تبرز العلاقات التجارية كأقدم أشكال الوسائط التي انتقلت من خلالها مفردات الحضارة العربية إلى روسيا إذ تشير المصادر التاريخية إلى وجود علاقات تجارية قديمة بين دولة روسيا وعصور الخلافـة الـعـربـيـة. وقد كان القرن التاسع الميلادي هـو بـدايـة تـاريـخ هـذه الـعـلاقـات، وكـانـت مـواد التجارة آنذاك هي الفراء والعسل والحرير الذي كان يباع للشـرق الـعـربـي في مقابل عملات فضية عربية وجدت آثارها في أنحاء متـفـرقـة مـن روسـيـا. ويلاحظ المؤرخ الكبير بارتولد (Bartold) في هذا الصدد أن «وجود العملات العربية الفضية في روسيا كان يعني التفوق الحضاري العربي آنذاك على دولة روسيا القديمة، فقـد كـان مـن عـادة الـشـعـوب ذات الحـضـارة الأرقـى مقايضة بضائع الشعوب الأدنى حضارة بالنقود، ذلك لأن منتجات الصناعة لدى الشعوب الأكثر حضارة لم تـكـن تـفـي بـاحـتـيـاجـات هـذه الـشـعـوب ولا تتناسب مع درجة رخائها الاقتصادي».
كانت حركة التجارة القديمة بين روسيا والشـرق الـعـربـي ــ بحـسـب إشارة كراتشكوفسكي (Krachkovsky) - هي أحد المنافذ التي عبرت من خلالها كلمات عربية إلى اللغة الروسية، والتي كان في عدادها بعض مصطلحات الطب العربي التي انتقلت ــ بشكل خاص ــ من خلال الحكيم المعـروف آنـذاك في روسيا بطرس سيريانين الذي «كان يمثل مدرسة الطب العربية السورية التي اكتسبت لنفسها شهرة عالمية وكانت وسيلتها الرئيسية اللغة العربية».
تنص مخطوطات «دير بتشيرسكي في كييف» على أن «أحد أبناء أمير تشيرنيغوف دافيد سفياتوسلافيتش (1097 ــ 1123)، واسمه سفياتوسلاف (سفياتوشا ــ نيكولاي) كان له، حين كان في الإمارة، طبيب بارع جداً اسمه بطرس وهو من أصل سوري. وبعد التحاق الأمير سفياتوشا بدير بيتشيرسكي في كييف تبعه هذا الطبيب السوري إلى كييف وقضى مدة طويلة محاولاً دون جدوى إقناعه بترك الرهبانية بصفتها نوعاً من التنسك، وهو أمر لا يليق بالأمراء»
رؤية عربية لبلاد الروس:
من اللافت أن المعلومات التي تقدمها المصادر العربية عن بداية الدولة الروسية تُعتبر في طليعة الآثار عن روسيا، بل وتسبق التواريخ الروسية زمنًا، من هؤلاء ما كتبه ابن فضلان (*)؛ وقَدَّم وصفًا رائعًا ودقيقًا خاصًا ببلاد الروس؛ فوصف كلَّ ما يتعلَّق بحال الرجل عندهم، ومكانة المرأة بينهم، وحال سكنهم وطرق عيشهم، وحالهم في دفن الموتى، وغيرها...
فقد جلب انتباهه صحةُ أبدانهم وقوّتُها؛ قائلًا: «ورأيت الروسيّة وقد وافوا في تجارتهم، ونزلوا على نهر إتل، فلم أرَ أتمّ أبدانًا منهم كأنّهم النّخل، شقر حمر، لا يلبسون القراطق ولا الخفاتين [ولكن يلبس] الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقّيه، ويخرج إحدى يديه منه. ومع كلّ واحد منهم فأس وسيف وسكّين لا يفارقه».
وأشار إلى توشيح كامل جسد الرجال الروس بصور أشجار وأشكال شتى، «ومن ظفر الواحد منهم إلى عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك».
ووصف ابن فضلان نساء الروس، «فكل امرأة منهم فعلى ثديها حُقّة [حلقة] مشدودة إما من حديد، وإما من فضة، وإما نحاس، وإما من ذهب، على قدر مال زوجها ومقداره. وفي كل حُقّة حلقة فيها سكين مشدودة على الثَّدى أيضاً. وفي أعناقهن أطواق من ذهب وفضة؛ لأنّ الرجل إذا ملَكَ عشرة آلاف درهم صاغ لامرأته طوقًا، وإن ملك عشرين ألفًا صاغ لها طوقين، وكذلك كل عشرة آلاف يزداد طوقًا لامرأته. فربّما كان في عنق الواحدة منهن الأطواق الكثيرة».
وقال: إنهم يجتمعون على السكنى «في البيت الواحد العشرة أو العشرون والأقل والأكثر. ولكل واحد سرير يجلس عليه، ومعهم الجواري... ».
ذكر ابن فضلان معاملاتهم مع المريض والسارق أو اللص، فقال «وإذا مرض منهم الواحد [ضربوا له خيمة] ناحية عنهم، وطرحوه فيها، وجعلوا معه شيئًا من الخبز والماء، ولا يقربونه ولا يكلمونه، [بل لا يتعاهدونه] في كل أيام مرضه، لا سيما إن كان ضعيفًا أو مملوكًا. فإن برئ وقام رجع إليهم وإن مات أحرقوه، فإن كان مملوكاً تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير. وإذا أصابوا سارقاً أو لصاً داءوا به إلى شجرة غليظة وشدّوا في عنقه حبلاً وثيقاً، وعلقوه [فيها، ويبقى معلقاً] حتى يتقطع [من المكث] بالرياح والأمطار». وأسهب ابن فضلان في وصف مراسيم حرق الموتى، «إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أموراً أقلها الحرق».
وبحسب المستشرق الروسي كراتشكوڨسكي، فإن ابن فضلان، «يقدم صورة حية للظروف السياسية في العالم الإسلامي والعلاقات بين بلاد الإسلام والبلاد المتاخمة لها في آسيا الوسطى أو الأصقاع النائية التي كانت تُمثِّل أطراف العالم المتمدن آنذاك، مثل حوض الفولغا. وتحفل الرسالة بمادة إثنوغرافية قيمة جدًّا ومتنوعة بصورة فريدة، وهي تمسّ عددًا من القبائل التركية البدوية القاطنة في آسيا الوسطى وعددًا من الشعوب التي كانت تلعب آنذاك دورًا أساسيًّا في تاريخ أوروبا الشرقية كالبلغار، والروس، والخزر. كما لا يمكن إنكار قيمتها الأدبية وأسلوبها القصصي السلس ولغتها الحية المصورة التي لا تخلو بين آونة وأخرى من بعض الدُّعابة التي ربما لم تكن مقصودة».
وكتب المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي في هذا الصدد يقول: «إن ابن فضلان كان دقيق الملاحظة، فوصف حفلة دفن زعيم روسي وصفًا دقيقًا حتى استطاع أحد الرسامين الروس منذ خمسين عامًا أن يرسم ــ اعتمادًا على هذا الوصف ــ صورة لهذا المشهد الرهيب تزيّن الآن أحد جدران المتحف التاريخي في موسكو».
روسيا المسيحية:
في اعقاب اعتناق روسيا الديانة المسيحية الأرثوذكسية، حوالى عام 988م، في عهد أمير كييڤ ڤلاديمير سڤياتوسلاڤيتش الملقب الكبير (980-1015م)، والذي عُرف لاحقاً بالقديس ڤلاديمير، ظهر الاهتمام بالمعطيات والمعلومات التاريخية والدينية والثقافية الكثيرة التي وردت في «الكتاب المقدس» عن الأراضي المقدسة، وباتت فلسطين حاضرة دائماً في الوعي الروسي. وتعرَّف المؤمنون إلى أسماء الأماكن المقدسة ذات الصلة بـ«الكتاب المقدس»، وتغلغلت في أعماق العقل الروسي أهمية فلسطين كمكان «كتابي مُتخيل» في نشر تعاليم الأنبياء والرسل إلى العالم الخارجي. فقد حفرت الأراضي المقدسة عميقاً في وجدان الشعب الروسي، فكانت هي الضوء المنبعث من الشرق، وارتبطت الثقافة الروسية بأواصر روحية خفية لا تنفصم مع الأراضي المقدسة. يرى كاتب روسيا العظيم فيودور دوستويفسكي: أنه و«منذ أن ظهر الشعب الروسي، ومنذ تعمَّدت الأرض الروسية، اندفعت قوافل الحجاج الروس نحو كنيسة القيامة».
في هذا الصدد يقول مؤرخ الكنيسة الفليسوف الروسي نيقولاي نيقولايفيتش ليسوفوي: «ففي العالم كله يُدعى الإنسان الروسي باسم إنجيلي، إيفان (يوآن). وفي عيد ظهور الرب تصبح جميع أنهار روسيا هي نهر الأردن. وقد كانت منذ القديم جميع الأواني التي تحمل بها الأسرار المقدسة تُدعى صهيون أو أورشليم. وبعد معمودية روسيا، حين استفاقت الروح الروسية بعد غفوة وثنية طويلة لتدخل في الحياة المسيحية، وأول مرة، وللأبد تغلغلت في تلك الروح ــ مع الإنجيل والصلاة والأيقونة ــ الكلمات والأسماء البعيدة عنا والقريبة إلينا منذ طفولتنا: أرض الميعاد، والقدس، بيت لحم».
«الكتاب المقدس» هو المرشد!
تشير الباحثة الروسية ميلينا روجديستفينسكايا إلى أن النص التوراتي حدد «الأسلوب ونظام الصور والرموز والتشبيهات التي اعتمدها الحجاج الأوائل في كتاباتهم عن فلسطين».([12]) ومارس «الكتاب المقدس» تأثيره على الحجاج وكيفيه تصور فلسطين كـ«أرض مقدسة»، فـ«لم تكن رحلات الحجاج رحلات في الجغرافيا فقط، بل في الزمن أيضاً. ففلسطين [بالنسبة إليهم] هي أرض أحداث الكتاب المقدس، إنها الأرض التي عاش عليها يسوع المسيح. وعندما كانوا يرون إلى الأسوار والمعابد والينابيع والمغاور وغيرها من الأماكن، كان يتراءى لهم وكأنهم يعيشون في زمنه، زمن المخلص. وكما الجنة، كذلك هي الأرض المقدسة أبدية».
فالمستشرقون «لم يولوا تأثير التصورات التوراتية في إدراك الحجاج العالم الحقيقي اهتمامًا كافيًا؛ فقد أهملوا في دراساتهم الثقافة العربية الشعبية، التي نشأت وتطورت حول الأماكن المقدسة. كما أن هؤلاء المستشرقين تجاهلوا في الغالب تطور فهم الحجاج أنفسهم للعالم. من الواضح أن التوراة مارست تأثيرًا خاصا على كتابات الحجاج وعلى رؤيتهم لفلسطين. (...) فقد حجبت الصورة التوراتية الواقع الفعلي إلى حد بعيد».
روسيا في الأرض المقدسة:
هنا يجدر التذكير أنه، منذ البدء، على مدى القرون، كانت الأرض المقدسة تجذب الروس بجميع أطيافهم من الشعب والكنيسة والدولة والسلطة على حد سواء. ويرى مؤرخ الكينسة الفيلسوف نيقولاي نيقولايفيتش ليسوفوي، أن «من أوائل من زار القدس بدوافع دبلوماسية وبقصد الحج أيضاً، هي الدوقة الكبرى أولغا من كييف (عام 957، وفي مصادر أخرى عام 946). وكانت الدوقة الكبرى أول أميرة روسية تتعمّد في القدس».
إن كل ما ذكر في المدوّنات الروسية عن القدس وفلسطين في القرن الحادي عشر ينحصر في المذكرات الأدبية، ومنها على سبيل المثال مراجع المحفوظات البيزنطية لجيورجيي أمارتول. خلال فترة امتدت ثلاثين عاماً في القرن الحادي عشر (1060- 1090) لا نجد حتى تلميحاً واحداً لأية علاقة بين روسيا والأرض المقدسة. والأمر ذاته صحيح بالنسبة لغير ذلك مع استثناء مميز واحد.
فالملاحم الشعرية الروسية القديمة، ومنها (مجموعة فلاديمير)، تنقل أنباء فرق الحجاج التي أمت الأماكن المقدسة، في نهاية القرن العاشر ــ بداية القرن الحادي عشر (وغالباً ما تضم الفرق أربعين حاجاً). كما وتتحدث إحدى الملاحم الشعرية، مصدرها نوفغورود، عن رحلة فاسيلي بوسلاييف، الذي خرج في ركب الحج، مع أربعين تقياً من زملائه، إلى الأرض المقدسة (للسجود أمام ضريح السيد المسيح والتمسَّح بالقداس الأبدي والاغتسال في نهر الأردن الطاهر)، وظفروا في تحقيق بغيتهم في قضاء فريضة الحج، والتبرك بزيارة القدس الشريف، وسائر البقاع المقدسة. كذلك تم العثور في الملاحم الشعرية الروسية على معلومات عن تجارة الروس مع البلاد العربية، وفيها يُذكر الذهب والنُحاس العربي، والعمران، والزخرفة. وأيضاً تشير السجلات التاريخية، إلى أن جموع من المؤمنين الروس قاموا برحلات إلى العتبات المقدسة، في القرن الحادي عشر وزاروا مدناً في بيزنطة وفلسطين. وتسمّي منهم الرحال أنطون الذي بدأ رحلتهُ عام (1013م) من الجبل المقدس وعاد إلى كييف عام (1017م)، و(أنه حلق شعره في أفون / اليونان)، كما ورد ذكر هذه الرحلة في المدون التاريخي لنسطور عام (1051م). ورحلات فارلام، وإيغومين دميتروفسكي، اللذين أمّا الأرض المقدسة لأداء فريضة الحج عام (1022م).
يستند الباحث في معهد الاستشراق لأكاديمية العلوم الروسيّة، أ. ف. نازارنكو، "إلى خبر معروف أورده نيستيروف في كتابه (حياة القديس فيودوسي {ثيودوسيوس} بيتشيركي)، الذي وضعه في العام 1080، عن لقاء بين فيودرسي الشاب وأبناء صفه كأنه يلتقي مع الحجاج المتوجهين إلى الأرض المقدسة: عندما سمع عن الأماكن المقدسة، ..، تمنى السفر إلى هناك والانحناء للرب. وبدأ يصلي للرب قائلاً: (يا ربي ..، استمع إلى صلاتي وهبني ان أزور أماكنك المقدسة وأنحني أمامها). هكذا ظل يردد في صلاته. وحدث مرة أن جاء إلى مدينة كورسك جوّالون غرباء. وعندما شاهدهم هذا الشاب السعيد الحظ فرح بهم وانحنى لهم وسألهم من أين يأتون وإلى أين يذهبون. أجاب الجوّالون أنهم آتون من مدينة القدس وإذا اراد الله فإنهم سوف يعودون إليها. عندئذ أخذ القديس يتوسل إليهم أن يسمحوا له بأن يكون رفيق دربهم".
لكن أول الحجاج المعروفين هو القديس فارلام
(Varlaam)، الذي كان راعياً للدير في كييف، وأنه زار القدس سنة 1062م. ([18]) وفي أول عام لدخول الصليبيين إلى القدس، توفيت في المدينة المقدسة الدوقة الكبرى الروسية غيتا هارالدوفنا زوجة فلاديمير مونوماخ. ([19]) إلى جانب هذا تخبر سجلات إيباتييفسكي أن المطران غيورغي، زار مدينة القسطنطينية، عام 1073م ، بعد زواج الأمير فسيفولود، نجل عاهل كييف الأمير ياروسلاف، من ابنة إمبراطور بيزنطة. ويُذكر أن الراهب يفريم كاجنيك أقام في القسطنطينية، لإدارة شؤون أمير كييف إيزياسلاف، وفي وقت لاحق أصبح يفريم أُسقف بيرياسلاف. وتنقل السجلات الروسية كيف التقى رجل الدين الأرثوذكسي فيودوسي بيتشيرسكي، في مدينة كورسك الروسية، عام (1102م)، بالحجاج العائدين من زيارة الأماكن المقدسة، في فلسطين، ومصر، والقسطنطينية.
وفي عام 1167 زارت القدس بقصد الحج والموت هناك لتدفن فيها ممثلة أخرى من عائلة ريوريكوفيتش، وهي الأميرة المقدسة يفيروسينيا بولوتسكايا مبشرةُ بيلاروسيا.
ليس هدفنا في هذه الدراسة تقديم كشف كامل عن كافة المعطيات المتوافرة والمتعلقة بعلاقة روسيا بفلسطين، نحن نهدف إلى أمر آخر، وهو، أن الدخول الروسي إلى فلسطين، كان باعتبارها أرض «الكتاب المقدس»، وكانت فلسطين كمكان «كتابي مُتخيل»، آنذاك، عاملاً أساسياً ومؤثراً في الحياة الروحية الروسية، ما أدى إلى ظهور طبقة من «الحجاج الجوالين الحالمين»، والوصف الأشمل لمثل هذه الرحلات في الأدب الروسي القديم ورد في «حياة ورحلة حج رئيس الدير دانيال من أرض الروسيا» (1106- 1107).
** * كاتِب وباحِث فلسطيني
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "الحياة واشنطن"
هاتف: 00961-81771671
البريد الإلكتروني: info@darhaya.com