولوجيات المختلفة التي تسعى إلى تعزيز مصالح الشعوب الأصلية. كما يشير هذا المصطلح إلى الإرث المشترك لجميع الشعوب الأصلية في العالم الجديد، الذي يمثّل روح المقاومة المشتركة للاستعمار الاستيطاني.إن جزء لا يتجزأ من استخدام هذا المصطلح يستند إلى فكرة أن التأكيدات المحلية للاختلاف الثقافي للشعوب الأصلية، على الرغم من التعبير عنها بشكل متكرر بلغة ورمزية الأمم، لا تصبح مرئية بالكامل فقط من خلال عدسة عالمية، ولا يمكن حمايتها إلا من خلال فهم واسع النطاق للمبادئ العالمية لحقوق الإنسان.
لكن، وبدلاً من ذلك، تمّ تطوير فهمٍ حديثٍ من جانب منظمة الأمم المتحدة لهذا المفهوم، شريطة توفر بعض الخصائص، مثل: التعريف الذاتي كشعوب أصلية على المستوى الفردي، والاستمرارية التاريخية مع مجتمعات ما قبل الاستعمار أو ما قبل الاستيطان، وارتباط قوي بالأرض، ووجود أنظمة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية متميزة، ووجود لغة وثقافة ومعتقدات خاصة، وتكوين مجموعات غير مهيمنة في المجتمع، إضافة إلى عقد العزم على الحفاظ وإعادة إنتاج بيئات وأنظمة الأسلاف كشعوب ومجتمعات متمايزة.
عادة ما يُستخدم مفهوم “الأصلانية” لعقد المقارنات بالحالة الاستعمارية للأصلانيين وسرديتهم في أصقاع الأرض المختلفة، ومقارنتها بالحالة الاستعمارية في فلسطين، وفي السياق ذاته، ثمة عدد من الباحثين يعيدون مؤخراً قراءة هذا المفهوم واستخداماته كما تفعل الباحثة رنا بركات. ويدخل مفهوم الأصلانية، في العُدة المفاهيمية لتحليل الإطار الاستعماري الاستيطاني في فلسطين الهادف إلى محو الأصلانيين، مع ضرورة التنبه إلى آليات الاستخدام في المستعمَرتين (مناطق 1948، ومناطق 1967)، فليس المقصود هنا استخدام المقاربة الأصلانية بوصفها إعلاناً هوياتياً للاعتراف الثقافي، حسب تعبير الدكتور أباهر السقا، أو للدفاع عن الإرث اللغوي، لأنه بهذا المعنى يشوه استخدامه لصالح فكرة دفاع الأصلاني عن حقه في العيش في ظلّ اعترافه بالسلطة الاستعمارية، وأن هدفه يتمثل في مجرد الدفاع عن حقوق مدنية أو إنسانية وثقافية وهوياتية.
يجب النظر إلى الأصلانية كنموذج وكهوية تهدف الى إعادة التمحور حول الشعوب الأصلية عابرة الثقافات واللغات والمعارف، حيث تضع الأصلانية المعرفة والإدراك الأصلانيين، وبالذات مقاومة الاستعمار ومحاولات المحو والإبادة، في صميمها وسُلم أولوياتها. وتقدم إعادة تفكير جذري في المعرفة وإنتاجها، لا سيّما التساؤل عن المعرفة والمصادر التاريخية، وأيها تعدّ جديراً وموثوقاً. كما تعد الأصلانية نموذجاً قادراً على تفكيك سردية اعتبار المشروع الاستعماري الصهيوني مشروعاً فريداً ومتميزاً لحالة فلسطين، ويضعه في السياق العالمي للمشاريع الاستعمارية الاستيطانية الأخرى، مما قد يحسِّن من إمكانية تعزيز الفلسطينيين لعلاقات التضامن مع الشعوب الأصلانية الأخرى، وإدراك عوامل وظروف الاضطهاد المتشابهة فيما بينهم.
تسمح هذه المقارنة، المنبثقة من نموذج دراسة الأصلانية، بين نضال الشعب الفلسطيني ونضالات الشعوب الأصلية في جزيرة السلحفاة Turtle Island (حسب تسمية السكان الأصليين لقارة أمريكا الشمالية)، بفهم هياكل القوة والهيمنة التي تجمع بين ممارسات الدول الاستيطانية في الجغرافيات المختلفة. إلا أنه وفي هذا السياق، فإن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات كان قد رفض وجهة النظر السائدة بأن الشعوب الأصلية هشة وبدائية، ومن ثم رفض هذه المقارنة منذ ثمانينيات القرن العشرين في محاولة منه لرفض الهزيمة والتأكيد على صمود الشعب الفلسطيني، وقد فعل ذلك بشكل واضح في سنة 2004 في أثناء حصاره من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي في مقره في رام الله، حيث صرح بأن الفلسطينيين “ليسوا هنوداً حمر”.
وقد ذهبت بعض من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية في اليوم العالمي للشعوب الأصلانية سنة 2018، والذي يصادف 9 آب/ أغسطس من كل سنة، إلى اصدار بياناً دعت فيه المجتمع الدولي إلى جعل تاريخ الشعوب الأصلانية مركزياً باعتباره بداية ضرورية للمصالحة التاريخية وعملية التحرر الجمعي لإنهاء الاستعمار. وأشار البيان إلى عودة ظهور مفهوم الأصلانية عند الحديث عن فلسطين. كما سلط هذا البيان الضوء على العلاقات المتنامية بين المجتمع الفلسطيني والمجتمعات الأصلية في مختلف مناطق العالم، وأهمية النهج الجماعي لإنهاء الاستعمار، والتي بدورها تشكل أدوات مهمة في النضال المستمر ضدّ الاستعمار الاستيطاني حول العالم.
إجمالاً، وبالنظر إلى الأطر النظرية التحليلية لتوصيف الحالة الاستعمارية في فلسطين، نشهد منذ أكثر من عقدين من الزمن تزايداً متصاعداً في محاولات مفهمة الاستعمار الاستيطاني Colonialism Settler، وتوظيفه من أجل مقارنة حالات مشابهة بالاستعمار الصهيوني، حيث تشترك دولة الاستعمار الإسرائيلي مع كل من كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية بكونها دولاً استعمارية استيطانية، أي أنها دول لمجتمعات سياسية قامت على تملك أراضٍ تعود ملكيتها إلى أناس آخرين، عبر عملية تهميش أو هدم أو إزالة لهذه المجموعات السكانية. لكن، هناك بعض الباحثين أبدى بعض الملاحظات والاعتراضات على عملية التأطير هذه، والتي من الصائب أخذها بعين الاعتبار.
إلا أنه، وبالمقابل، فقد جرى التحذير من الاستخدام القانوني لمفهوم الأصلانية في السياق الفلسطيني، للدفاع عن حقوق البدو الفلسطينيين، سواء في المناطق المستعمَرة في سنة 1948 (النقب)، أم في المناطق المصنفة ج في أراضي سنة 1967، وذلك لأن المفهوم غير مطابق للواقع، ويقود إلى شرذمة الهوية السياسية الفلسطينية. فعملية التهجير القسري للبدو ليست مشكلة بدوية، إنما هي مشكلة فلسطينية من الدرجة الأولى، تتمثل بالنكبة وهزيمة سنة 1967، وما ترافق معهما من سياسات التمييز التي اتبعتها الدولة اليهودية المستندة إلى المبادئ الصهيونية. كما يمثل هذا الاستخدام استبطان للهزيمة أمام المشروع الاستعماري، ورضا ضمني بالهيمنة الاستعمارية من خلال السعي للحصول على حقوق معينة في ظلّ المنظومة الاستعمارية، بدلاً من السعي لتفكيكها. إضافة إلى أنه في بعض الأحيان يؤكد استخدام مفهوم الأصلانية الصورة الاستشراقية التي يروِّج لها الاستعمار الصهيوني، المتمثلة في أن العرب لا يعدو عن كونهم مجموعات من البدو الرحل، وهذا بدوره سيقود إلى نزع البُعد القومي للصراع، على اعتبار أن البدو (جماعة أصلية) منفصلة.
يرى الدكتور أشرف بدر أن توظيف إطار الأصلانية كأداة للدفاع عن البدو يقود إلى سلخهم عن امتدادهم القومي العربي، فادِّعاء أنهم سكان أصلانيون يعني ضمنياً أنهم مختلفون عن محيطهم العربي، مما سيقود إلى نوع من الجدل البيزنطي، بشأن تعريف من هو الأصلاني، حيث يدَّعي الإسرائيليون بأنهم هم السكان الأصلانيون، مستندين في ذلك إلى دعوى الحق التاريخي في التوراة، لذلك من الأسلم إبقاء تعريف الصراع مع المشروع الصهيوني في فلسطين ضمن استخدام إطار الاستعمار الاستيطاني كأداة تحليلية، بدلاً من الانزلاق إلى هذا الجدل.
في المجمل، يبقى إطارَيّ الأصلانية وتحليل الاستعمار الاستيطاني، منتشرين بين حلقات الأكاديميين وبعض فضاءات النشطاء إلى حدٍّ ما، ولكن يبقى الاستخدام الفعلي لهما محدود في ساحات العمل السياسي الفلسطيني.
3. تعدد الأطر النظرية يشتت الاستراتيجية ويضيع الأهداف:
من الواضح بأن هناك أطر تحليلية متعددة ومتنافسة أحياناً على تطبيقها على واقع الوطن والشعب الفلسطيني، الناجم عن تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين منذ إطلاقه في أواخر القرن التاسع عشر، وإقامة “دولة إسرائيل” في سنة 1948 على 78% من مساحة فلسطين، وما تخلله من فظاعات ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني، وفرض وقائع جديدة ومختلفة عليه، ثم احتلالها الجزء المتبقي من الأرض سنة 1967. فقد دأب عدد متزايد من الباحثين والمحللين في السنوات الأخيرة على الدعوة إلى تطبيق إطار الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، مُبرزين أوجه الشبه بين سياسات القضاء على السكان الأصليين التي انتهجتها الحركات الاستعمارية الاستيطانية في إفريقيا والأمريكيتين وأستراليا، وبقاع أخرى حول العالم، بما فيها فلسطين. وقد انبثق من النقاش حول الاستعمار الاستيطاني الصهيوني أطرٌ أخرى ذات صلة، ولا سيّما إطار التطهير العرقي والترحيل القسري للسكان، ونموذج الأبارتهايد، وغيرها. وقد دافع آخرون عن تطبيق إطار الشعوب الأصلية (دراسة الأصلانية) على الفلسطينيين باعتبارهم شعباً موجود على أرضه يسبق قيام المجتمع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. حيث يرى بعض الباحثين بأن لهذا التأطير ميزة إضافية تتمثل في القدرة على الاستناد إلى حقوق السكان الأصليين المعترف بها في الأمم المتحدة في موطنهم الأصلي وأرضهم ومواردهم الطبيعية.
هنا، لا بدّ من التأكيد على أنه لا مانع من تطبيق أكثر من إطار للتحليل على الحالة الفلسطينية، بل إن من المفيد في بعض السياقات، ولا سيّما في السياق الأكاديمي، أن تُستَكشف وتوظف هذه الأطر وغيرها من الأطر التحليلية، لأن ذلك يعزز الفهم والمعرفة بالطرق الجديدة المتاحة للتعبير عن الحقوق الفلسطينية. غير أن ما يحتاجه الفلسطينيون في الوقت الراهن، في ضوء انسداد آفاق الحل مع المشروع الصهيوني، سواء عبر مسار الحل السلمي والمفاوضات الذي وصل إلى طريق مغلق، أم من خلال المقاومة المسلحة التي باتت فاتورتها تفوق مكاسبها بكثير (حروب “إسرائيل” التدميرية المتتالية على قطاع غزة)، هو إطار تحليل استراتيجي لا يقتصر على إحداث المزيد من المعرفة وحسب، ويكون إطار التحليل استراتيجياً إذا سمح للفلسطينيين باستخدام مصادر القوة المتاحة لهم في الظرف الحالي بفاعلية، من أجل إنهاء الاستعمار وجبر الضرر الواقع عليهم.
ومما لا شكّ فيه، أن مسألة عدم التوافق في الآراء حول إطار نظري تحليلي مشترك لتوصيف الحالة
الاستعمارية في فلسطين، تحول دون اعتماد رسائل واضحة للتعبير عن مُصاب الفلسطينيين وما يتطلعون إليه. وهو يعوق أيضاً وضع استراتيجية فعالة على الأرض لتحقيق تلك التطلعات. وليس من باب المبالغة، الإشارة إلى أن هناك من يرى بأن حالة التشتت التي يشهدها الحقل الأكاديمي البحثي (تعدد الأطر النظرية التحليلية)، تؤثر وتتأثر في الحقل السياسي الفلسطيني وبه، من خلال عجز الفلسطينيين عموماً عن الاتفاق على صياغة مشروع وطني جامع، ومن ثم عدم تحديد شكل وأدوات الحل الذي يُلبي تطلعاتهم، ذلك بغض النظر عن الفاعل والمفعول به، لأن الخاسر في النهاية هو الشعب الفلسطيني بمختلف توجهاته وأماكن تواجده.
القسم الثاني:
نحو إطار استراتيجي مشترك أكثر فعالية:
إن الاستراتيجية هي الأساس الذي تقوم عليه سياسات الدول والكيانات السياسية العقلانية، والاستراتيجية تؤسس على المصلحة الوطنية العليا أو ثوابت الأمة التي هي محل توافق وطني ولا تخضع لألاعيب السياسيين ومناوراتهم، وكما أن وضع الاستراتيجيات وتنفيذها مرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود مؤسسة قيادة، فإن الاستراتيجية تعتمد بشكل كبير على مراكز البحث والدراسات، وعلى متخصصين في مختلف المجالات. إن وجود استراتيجية لم يعد شأناً يخص الدول فقط بل يتجاوزها إلى المؤسسات، والشركات، وقطاع التعليم والبحث العلمي، وغيرها من أوجه النشاط الإنساني الأخرى، ذلك لأن الاستراتيجية باتت رديف العقلانية في إدارة الكيانات الكبرى والصغرى أيضاً. لذا، فإن الشعوب الخاضعة للاحتلال وحركاتها التحررية أحوج ما تكون لاستراتيجية كفاحية وسياسية لمواجهة الاحتلال.
لقد أدرك كثير من الكُتَّاب والباحثين الفلسطينيين تلك الحاجة لوضع الاستراتيجية منذ فترة مبكرة من عُمر الصراع ضدّ المشروع الصهيوني، فتعددت جهودهم ورؤاهم في وضع الأطر النظرية التحليلية، كما ذكر سابقاً، من أجل الإسهام في بلورة استراتيجيات تناسب مواجهة الواقع الاستعماري في فلسطين، ومن أهم تلك الاستراتيجيات؛ حرب العصابات، وحرب الشعب، والمقاومة الشعبية، والعصيان المدني،…إلخ.
وبالنظر إلى عدم وضوح الاستراتيجية الوطنية أو الحل السياسي النهائي، لا بدّ على الأقل أن تكون الأهداف المركزية هي الحقوق الأساسية التي تمثل العناصر الضرورية لإعمال حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وأن تكون، بصفتها هذه، جزءاً من أي حلّ سياسي مستقبلي. وهذه الحقوق تتمثل في: التحرر من الاحتلال والاستعمار، وحقّ اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، وحقّ الشعب الفلسطيني في السيادة الكاملة على أرضه التاريخية. وإذا تمّ الاتفاق على أن هذه هي الأهداف الأساسية الثلاثة للشعب الفلسطيني، حينها يمكن تحديد إطار التحليل الأمثل استراتيجياً لإنهاء الاستعمار وجبر الضرر، وضمان تحقيق هذه الأهداف في سياق مشروع التحرير. وهو الإطار النظري التحليلي الأكثر شمولاً والأكثر ترويجاً؛ إطار الفصل العنصري.
يمتاز إطار مناهضة الفصل العنصري بأنه قد لا ينطوي على إشكالات التوظيف والاستخدام المذكورة آنفاً، فهو لا يُرتب بأي شكل تناقضاً بين منظور تحقيق أهداف وتطلعات الشعب الفلسطيني الأساسية من جهة، وبين قواعد المنظومة الحقوقية والقانونية الدولية من جهة أخرى، إذ تحظى قضية الفصل العنصري بإجماع عالمي على رفضها واستنكارها، بل وتجريمها حسب مواد وقواعد القانون الدولي بمختلف تفريعاته. فيعدّ نظام الفصل العنصري الصهيوني الذي تمارسه “دولة إسرائيل” ضدّ الفلسطينيين، ويحرمهم من الحق في تقرير مصيرهم، انتهاكاً صريحاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
بعبارة أخرى، يعدّ إطار التحليل الأمثل استراتيجياً الذي ينبغي توظيفه من أجل دراسة الحالة الاستعمارية في فلسطين هو إطار مناهضة الفصل العنصري، لأن الأخير يشتمل على تحليل الاستعمار الاستيطاني وينطلق منه. حيث بدأ الفصل العنصري، في حالة فلسطين، عندما تحول المجتمع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني إلى “دولة إسرائيل”، وأدرج أيديولوجية التفوق اليهودي، وسياسة التطهير العرقي في قوانين الدولة ومؤسساتها. إذ يستند إطار الفصل العنصري إلى القانون الدولي، باعتباره أصلاً من الأصول الاستراتيجية. حيث إن القانون العرفي يحظر الفصل العنصري، باعتباره شكلاً وخيماً من أشكال التمييز العنصري، ويعامله كانتهاك خطير على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الفصل العنصري لا يستمد تعريفه من تشابهاته مع نظام الفصل العنصري السابق في جنوب إفريقيا فحسب، بل له تعريف قانوني عالمي محدد، ورد في معاهدتان دوليتان، وهما “الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها”، و”نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”، تعرّفان الفصل العنصري على أنه: “جريمة ضدّ الإنسانية”. إذ تُعرّف المادة 2 من اتفاقية الفصل العنصري الجريمة ضدّ الإنسانية المتمثلة في الفصل العنصري على أنها: “الأفعال اللا إنسانية… المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية [عرقية] ما من البشر على أية فئة عنصرية [عرقية] أخرى من البشر واضطهادها إياها بصورة منهجية”. ويعرَّف نظام الفصل العنصري في المادة 7 الفقرة 2/ح من نظام روما الأساسي على أنه: “أية أفعال لا إنسانية… تُرتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه القمع المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وتُرتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام”.
ولقد بدأ مباشرة الفصل العنصري في فلسطين عندما تحول المجتمع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني إلى “دولة إسرائيل”، وتبنى أيديولوجية التفوق اليهودي وسياسة التطهير العرقي في قوانين الدولة ومؤسساتها. ومن ثم، فإن تعريف الفصل العنصري الإسرائيلي المعاصر كإطار نظري هو:
نظام تمييز عنصري ممأسس تقوم بموجبه إسرائيل، كدولة وسلطة احتلال، بتفضيل اليهود، وتقمع الشعب الفلسطيني بأسره وتجزؤه وتهيمن عليه وتستعمر الأرض الفلسطينية المحتلة بنية الإبقاء على هذا النظام وترسيخه على أرض فلسطين التاريخية كاملة، ويعد نقل السكان والتطهير العرقي للفلسطينيين، بما فيه حرمانهم العودة إلى ديارهم، فعلاً قمعياً لا إنسانياً، وأحد دعائم الفصل العنصري الإسرائيلي.[42]
لذا، يمكن تطبيق هذا الإطار، على أقل تقدير منذ سنة 1948، حين بدأ الفصل العنصري الإسرائيلي رسمياً مع قيام الدولة، وفي الأرض الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 كذلك، أي على كامل أرض فلسطين التاريخية، حيث ينطبق إطار الفصل العنصري كما القانون الدولي الإنساني عليها. فتتحمل “إسرائيل”، باعتبارها نظام فصل عنصري، المسؤوليةَ القانونية عن أفعال الفصل العنصري اللا إنسانية الممارسة ضدّ الفلسطينيين كافة، بمن فيهم اللاجئون ومواطنو “إسرائيل” والرازحون تحت الاحتلال. وهي مسؤولة عن إعادة حقوقهم من خلال جبر الضرر، بينما تقع المسؤولية الجنائية الفردية على عاتق الذين ينفذون جريمة الفصل العنصري أو يعينون عليها أو يحرضون عليها.
كما ينطوي إطار الفصل العنصري على خاصية القدرة على تحشيد التضامن والدعم من الشعوب المختلفة حول العالم، وبفضل إرث الحملة الدولية التي أسقطت نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، يدرك الكثيرون أنه لا بدّ من مقاطعة أنظمة الفصل العنصري وعزلها، وقد اكتسب هذا الإطار شعبية واضحة، ضمن النضال الفلسطيني بفضل فعاليات من قبيل أسبوع مقاومة الاستعمار والأبارتهايد الإسرائيلي.
وعلاوة على ذلك، ثمة تأييد دولي متنام لتحليل الفصل العنصري، حيث دأب باحثون قانونيون مستقلون وخبراء في الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان منذ سنة 2006 على الأقل، على تحميل “إسرائيل” مسؤولية الفصل العنصري ضدّ الفلسطينيين، ويدعون إلى اتخاذ تدابير دولية، بما فيها فرض عقوبات عليها. إذ ما يزال تقرير الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري الذي أعدته مؤخراً لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) Economic and Social Commission for Western Asia (ESCWA) يُعد في الوسط العام دراسة قانونية موثوقة بالرغم من أن الأمين العام للأمم المتحدة قد أمر بسحبه، مما حدا بالسيدة ريما خلف، الأمينة التنفيذية للإسكوا، إلى الاستقالة احتجاجاً على قرار الأمين العام.[45] هذا، بالإضافة إلى تقارير حقوقية عديدة صدرت في هذا الإطار عن منظمات غير حكومية مُعتَبرة دولياً ومحلياً، من أبرزها على سبيل المثال؛ هيومن رايتس ووتش Human Rights Watch،ا[ومنظمة العفو الدولية (أمنستي) Amnesty International،ا[47] وبتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة B’Tselem – The Israeli Information Center for Human Rights in the Occupied Territories،ا[48] بالإضافة إلى مركز ييش دين Yesh Din.ا[49]
هذا، إضافة إلى أن توظيف الفصل العنصري كأداة رئيسية في تأطير الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، من شأنه دعم سُبل مواجهة العنف المعرفي ومحو الشعب الفلسطيني. فلطالما حُرم الفلسطينيون من حقهم في سرد تجاربهم التي عاشوها في ظلّ الاستعمار الاستيطاني، بفعل ممارسة العنف المعرفي ومحو الشعب الفلسطيني على حدّ تعبير المفكر إدوارد سعيد. وتجادل رانيا محارب وأُخريات، في دراسة أُعدت سنة 2022، معنونة بــ”اضطهاد المجتمع المدني الفلسطيني: العنف المعرفي، الإسكات، وإطار الفصل العنصري”، بأنه يجب فهم الهجمات الإسرائيلية (لسبعة مقرات لمنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان الفلسطينية، في 18/8/2022)، ضدّ منظمات المجتمع المدني الفلسطيني من منظور معرفي، كإجراءات لتقويض الإنتاج الفلسطيني للمعرفة، ولا سيّما جهود فضح ممارسات نظام الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في الفلسطينيين. وإن مسألة الفشل في تركيز السرد الفلسطيني، عبر تنظيمه داخل إطار موحد، يُسهم حسب تقييم لوري آلن Lori Allen، في ليس فقط إقصاء تجارب الفلسطينيين، ولكن أيضاً محو تجاربهم الخاصة.
خاتمة واستنتاجات:
ناقشت الدراسة مسألة السجال النظري المُثار حول العدسة التحليلية الأكثر ملاءمة لدراسة وتحليل الحالة الاستعمارية في فلسطين، التي تتوزع على مفاهيم متعددة، اختارت منها؛ الاستعمار الاستيطاني، والأصلانية، والأبارتهايد (نظام الفصل العنصري)، كنماذج بحثية. إذ بذل العديد من الباحثين الفلسطينيين منذ عقود طويلة جهداً كبيراً في محاولات لمقاربة حالة الاستعمار الصهيوني في فلسطين، عبر توظيف مفاهيم مختلفة، ثم ظهرت مساعي أجنبية مهمة منذ تسعينيات القرن العشرين، في سبيل مفهمة الاستعمار الاستيطاني كإطار نظري لتحليل ظاهرة ذات طابع عالمي، حيث تمّ مأسسة تلك المساعي من خلال تأسيس مجلة علمية مختصة بهذا الشأن. واكتسب مفهوم الاستعمار الاستيطاني شهرة وحضوراً خاصاً في سياق الدراسات الاجتماعية والنظرية. إلا أن هذا لم يمنع من ظهور نماذج أخرى، كنموذج الشعوب الأصلية، أو الأصلانية، كمدخل تحليلي وإطار نظري له مزاياه التي تدعم أولوية توظيفه في دراسة وتحليل المشروع الصهيوني.
ولقد أثارت طروحات مفهومَي الاستعمار الاستيطاني والأصلانية سجالات نظرية مختلفة، حول بعض المآخذ والاعتراضات التي تواجه كل منهما خلال استخدامه كإطار لدراسة تحليل الحالة الاستعمارية في فلسطين، تمّ التطرق لبعض منها، لعدم اتساع المقام لرصدها بتوسع أكبر.
وقد استنتجت الدراسة أن تعدد واختلاف المداخل أو الأطر النظرية وان كان أمراً وارداً وظاهرة طبيعية في مجال الدراسات الأكاديمية، إلا أنه من الأفضل في حالة فلسطين/ “إسرائيل”، اعتماد إطار نظري مشترك يضم مختلف الإسهامات الفكرية والبحثية الساعية لدراسة وتحليل الحالة الاستعمارية في فلسطين، ضمن إطار الأبارتهايد (الفصل العنصري) كإطار نظري مشترك، نظراً لما يتميز به من عوامل قانونية وسياسية، تؤهله لتقديم إطار نظري معرفي أدق وأشمل، لتحليل وفهم حالة الاستعمار الصهيوني، ومن ثم توفير أسباب مواجهة وتحد هذا الاستعمار بشكل أكثر فعالية على أرض الواقع، كما حدث على سبيل المثال لا الحصر مع توالي صدور تقارير أممية وحقوقية تكشف وتدين نظام الفصل العنصري الإسرائيلي القائم في فلسطين لأول مرة.
باختصار، في ضوء ما توصلت إليه الدراسة، ترى أن تعدد الأطر التحليلية يستنزف الجهود ويضيع الأهداف، وبالتالي يشتت الاستراتيجية. ومن ثم، فإن هذا يشجع على التوجه نحو تبني مفهوم الفصل العنصري، إطاراً نظرياً استراتيجياً، تشترك فيه كافة الإسهامات البحثية، في مجال دراسة الحالة الاستعمارية في فلسطين.
* كاتب فلسطيني .. باحث في العلاقات الدولية، جامعة الأزهر
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الحياة واشنطن
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com